بإخراج رديء، أُخمدت فضيحة المناقصة الأولى لتلزيم إنشاء سجن مجدليا على أن تُلغى وتُعاد ثانية. يومها، أُبرمت تسوية لإطفاء الفضيحة، تقضي بفتح العروض المالية للشركات المؤهّلة، على أن يرِد إلى المجلس كتاب رسمي من وزير الداخلية نهاد المشنوق يطلب فيه إلغاء المناقصة وإعادتها.
وبالفعل، نُفّذت «التسوية» حرفياً، ثم أُطلقت المناقصة مجدداً وحُدّد لها يوم الجمعة الماضي (29/9/2017) موعداً لفضّ العروض. لكن المفاجأة أن مجلس الإنماء والإعمار قرر تمديد المناقصة لمدّة أسبوع. في اليوم نفسه، وفي توقيت ملتبس، تلقّى المجلس كتاباً رسمياً من وزير الداخلية يتمنّى فيه «اعتماد نتائج المناقصة السابقة»ـ مبرراً الأمر بـ«ضيق الوقت».
لمصلحة أيّ صفقة تأتي سلسلة الأحداث هذه؟

الفضيحة الأولى

الجزء الاول من فضيحة مناقصة إنشاء «سجن نموذجي في مجدليا ــ محافظة الشمال»، تطلّب إطفاؤه أكثر من خمسة أشهر. الفضيحة انكشفت في شباط 2017 ووثّقها وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد نقولا تويني في كتاب رسمي موجّه إلى مجلس الإنماء والإعمار، يشير فيه إلى أنه كان هناك «استبعاد استنسابي لبعض الشركات»، متمنياً على المجلس «إعادة النظر بقرار الاستبعاد لأن من مصلحة الدولة زيادة عدد المشتركين حفاظاً على التنافسية في العطاءات، ولفتح المجال للشركات التي تريد الاشتراك في المناقصة». تمنيات تويني تحوّلت مادة للسجال بين فريق يؤكد أن مطلبه ليس في محلّه مع وجود سبعة عروض تتنافس للفوز بالمناقصة، وآخر يعتقد بأن اشتراط المناقصة بضرورة أن تكون الشركات المتقدمة قد نفذت مشروعاً واحداً على الأقل بقيمة 40 مليون دولار خلال السنوات الخمس الماضية يعني حصر هويّة المشاركين بكبار المقاولين الذين اعتادوا الاتفاق على هوية الفائز سلفاً، بقيادة الأكبر حجماً بينهم. وهؤلاء يديرون دفّة المناقصات في مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الأشغال وبلدية بيروت، ولديهم ميولهم السياسية المعروفة، كذلك علاقاتهم مع أركان في مؤسسات الدولة النافذة.
جاء هذا السجال مع انطلاق عهد الرئيس ميشال عون، وتراكمت فوقه سلسلة من الانقسامات على الصفقات في مجلس الإنماء وخارجه. وقد وضع هذا الأمر المجلس في حالة إرباك، فلم يتخذ أي قرار في شأن مناقصة مجدليا التي أبقيت عروضها المالية مقفلة بعد استبعاد أربعة عارضين من أصل سبعة قيل إن الشروط الفنية لا تتوافر لديهم. وبعد أشهر نضجت «التسوية» التي أفضت إلى إطفاء الفضيحة وحفظ ماء جميع من تورط فيها، من مجلس الإنماء والإعمار نفسه الى وزارة الداخلية، الى آخرين من رجالات السلطة أو القطاع الخاص. وقد قضت بفضّ العروض المالية وإبلاغ النتيجة الى وزير الداخلية الذي يطلب بدوره من المجلس إلغاء المناقصة. وقد نفذ الأمر بشكل دقيق؛ فبحسب محضر جلسة مجلس إدارة مجلس الإنماء والإعمار في 27/7/2017، تبيّن أن لجنة فضّ العروض الفنية والإدارية اقترحت الموافقة على فتح ثلاثة عروض تعود إلى كل من: «هايكون» (57 مليون دولار)، «معوض ــ إدة» (51 مليون دولار)، «رامكو للتجارة والمقاولات» (52 مليون دولار).
وزير الداخلية ردّ على النتائج بالكتاب الآتي: «تسلّمت رسالتكم المتعلقة بنتائج فض العروض للشركات المتقدمة إلى مناقصة بناء سجن مجدليّا. ويهمني أن أوضح النقاط التالية:
أولاً: أظهرت نتائج فضّ العروض المالية بعد الفنيّة أن كل الإشاعات السياسية والاعلامية التي قيلت حول هذه المناقصة عارية عن الصحة تماماً، سواء بشأن الشركة «المفترضة» لربح المناقصة أو لجهة الأسعار «المفتعلة» المرتفعة.
ثانياً: ما حصل دليل إضافي على شفافية عمل مجلس إدارة الانماء والإعمار وحرفيته الجدية.
ثالثاً: رغم ذلك كله أتمنى عليكم إلغاء المناقصة، وإجراء مناقصة جديدة وفق دفتر الشروط نفسه، إفساحاً في المجال أمام بعض الشركات التي اشتكت بأن أوراقها لم تكن مكتملة حين جرت المناقصة السابقة وتنتظر أن تكون قد استكملتها الآن».

