في مدينة صغيرة تقع على البحر أبصرت ليلى العثمان النور. أمّها التي كانت تتمنى أن تُنجب صبياً، لم تتورّع عن محاولة رميها من النافذة... لكنّ تدخل الممرضة حال دون ذلك. «كتبت لي حياةً جديدةً. لم أغرق في البحر كما غرقت وسميّة»، تقول صاحبة «وسميّة تخرج من البحر». سيرة الولادة تلك، ستتسلل إلى كتابات الأديبة الكويتية، لتصبح أعمالها إعادة إنتاج دائمة للعنة الطفولة. ولدت العثمان عام 1943 في الكويت، ابنةً رابعة بعد ثلاث أخوات. بعد انفصال والديها، وزواج والدتها، أخذها والدها مع أخواتها. لقب «ابنة المرأة الأخرى»، جعلها تعيش حياةً قاسية مع زوجة الأب والأخوة غير الأشقاء. صمّمت على أنّها حين تكبر، ستصير إنسانة محبوبة. بدأت بالكتابة والرسم على الجدران باكراً... كانت تلك وسيلتها لتقاوم العذاب والضرب، وتنسى غياب الأب الموزّع بين بيوت عدة وزوجات.
دخولها المدرسة، مثّل نقلةً في حياتها. احتوت المدرِّسات مواهبها. صارت بطلة مسرحيات بسيطة، كانت تكتبها لفريق التمثيل في المدرسة.

