كان يمكن أن ينتهي الكلام عن العلاقة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية مع توقيع ورقة التفاهم بينهما، وأن يطوى الحديث عن الخلاف السياسي بعد اللقاءات الثنائية التي عقدها العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، ومن ثم انتخاب عون رئيساً للجمهورية. لكن ما ظهر منذ تأليف الحكومة وصولاً الى فورة التصريحات والتلميحات المتبادلة في الايام الماضية، أعاد الخشية من أن يصبح الشيطان الكامن في تفاصيل العلاقة بين الطرفين أقوى من عنوان وطني أو مسيحي صرف ارتضياه لمنع أيّ خلاف بينهما.
فالاكتفاء بالإصرار على أنهما متمسكان بورقة التفاهم وبأن موضوع الشراكة المسيحية في الحكم وعدم التفريط بحقوق المسيحيين لا يزال همّاً جامعاً بينهما لا يتنازلان عنه لأن اتفاقهما عليه صلب وقوي، لم يعد يغطّي وحده، على أهميته، تضاعف الذبذبات على مختلف المستويات.
ثمة مؤشرات وملاحظات في التيار الوطني الحر تختصر حال العلاقة الثنائية في أعقاب ملامح توتر ترتفع حدته وتخفت تبعاً للتطورات والنقاط العالقة، من تأليف الحكومة الى ملف التعيينات العالق، وصولاً الى الموقف السياسي الجامع. والمفارقة أن هذا التباين الذي يعترف به الطرفان لم يدفع بعد قادتهما الى عقد لقاء على مستوى الصف الاول من أجل حصر تداعياته، فلا يتحول مجدداً صراعاً سياسياً يومياً، وكأن الفريقين يستفيدان من حالة التباين هذه، وهما يستعدان لحشد قاعدتيهما على أبواب الانتخابات النيابية.

تجد القوات نفسها في موقع الهجوم المضاد دائماً كي لا تتحول طرفاً هامشياً في السلطة



وفي وقت تتشعب فيه خلافات الطرفين على أكثر من خط، تنطلق مقاربة التيار من أن القوات لم تضاعف وتيرة تمايزها وانتقادها إلا حين ضمنت قانون الانتخاب الجديد وإجراء الانتخابات النيابية عام 2018 على أساسه، لأن هذا القانون يحررها من أي تفاهم مع التيار ويجعلها متفلتة من أي تحالف، ويصبح في إمكانها، وفق ذلك، اللعب على أداء التيار على أساس ملاحظات تبديها في صورة مستمرة. والقوات في هذا المكان تعتبر نفسها متقدمة على التيار، كونها أسهمت في صياغة هذا القانون وجعله حقيقة بعد انتظار سنوات.
يحكم علاقة القوات بالتيار اليوم مستويان، رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوزير جبران باسيل. وبحكم الأمر الواقع، وبناءً على رغبة قواتية أكيدة بتحييد رئيس الجمهورية عن أي تجاذب، تصبح العلاقة مع باسيل هي الأكثر تأثيراً، كونه «الوزير الاول» والحاضر الدائم الى جانب رئيس الجمهورية، وكوزير للخارجية ورئيس للتيار، يغزل تفاهماً واسعاً مع ركيزتين هما حزب الله والرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل، بما يمثل هذا التفاهم من تأثيرات مباشرة في ملفات حكومية وسياسية واقتصادية. يضاف الى ذلك أداء باسيل «الاستفزازي» الذي يذهب دوماً الى الحدّ الاقصى، متجاوزاً السياسة التقليدية. والقوات التي تشكو من جنوح باسيل نحو الاستئثار بكل شيء، كما حصل داخل التيار ذاته، تجد نفسها في موقع الهجوم المضاد في صورة دائمة، كي لا تتحول طرفاً مسيحياً هامشياً في السلطة؛ فهي تتصرف على أنها «شريك النص» في السلطة، وهذا ليس واقع الحال، لأن هناك رئيساً للجمهورية وهناك التيار الوطني، وكلاهما يشكلان حالة متقدمة سياسية أولى. وهذا ترجم أثناء تشكيل الحكومة، لكن القوات لم تقتنع على مدى الاشهر الماضية بأن هناك أول وثانياً في الشارع المسيحي، وفي الحكم أيضاً. لعل هنا مكمن إصرار جعجع في خطبه الاخيرة وتركيزه الدائم على أهمية الدور الذي أدّاه للمساهمة في وصول عون الى رئاسة الجمهورية. لكن وإن كان التيار لا يعترف لجعجع «بكل» هذا الفضل بل بجزء منه، فإنه أيضاً لا يجد حراجة في القول إن جعجع كان ذكياً كفاية ليقتنص الفرصة ويدخل في تسوية رئاسية حكومية، وهو الامر الذي لم يفعله مثلاً حزب الكتائب. لكن هذا لا يعني تسليم التيار للقوات بكل ما يمكن أن تطالب به، رغم أن مصادر في التيار لا تنكر أن ثمة ملفات كان يمكن تجاوزها وعدم استفزاز القوات فيها، كقضية التعيينات في الكازينو مثلاً.