الفضيحة الثانية

كلام المشنوق كان واضحاً، فهو اقترح إجراء المناقصة وفق دفتر الشروط نفسه. لكن المجلس لجأ إلى «التفسير» للتعامل مع كتابه، فعقد اجتماعاً في 10/8/2017 وقرّر إجراء تعديلات على الشرط الذي كان محور فضيحة المناقصة في المرة الأولى. النصّ الأول للشرط المذكور كان يفرض على أيّ جهة تريد المشاركة في المناقصة أن تكون لديها إفادة خبرة تثبت تنفيذها مشروعاً واحداً قيمته على الأقل 40 مليون دولار في السنوات الخمس الماضية، وألا تقبل أي إفادة من متعاقد من الباطن، أي منع ائتلاف الشركات من تجميع الخبرة. أما التعديل الأخير على هذا الشرط، فقد قضى بأن تكون الخبرة لمبنى واحد أو مجمّع مبان بقيمة 40 مليون دولار، وأن يمنع قبول الإفادة من المتعهدين من الباطن أو من ائتلاف الشركات.

مجلس الإنماء لم
يبت بعد بطلب وزير الداخلية اعتماد نتائج المناقصة الملغاة
وعلى هذا الأساس أعلنت المناقصة في الصحف تاريخ 30/8/2017 على أن تفضّ العروض في 29/9/2017.
بعد هذا التفسير، بدا أن طريقة تنفيذ المناقصة لم يتبدّل فيها الكثير، إذ لم يسمح لأي من الشركات يأن تتشارك في ما بينها لتغطية هذا الشرط، رغم أن الكثير من الشركات لديها خبرة أعمال بقيمة 20 مليون دولار. ومن جهة ثانية، تبيّن أن هناك شركات أخرى قادرة على الإيفاء بهذا الشرط، لكنها لم تشترك في المناقصة الأولى بسبب «تأخّر» تصنيفها من قبل مجلس الإنماء والإعمار، مثل شركة «أبنية» المملوكة من نقيب المقاولين مارون الحلو. وبالتالي فإن هذا التعديل لم يوسّع المنافسة، إذ سحبت دفتر الشروط الشركات الآتية: «هايكون»، «مؤسسة قاسم حمود»، «رامكو»، «معوض ــ إدة»، «مان»، «حورية»، «نزيه بريدي»، «متّى»، و«أبنية».

«الداخلية» تتراجع

كان يفترض أن تفضّ العروض في 29/9/2017، إلا أنه قبل يومين من هذا الموعد، أي في 27/9/2017، قرّر مجلس الإنماء والإعمار تمديد فترة تقديم العروض لمدّة أسبوع من دون أيّ مبرّر. ونُشر إعلان التأجيل في الصحف في 28/7/2017. والأغرب أن المجلس تلقّى في اليوم نفسه كتاباً من المشنوق يتراجع فيه عن طلبه في الكتاب الأول قبل نحو شهرين، إذ تضمن كتابه المؤرخ في 27/9/2017 أنه يأتي إلحاقاً «لكتابنا الموجّه اليكم والمتعلق بنتائج فض العروض للشركات المتقدمة الى مناقصة بناء سجن مجدليا، وعطفاً على كتابكم رقم 4044/1 تاريخ 14/9/2017 المتعلق بفض عروض مناقصة مشروع إنشاء السجن النموذجي في مجدليا بتاريخ 29/9/2017، ونظراً لضيق الوقت والحاجة الملحة الى الإسراع في بناء السجن المشار اليه أعلاه، سيما وأن الاكتظاظ لدى الموقوفين والمحكومين في السجون اللبنانية لم يعد يُحتمل (...) فإن المراجعات من السلطات السياسية المتنوعة تدفعنا الى التمنّي عليكم النظر باعتماد نتائج المناقصة السابقة، وذلك بعد أن ثبت أن كل الإشاعات السياسية والاعلامية التي تم تناقلها حول هذه المناقصة جاءت عارية عن الصحة تماماً، سواء لجهة الشركة «المفترضة» لربح المناقصة أو لجهة الاسعار المفتعلة المرتفعة، علماً أن ما حصل في جلسة فض العروض المالية والفنية لدى مجلسكم هو دليل إضافي على شفافية عمل هذا المجلس وحرفيته الجدية». وختم المشنوق كتابه بالتمنّي على المجلس «صرف النظر عن السير في المناقصة المقررة بتاريخ 29/9/2017، والموافقة على إسناد مهام الإشراف الى الاستشاري ذاته الذي سبق له أن أعدّ الدراسات المتعلقة بهذا المشروع».