«غالباً ما يسألونني لو لم تكوني كاتبة، ماذا كنت ستختارين؟ وأجيب دوماً: ممثلة مسرحيّة»، لكنّ صاحبة «ليلة القهر» تلقّت الصفعة، حين قرر والدها إخراجها من المدرسة. «جرت العادة في الكويت قديماً أن تلزم البنت المنزل، بعد زواج الأخوات الأكبر سناً، كي يعرف الناس ويتقدموا لخطبتها». بُكاؤها وإصرارها على التعلّم، جعلا والدها الشاعر عبد الله العثمان وصاحب المنتدى الأدبي الشهير في الكويت، يفتح لها مكتبته. حثها على قراءة الأدب والكتابة. «ستكونين شاعرةً كبيرة في المستقبل»، قال لها. تبتسم وهي تتذكر ذلك، لكنّ ابتسامتها تختفي بسرعة: «كان يرفض أن أحضر منتداه الأدبي، بل رفض أن أنشر مقالات باسمي، كي لا يعرف الناس أنّ فلانة بنت فلان تكتب في الصحف».
النقلة الأكبر في حياة الروائية الكويتية كانت عام 1965، إذ أبعدتها عن بيت والدها المحافظ، وأسوار قصره العالية. «كان يمنع علينا الخروج إلى السوق والسينما. وفّر لنا كل هذه الأشياء في البيت. في كل قصر من قصوره، كان ينشئ حمام سباحة. وكان يقدّم إلينا عرضاً سينمائياً كلّ أسبوع في البيت»، ذاك الذي تصفه بالسجن الحقيقي أو «قلعة زندة»، كما تقول في إحدى رواياتها. زواجها من طبيب فلسطيني، أثار ضجة في البلد المحافظ. كانت عائلتها من الأسر الكبيرة التي ترفض تزويج بناتها بغير أبناء العم. أدخلها الزواج عالماً آخر، وأمضت شهر العسل في أوروبا. لم تهتمّ في تلك الفترة بمعالم البلدان التي كانت تعبرها: «المهم الحرية والانطلاق. كنت أصرخ وأرقص في الشارع. كنت طفلة في الثامنة عشرة تكتشف العالم». شجعها زوجها على النشر في الصحف، وخصوصاً إثر وفاة والدها بعد مرور فترة قصيرة على زواجها. تفرد يديها وهي تصف تلك الحادثة: «أحسست كأنّني عصفورة، نبتت لي أجنحة. كان يضغط عليّ حتى بعد زواجي. كان يطلب من زوجي أن يمنعني من الكتابة. يوم وفاته، كان يوم الفرح بالنسبة إليّ. في الأسبوع الثاني لوفاته، كان اسم ليلى العثمان في صحف عدّة». بين وجدانيات، وأشعار، مقالات اجتماعية، صارت تكتب عموداً يومياً في جريدة «السياسة». وبدأت شهرتها تتسع مع صدور باكورتها القصصية «امرأة في إناء»، وروايتها الأولى «المرأة والقطة»، التي وقّعت طبعةً جديدة منها عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، في «معرض بيروت» الأخير.
كتبت في أدب الرحلات (أيّام في اليمن)، وعن الغزو العراقي للكويت (يوميات الصبر والمرّ). رفضت يومذاك الخروج من بلدها، لتعيش مع أولادها تجربة الحرب القاسية التي أدّت إلى تمزّق العائلة، إذ أرغم زوجها الثاني، الكاتب والإعلامي الفلسطيني وليد أبو بكر، على مغادرة الكويت بعد تحريرها من الغزو العراقي. تلمع عيناها وهي تستذكر تلك التجربة، ثم تنتقل إلى الراهن: «أعيش طفولة جديدة مع أحفادي، حياتي فيها فرح وسعادة، كما حقّقتُ الحلم بأن أكون كاتبةً، ومحبوبة». تسترجع معنا أجواء الديموقراطية في كويت الستينيات، مع إنشاء أول برلمان في الخليج، بعد استقلال البلاد. «مساحة الحرية كانت واسعة. ولم يكن هناك شيء اسمه رقيب على النشر». وقوفها ضدّ التعصب الديني، وتيارات السلفيّة المتشددة، جلب عليها كثيراً من النقمة. وقد تعرَّضت لحملات ومحاكمات. فقد حكم عليها بالسجن لمدة شهرين عام ٢٠٠٠ هي والدكتورة عالية شعيب أستاذة فلسفة الأخلاق في جامعة الكويت آنذاك، بسبب «عبارات تمس الذات الإلهيّة، وعبارات منافية للآداب ومخلّة بالآداب». وفي العام نفسه أصدرت كتابها «المحاكمة ـــ مقطع من سيرة الواقع» (المدى)، الذي تعود فيه إلى مواجهة سابقة مع القضاء بتحريض سلفي عام ١٩٩٦، وقد أهدته إلى من رفعوا عليها القضيّة.
صداقات ليلى العثمان داخل الأحزاب الفلسطينية، فتحت لها أبواب «الفكر المستنير». في السبعينيات والثمانينيات، كانت شوكة الإخوان المسلمين في الكويت تقوى، ففرضوا رقابة الدولة على المسلسلات ولباس الممثلات. «كانوا سلطة فوق سلطة الدولة»، تقول. رغم تتويجها بالكثير من الجوائز، والتقدير الذي تحظى به في الوسط الثقافي الكويتي والعربي، لا تزال كتبها ممنوعة. «لدي ستّة كتب ممنوعة في الكويت حتى الآن، وهي تباع في السعودية». وأشهر تلك الكتب رواية «العصعص»، إضافة إلى «المحاكمة» طبعاً. العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، أثّر فيها من الداخل، ودفعها إلى إنجاز كتاب عن البلد الذي عشقته منذ زارته للمرة الأولى وهي في الثامنة بعنوان «لبنان نصف القلب».
تبدو صاحبة «حلم الليلة الأولى» متفائلة بمستقبل العرب، لكن يقلقها أنّ «من يتسلّمون السلطة جلّهم من الإسلاميين، وخصوصاً في مصر. ستكون هذه نكبة على الوطن العربي، سنرجع فيها مئات السنين إلى الوراء». تتخذ ليلى العثمان مسافة تأملية مما يحدث من ثورات. لا تتحمس لكتابة عمل روائي تحكي فيه ما يدور من أحداث في العالم العربي. تعدّ الآن عملاً جديداً عن الكويت وعن حكايات حاراتها القديمة التي يطويها النسيان. نسألها عن واقع الكتابة العربية النسوية، فتنتهز الفرصة لتتهم بعض الروائيات العربيات بالإغراق في الكتابة الجنسية بهدف الشهرة السريعة. «كتبت مشهداً جنسياً واحداً في رواية «العصعص». هذا النوع من الكتابة ليس هدفي في الحياة». ترجمت أعمالها إلى لغات عدة، واقتبست أشهر رواياتها «وسمية تخرج من البحر»، في مسلسل تلفزيوني، وعمل إذاعي، وآخر مسرحي.
تنشغل العثمان حالياً بالجائزة التي خصصتها للمبدعين الشباب في الكويت، وتمنحها كلّ عامين. «أردت أن أكون أنانية وأقدّمها إلى شباب بلدي. معظم الجوائز العربية لا تسلط الضوء على إنتاج الخليج، كأنّهم ما زالوا ينظرون إلينا، على أنّنا دول نفط». رغم ذاكرتها التي بدأت تتعب، وأمراض الكتابة المخفيّة خلف الأصابع والعظام والنظر، نودّعها، ونتركها تتجه إلى جناح في جناح «الدار العربيّة للعلوم ناشرون»، حيث وقّعت لجمهور «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» مجموعتها القصصيّة الجديدة «عباءة المقام».



5 تواريخ


1943
الولادة في الكويت

1986
أنجزت أشهر رواياتها «وسمية تخرج
من البحر» التي اختيرت ضمن أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين

2000
حكم عليها بالسجن شهرين بتهمة الإساءة إل الدين والأخلاق العامة، وأصدرت كتاب «المحاكمة» (المدى)، الذي كانت قد سبقته قبل عام سيرتها الذاتيّة «بلا قيود، دعوني أتكلّم» (دار الحدث للصحافة)

2004
أنشأت جائزة «ليلى العثمان
لإبداع الشباب الكويتي في القصة والرواية» التي تُمنح كل عامين

2011
وقّعت مجموعتها القصصية
«عباءة المقام» في جناح «الدار العربيّة للعلوم ناشرون» خلال «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»