أبعد من ذلك، ولأن التفاهم على الحصص المسيحية واستعادتها في الحكم صلب، فإن باقي الملفات تبقى متحركة، إلا أن المشكلة هي في انعكاس هذا التباين يومياً في كثير من المواضيع الحيوية؛ فالقوات تسلط الضوء على تمايز أداء وزرائها، غامزة من قناة الوزراء الآخرين، وتصوّب أيضاً على دورها في محطات أساسية، كقانون الانتخاب، وعلى ملف الكهرباء والأداء الحكومي والوزاري، من دون التخلي عن موقفها السياسي. إلا أنها تبدو أيضاً كمن يحاول تعويض أمر أساسي، وهو أن التيار الوطني استطاع سحب رئيس الحكومة وتيار المستقبل من الحلف معها، بحسب ما ظهر في محطات أساسية داخل الحكومة وخارجها، عطفاً على عدم وجود علاقة أصلاً بين القوات وحزب الله، الأمر الذي يجعل لعبة التوازنات جانحة نحو التيار في صورة طبيعية أكثر، إضافة الى أن التيار نجح في استقطاب حيوية سياسية واقتصادية، وحرّك عجلة الادارة والحياة الديبلوماسية والسياسية، ودعم الجيش في معركته. وهو وإن تلقّى انتقادات على بعض من انتقاهم لهذا المنصب أو ذاك، إلا أن المحصلة بالنسبة اليه هي أنه في الدرجة الاولى ملأ كرسي الرئاسة وأعاد لبنان الى طاولات دوائر القرار الدولي واهتماماتها وثبت الاستقرار الداخلي.
لا يمكن القفز فوق التباينات بين الطرفين، لكن إحدى حسنات ورقة التفاهم بينهما أن هذا الخلاف سيبقى محصوراً في الشق السياسي منه، كما بين كل تيارين سياسيين، ولن يتحول عداءً سياسياً. وهما يستعدان للانتخابات كلّ من موقعه السياسي والشعبي، من دون أن تكون تحضيراتهما قائمة على أساس شعارات عدائية، خصوصاً أنهما موجودان في حكومة واحدة، لا يقتنع التيار لحظة واحدة بأن القوات يمكن أن تتخلى عن وجودها فيها مهما تنوّعت الخلافات وتعدّدت وجهات النظر، ولا سيما في الشق الاقليمي. فحتى الآن، ورغم التمايز في النظرة الاقليمية الى تطورات سوريا وارتداداتها، ثمة مسلمات لا تبدو القوات متحمّسة للقفز فوقها، بحسب التيار، ولا يتوقع تبعاً لذلك أن تحوّل موقفها الاقليمي وعلاقاتها العربية التي لم تتخلّ عنها لمصلحة أي تدهور داخلي سلبي، لا حكومياً ولا سياسياً. ما عدا ذلك سيكون من عدة الشغل قبل الانتخابات النيابية، وهذا حديث آخر.