شراكات أعمال سياسية

أثار هذا الكتاب العديد من التساؤلات:
- لماذا استعملت عبارة «ضيق الوقت»، فيما المناقصة كان يفترض أن تفتح بعد أيام معدودة؟
- لماذا التزامن بين كتاب المشنوق وقرار المجلس تأجيل المناقصة لمدة أسبوع، وهل اكتشفت الداخلية الاكتظاظ في السجون حديثاً؟
- لماذا التأجيل طالما أنه لم يتقدم أيّ من العارضين بطلب تأجيل، ولم يكن هناك أيّ تعديل على دفتر الشروط؟
- لماذا العودة إلى نتائج المناقصة السابقة رغم أن المنطق يشير إلى أن فضّ عروض المناقصة الجديدة يعطي المنافسة بعداً أكثر جديّة، إذ إن السعر لا يمكن أن يكون أعلى من السعر الوارد في العروض السابقة التي فتحت والتي تعدّ أقل من تقديرات الاستشاري بـ10 ملايين دولار؟
- ألا يفتح هذا الأمر الباب أمام التساؤلات عن الشركات المقصود عدم إشراكها في المنافسة، والتي كان يمكن أن تقدّم أسعاراً أكثر تنافسية وجديّة؟
ـ لماذا تزايد الحديث بين المتعهدين عن شراكات سياسية واتفاقات بين المتعهدين لتنفيذ هذا المشروع وغيره؟
في الواقع، لم يتمكن مجلس إدارة مجلس الإنماء والإعمار من الموافقة على كتاب المشنوق. لكن التوقعات تشير إلى أن أعضاءه المعيّنين سياسياً يحاولون استجداء الولاء السياسي لإعادة تعيينهم أو لمنع إجراء تعيينات قريبة في المجلس، وبالتالي سيكونون مجرّد «عبيد» صغار عند الجهة التي تدير دفة الفساد بالشراكة بين السياسيين والمقاولين، علماً بأن هناك همساً بأن الكتاب جاء بعد رفض شركتي «أبنية» و«حورية» عروض التنحية، وأنهما قادرتان على المنافسة الجديّة.




مبالغات الاستشاري

أقرّ مجلس الوزراء إنشاء أربعة سجون في لبنان تتوزّع على المحافظات اللبنانية في جبل لبنان والشمال والجنوب والبقاع. القرار مبنيّ على تقرير أعدّته لجنة مختصة من عدد من ممثلي الإدارات الرسمية المعنية. وباستثناء النقاش الدائر بشأن إنشاء سجن جديد بدلاً من سجن رومية أو تأهيل السجن القائم حالياً، اتفق على إنشاء السجون التي يتوافر لها تمويل من بين السجون الثلاثة الباقية. وكان سجن مجدليا أول الخيارات بعدما توافر له تمويل من اعتمادات وزارة الداخلية. وبحسب مخططات التصميم الأوّلي الذي أعدّه الاستشاري، فإن هذا السجن يفترض أن يتسع لنحو ألف سجين بكلفة تقديرية تبلغ 60 مليون دولار.





استبعاد للمخالفين أو للمنافسين؟

في جلسة فضّ العروض الإدارية للمناقصة الملغاة، تبيّن أن شركة «مان» وضعت مغلّف العرض الإداري مع العرض المالي وقيمته 65 مليون دولار، أي أعلى من تقديرات الاستشاري بنسبة 8%. وتبيّن أن شركة «هايكون» قدّمت إفادة خبرة تثبت قيامها بأعمال إنشاءات قيمتها الإجمالية 60 مليون دولار، إلا أنها تعود لمشروع عمر المختار في البقاع، ما بدا أمراً مستغرباً، ولا سيما أن المشروع قديم ويعود إلى أكثر من خمس سنوات. ومن ملف شركة «حورية» تبيّن أن هناك خطأً في الكفالة المالية المقدّمة للمشروع. أما شركة «نزيه بريدي»، فلم تتمكن من إثبات تنفيذها مشروعاً واحداً بقيمة 60 مليون دولار، بل قدّمت مشاريع بناء متفرقة في منطقة عرمون، و«شركة قاسم حمود»، قدّمت إفادة خبرة تعود لتنفيذ مبنى في طرابلس وآخر في صيدا. هكذا استبعدت شركة مان وحورية وقاسم حمود ونزيه بريدي، وفتحت العروض المالية العائدة لشركة «هايكون» و«معوض ــ إدة» وشركة «رامكو».