نجحت الأنظمة العربية في أن تخرج القضية الفلسطينية وكل مكوّناتها من العلاقة بينها وبين المعارضة السياسية، أو بينها وبين الشعوب، وتالياً استطاعت عقب اتفاق أوسلو أن تخرج القضية وأركانها من معادلة الاقتراب من إسرائيل. فلم يعد المرور إلى تل أبيب بحاجة إلى استدعاء القضية الفلسطينية وتسويتها كما كان يدّعي محمد أنور السادات، بل صار التطبيع مع العدو سلساً، أما ما يحدث الآن من استدعاء عربي للقضية الفلسطينية ــ كما يحدث خليجياً وعلى وجه التحديد سعودياً ــ فهو من أجل نقل التطبيع من السرية إلى العلنية برعاية فلسطينية.
لكن، عملياً، تمكن العرب من تجاوز القضية الفلسطينية مبكراً عندما اختلفت مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية في الموقف من الصراعات العربية، رغم أن الفلسطينيين استغرقوا كثيراً في القول بتجنّب التدخل في الشؤون العربية الداخلية، وذلك كله كان صدى؛ فعندما تريد العواصم العربية إقحام الفلسطينيين، فإنها تقحمهم، وهم يقبلون ذلك بدراية أو لا، وهكذا تفعل «حماس» الآن؛ إنها تعيد إنتاج تجربة «فتح» بكل تفاصيلها، مع اختلاف الحيثيات والعناوين.
ففي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، عندما اجتاح العراق الكويت (بعضهم يرونه اجتياحاً وآخرون غزواً أو ردعاً أو حتى تحريراً)، لم تتوقف إحداثيات الأزمة الخليجية عند الاختلاف في توصيف ما حدث، لكن الأمر تدحرج، فلاحت للأنظمة العربية فرصة شق الحركة الفلسطينية. وللأسف، مرّر الفلسطينيون الأمر؛ ففي الوقت الذي انحازت فيه «فتح» إلى العراق، قررت «حماس» الانحياز إلى الكويت، وفي الوقت الذي ابتعدت فيه الأولى عن السعودية، اقتربت الثانية إلى الحد الذي استقبلت فيه سعودياً بحفاوة، لا كبديل فقط، ولكن نكاية في «فتح» و«منظمة التحرير» وياسر عرفات. كانت تلك المرة الأولى التي توضع فيها الحركة الإسلامية ممثلة بـ«حماس»، في مواجهة «المنظمة» ممثلة بـ«فتح»، وكانت مواجهة بدعم عربي رسمي. فبات التيار الإسلامي الفلسطيني في مواجهة الوطني، وتدحرج الأمر بعد ذلك حتى وصل المشهد الفلسطيني إلى ما وصل الآن.
هكذا شقّ النظام العربي الحركة الفلسطينية المنشقة من الأصل بين إسلاميين ووطنيين، وهو الأمر الذي أفضى لاحقاً إلى التحكم العربي في إحداثيات المشهد الفلسطيني، إذ لن يستطيع الإسلاميون الفلسطينيون بعد ذلك اجتراح فعل سياسي مستقل من دون الاستدارة إلى الأنظمة العربية، وهم يعلمون فداحة ثمن الاستدارة، وأقله قبول المبادرة السعودية للتسوية، أشاء الإسلاميون أم رفضوا.
في المقابل، كان الوطنيون الفلسطينيون بقيادة ياسر عرفات يجيدون القفز بين العواصم وبين الأولويات، لكن الأمر الآن مختلف تماماً، وقد ضاقت خيارات الإسلاميين في فلسطين، إذ إن ذهاب «فتح» إلى النظام الإقليمي العربي كان مريحاً لأن صناعة «فتح» وتقويتها مطلب ومكسب للأنظمة العربية. وعندما انتهت صلاحية «فتح» وأدخلت نفق أوسلو برعاية عربية تارة وضغوط عربية تارة أخرى، استدار العرب إلى «حماس» التي بدأت تعيد المسارات التي مرت بها «فتح». الفارق أن «فتح» سارت ببطء، لكن «حماس» تقفز وتحرق مراحل كثيرة، وفي الوقت الذي ابتزت فيه «فتح» الأنظمة العربية، حدث العكس مع «حماس»، فباتت الأنظمة هي التي تبتزها.
ما يحدث مع «حماس»، أو للدقة ما فعلته «حماس» وصنعته في علاقاتها الإقليمية، خطير، ولم تؤدّ حتى الآن تبعاته إلى نضوج مثلما حالة «فتح»، علماً بأن الأخيرة تلاشت ككل من المشهد الفلسطيني، فصارت «فتح» ــ دحلان و«فتح» ــ عباس و«فتح» ــ القدومي و«فتح» ــ الانتفاضة. ومع أن من المستبعد في الوقت القريب أن تصير هناك «حماس» ــ الضفة («حماس» الشاعر) و«حماس» ــ الخارج و«حماس» ــ السجون و«حماس» ــ المقاومة، فإن ذلك سيبقى أحد أهم الأهداف التي يريدها النظام الرسمي العربي اليوم أو غداً، خاصة إذا كانت مقتضيات الانفراجة مع الأنظمة العربية القبول بنقل التطبيع السري إلى علني، والمرور إلى أوسلو بتسميات وتوصيفات جديدة، كأن يقال مثلاً أن توافق «حماس» على مبادرة السلام السعودية، خاصة في ظل الوثيقة السياسية الجديدة للحركة.
