لا شك أن الاشتباك السياسي بين القوى الفاعلة المشاركة في التسوية الرئاسية، التي أرست الاستقرار الداخلي، بدا يأخذ أوجهاً عدة منذ أشهر قليلة. تارة، تعلو الحدّة السياسية وتقسو التعابير المستخدمة، فيكاد الاشتباك ينذر بتطيير التسوية، وتارة أخرى تخفت لهجة الذين يصعّدون وتنطوي صفحة الخلاف الى حين لتعود وتنفجر مجدداً.
وفي كل مرة، يأخذ الخلاف السياسي أبعاداً مختلفة ويطرح تساؤلات عن احتمال ثبات هذه الهدنة واستمراريتها، حين يلعب الجميع على حافة الهاوية، فلا ينجز ملف أو تعالج قضية إلا بشق النفس، وفي اللحظات المصيرية الأخيرة، بحسب ما جرى في أكثر من محطة، كقانون الانتخاب، وسلسلة الرتب والرواتب وتمويلها.
اليوم، لا يمكن إلا ملاحظة توقيت هذا الاشتباك الأخير، حول مواضيع داخلية بحت أو تلك المرتبطة بالوضع الإقليمي والسوري تحديداً، وتتويجه بالكلام المتبادل والبيانات المتضاربة للقوى المشاركة في الحكومة عن لقاء وزير الخارجية جبران باسيل مع نظيره السوري وليد المعلم. إذ تزامن مع دخول السعودية علناً على خط الاشتباك الداخلي، من خلال سفر قيادات من قوى 14 آذار إليها وتسمية سفيرها الجديد في بيروت. وهذه العلنية مقصودة في إظهار الدور السعودي الذي لم يختف يوماً، لكنه يبرز بقوة أو يتراجع بحسب الظروف الإقليمية والمحلية، في سعي واضح لوضع أطر محددة للوضع اللبناني الداخلي.

العبث بالتسوية وفرط الحكومة في ظل انقسام حاد قد يطيحان الانتخابات النيابية


ويمكن وفقاً لهذه الصورة الكلام عن احتمالات ما بعد هذا التوتر الأخير، الذي يتحدث جميع الأفرقاء عنه، لكنهم في الوقت نفسه يحاذرون المضي في مقاربته خشية تصور الأسوأ. ولأن جميع القوى السياسية تضع نصب أعينها الانتخابات النيابية، فتدرس الوضع الداخلي وتقاربه من هذه الزاوية، يُطرح احتمالان في ضوء ارتفاع منسوب التوتر:
إذا استمر الاشتباك السياسي على حاله، وهو مرجح لأن تتضاعف حدته، في ظل إصرار فريق 8 آذار على سلسلة من المواقف، ولا سيما في ما يخص ترتيب العلاقة مع سوريا، وإصرار السعودية على إظهار نيتها جمع معارضي حزب الله، فإن القوى السياسية المشاركة في الحكومة ستكون في مواجهة بعضها بعضاً. لأن هذه القوى مقبلة بعد أشهر قليلة على خوض الاستحقاق الانتخابي، والانتخابات تعني شد العصب الداخلي لجماهير الأحزاب والتيارات، ورفع مستوى الخطاب السياسي الى حده الأقصى، وخصوصاً في ضوء الاصطفاف الإقليمي المتجدد. فكيف يمكن إذاً للمشاركين في الحكومة الواحدة أن يتبادلوا الاتهامات السياسية ويتراشقوا الخطاب الناري لحشد المناصرين والمقترعين، من دون أن تتأثر الحكومة، ومعظم أعضائها مرشحون، فيعودوا إليها كل خميس للاجتماع وكأن شيئاً لم يكن، وإن ما يحدث على طاولة مجلس الوزراء لا يمت بصلة إلى خلافاتهم السياسية.
والأشهر الفاصلة عن موعد الانتخابات ستكون حساسة جداً، ولا سيما في صياغة التحالفات ورسم مصيرها. وفي ضوء استقبال الرياض رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل، لا يمكن استبعاد، وفق سياسيين مطلعين، أن تتغير خريطة التحالفات الانتخابية عما كانت عليه قبل أسابيع، فتترك الزيارة تأثيرات مباشرة على هذا الصعيد، ما يعيد وضع الحسابات الانتخابية مجدداً على الطاولة. من هنا، يمكن توقع استمرار التصعيد الحالي ربطاً بالتطورات السورية والعقوبات على حزب الله والحشد الخليجي والأميركي ضده، معطوفاً على استحقاق الانتخابات، ما يهدد في المحصلة النهائية مصير الحكومة. إلا أن تطيير الحكومة لن يكون في تلك الحالة خطوة منفردة لأن العبث بالتسوية وفرط الحكومة، في ظل انقسام سياسي حاد، قد يطيحان الانتخابات النيابية معها، وحينها يمكن تلمس قرار بإدخال البلد في متاهات مجهولة، باتت محور أحاديث الوسط السياسي وتساؤلاته عمن له مصلحة حالياً في تطيير الحكومة، السعودية أم إيران، ومن الذي يستفيد من نتائج هذا التطور على مستوى الحكومة والانتخابات، في حال حصوله؟ وأي طرف داخلي وإقليمي له مصلحة في إطاحة الانتخابات؟
اما الاحتمال الثاني فهو أن تغض القوى الراعية للتسوية الداخلية النظر فتسمح، تحت مظلة الاشتباك السياسي، بتشكيل حكومة جديدة للإشراف على الانتخابات، شبيهة بحكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2005، التي تألفت في ظل انقسام حاد بكل مفاصله، ما يترجم بحكومة خطابها السياسي مقبول بالحد الأدنى وبحكومة من غير المرشحين، تاركة للقوى السياسية التنافس للوصول الى مجلس النواب. فتبقى بذلك التسوية السياسية قائمة، إنما بوجوه جديدة، موقتة لحين موعد الانتخابات، ويستمر بذلك حفظ الاستقرار الداخلي، ويضمن إجراء الانتخابات من دون أي تأخير، فتمرر مجدداً مرحلة حساسة داخلياً في موازاة التطورات السورية والإقليمية المجاورة. فتنتج الانتخابات حينها حكومة جديدة، منبثقة من روحية التسوية الحالية، مع تعديلات تقتضيها المرحلة المقبلة.
والمفارقة أن خيار بقاء الحكومة في ظل توتراتها المستمرة من دون انقطاع، حتى إجراء الانتخابات لم يعد عنواناً جذاباً حتى للقوى السياسية نفسها، ما دامت هذه الحكومة لم تعد تُقنع حتى المشاركين فيها، ولا سيما أن أياً منهم ليس مستعداً لخفض سقف الاشتباك السياسي الحالي.