في الزمن الماضي، أفضى خروج «فتح» من الوصاية العربية (الاقتراب من العراق والابتعاد عن السعودية) إلى نتائج كارثية على الحركة نفسها، و«حماس» الآن تعيد السيناريو لكن بتكلفة خطيرة، خاصة أنه في زمن عراق صدام كان الخليج واحداً، أما حالياً، فالصراع بات بين ممالك الخليج نفسها، بل لأول مرة صار اقتراب طرف فلسطيني من دولة عربية ما يفضي إلى غضب فلسطيني داخلي وغضب عربي خارجي. فاقتراب «حماس» من مصر أفضى إلى غضب السلطة من القاهرة، واقتراب الإمارات ــ لو شكلياً ــ من «حماس» أفضى إلى إغضاب قطر.
والأخطر أنه عندما كان النظام الإقليمي العربي يُضيّق على «فتح»، كانت الأخيرة تشتبك مع إسرائيل انطلاقاً من قواعدها في الدول العربية النكدة، وكان لها ظهير ببعض الأنظمة أحياناً، فيما يوفر لها الاشتباك مع إسرائيل غطاءً، وأحياناً تتحمل الأنظمة العربية تكلفة الرد الإسرائيلي. أما «حماس» فلا يمكنها أن تشتبك الآن مع إسرائيل كمخرج أو كورقة ضغط على النظام العربي، بل إن فعل ذلك سيعيد علاقاتها بالدول العربية إلى مرحلة صفرية أو سلبية، كذلك فإن الردّ الإسرائيلي سيكون على غزة مباشرة وعلى الحركة وبنيتها، ولن تتضرر الأنظمة العربية إطلاقاً، ولن تغضب منها إسرائيل؛ وتجربة عام 2008 خير دليل، عندما أعلنت تسيبي ليفني الحرب على القطاع من قلب أم العواصم العربية.
صحيح أن «حماس» بحاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتها وتحديد محددات سياساتها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية، ولا مانع إطلاقاً من إضفاء نوع من البراغماتية، لكن من دون التخلي عن أدبيات أنها حركة مقاومة إسلامية، لأن أيّ علاقات تقوم على الانتقاص أو على حساب تأجيل أو تراجع أو تغليب أي خيار غير خيار المقاومة، سيفضي إلى تلاشي صاحبه من المشهد، وفي اليوم الذي تترك فيه الحركة سلاحها أو تعطله، لن يراها أحد بملء العين، كما أنها الجدار الأخير في القضية الفلسطينية المعاصرة التي تمر بمرحلة تحول تاريخية في غاية الخطورة، وسط بيئة عربية غير سليمة.

بينما كانت «فتح» تبتزّ الأنظمة العربية، حدث العكس مع «حماس»


أمر آخر: عرفات لم يكن يذهب منفرداً ووحيداً إطلاقاً حتى لو كان الفصيل الذي يجلبه معه لا يتعدى في تكوينه أميناً عاماً وأمين سر فقط، لكن «حماس» تتّصف بالانفراد في كل تصرفاتها، ولا تطلع من حولها على غالبية ما يدور بمستوى مقبول من الوضوح والصراحة. كذلك فإن أكثر قراءة غير صائبة النظر إلى أن التقارب بين «حماس» والعواصم العربية سيفضي إلى خدمة المقاومة وتقويتها.
ورغم إيجابية تحسين العلاقة بمصر، بل المطالبة بذلك وطنياً، فإن الزيارة الحالية التي يجريها وفد «حماس»، ويراد لها أن تكون «فتحاً» في جدار النظام الإقليمي العربي، تبعاتها وإحداثياتها خطيرة، لأن الاقتراب الفعلي والحقيقي من القاهرة يعني لاحقاً تسجيل ملاحظات لدى كل من الدوحة وأنقرة وطهران، كما أنه لن يساعد في تقدم العلاقة بدمشق كثيراً. والمشكلة أنه سيبقى اقتراباً محكوماًَ بالمحدد الأمني، وهذا لا يعني علاقات كاملة، لكنها كافية لإغضاب أبو مازن بما قد يفضي إلى إجراءات عقابية جديدة بحق غزة. وهذه أيضاً سابقة. فلم تكن علاقات «فتح» بالنظام العربي تغضب أيّ طرف فلسطيني، ولم يكن الاقتراب من طرف أو الابتعاد عنه يفضي إلى إجراءات عقابية، على الأقل فلسطينياً.
«فتح»، رغم مأساوية تجربتها، لم تكن تبني علاقاتها على أبعاد أمنية حصراً، بل ثمة ما يشبه العلاقات الندية، وهذا ما لم تستطع «حماس» حتى الآن اجتراحه، لا لعجزها، ولكن لأن الحد الأدنى من الظروف لم يتوافر لها. أيضاً كان لدى «فتح» معاناة من عقدة الوطني والإقليمي أو القُطري والفلسطيني، ولكن «حماس» مختلفة، وقدّمت نفسها كجناح من أجنحة «الإخوان المسلمون»، واستغرقت في الأممية على حساب الوطنية. وعندما استدركت ذلك، كانت تكلفة الأمر كبيرة جداً، ووجودها الآن في القاهرة يعني تحت عنوان البعد الوطني لا الأممي، ولن يتعدى كونه تقارباً مؤقتاً مقابل ثمن كبير دفعته الحركة.
إن التحدي الأكبر أن «حماس» تذهب منفردة في تقرير مصير المشهد الفلسطيني عموماً وقطاع غزة على وجه التحديد، ومحدداتها وخياراتها وحساباتها مختلفة تماماً عن باقي الفصائل. والمشكلة الكبرى أنها لا تزال حتى اللحظة تغلّب نظرية الضباب والخوف في النظر إلى الشركاء.