جاءت مِن الكويت! كانت مفاجأة. توقّعها مَن توقّعها مِن مكان آخر، مِن دولة أخرى، فإذا بها تأتي مِن «الخليج». الكويت لا تزال هناك، في مكانها، عند شط العرب، غير أنّ ما حصل كان خلف الجغرافيا المنمّطة سياسيّاً. رئيس مجلس الأمّة الكويتي، مرزوق الغانم، أصبح نجماً عربيّاً... بل عروبيّاً. لم يبدأ عداءه لإسرائيل قبل أسبوعين، إذ هو على ذلك قديماً، مُجاهراً مفتخراً، إنّما الآن سيسمع باسمه مَن لم يسمع به قبلاً.
مِن سانت بطرسبرغ في روسيا، داخل قاعة مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي، وأمام أكثر مِن ألفي ضيف جاؤوا مِن أكثر مِن 150 دولة، قال: «ما ذكره ممثل هذا البرلمان، المحتل الغاصب، يمثل أخطر أنواع الإرهاب، وهو إرهاب الدولة، هذا ما يمثّله هذا الغاصب. وأنا أقول له، ينطبق عليك المثل المعروف عالميّاً: إن لم تستحِ فافعل ما شئت. عليك أن تحمل حقائبك وتخرج مِن هذه القاعة بعدما رأيت ردّ فعل كلّ البرلمانات الشريفة في العالم. اخرج الآن مِن القاعة، إن كان لديك ذرّة مِن الكرامة، يا محتل، يا قتلة الأطفال». كان صوته أعلى مِن صوت التصفيق الذي رافق كلمته. الممثّل الإسرائيلي كان مدهوشاً، يُحرّك رأسه مراراً، ينظر إلى الغانم كمن يعجز عن تصديق ما يرى ويسمع. ربّما ودّ أن يقول: مَن هذا! ممثّل الكويت! جاءتنا مِن الكويت! أصابه الخرس. خرج مِن القاعة مطروداً برفقة وفده. كان مشهد ذلّ لم يعتده الإسرائيليّون في المحافل الدوليّة.
ضجّ العالم بالكويتي الغانم. تصدّر وسم اسمه مواقع التواصل الاجتماعي. لكن، لاحقاً، حصل ما هو أهم مِن موقف رئيس مجلس الأمّة الكويتي. كثيرون لم ينتبهوا إعلاميّاً إلى رسالة أمير الكويت صباح الأحمد الصباح إلى الغانم. لا شيء يجبر الأمير على أن يُعلّق على ما حصل. كان يُمكنه أن يلتزم الصمت ولتأخذ المسألة مداها التأويلي دوليّاً. لكنّه لم يفعل. أرسل للغانم رسالة جاء فيها: «معالي الأخ مرزوق الغانم الموقّر، تابعنا بكلّ الاهتمام والتقدير ردكم الحازم على رئيس وفد الكنيست الإسرائيلي، وتصديكم له في الجلسة الختاميّة لمؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي على خلفيّة موضوع النواب الفلسطينيين في السجون الإسرائيليّة، ومطالبتكم للوفد الإسرائيلي بمغادرة القاعة، مشيدين بهذا الموقف المشرّف الذي كان محل تقدير ممثلي الدول العربيّة الشقيقة والدول الصديقة المحبّة للسلام في هذا البرلمان الدولي، والذي يُجسّد جلياً موقف دولة الكويت الداعم للأشقاء الفلسطينيين لاستعادة حقوقهم المشروعة ونصرة قضيتهم العادلة». هكذا، المسألة لم تكن حماسة عابرة مِن رئيس برلمان، أو لحظة انفعال تُختزل بسلوك «ممثلي الشعب» تقليديّاً، إنّما الآن هي الكويت. دولة الكويت. دولة تبنّى حاكمها موقف رئيس برلمانها. هذا ما فطن إليه الغانم نفسه، عندما علّق على رسالة الصباح له، قائلاً: «لن أقرأ رسالتك يا صاحب الحكمة على أنّها رسالة دعم ومساندة لشخصي المتواضع، بل سأقرأها كما ينبغي لها أن تُقرأ، وهي أنّها بيان سياسي كويتي مِن رجل وقائد عروبي ما انفك طوال حياته المديدة يُناصر حق الفلسطينيين وحق العرب والمسلمين وحق كل الشعوب المغلوبة على أمرها». كان أمير البلاد قد استقبل الغانم أيضاً عند عودته مِن روسيا، بعد استقباله مِن قبل وفود في المطار كبطل وطني، كما كُتِبت فيه المقالات الأشبه بقصائد في صحف بلاده.

تبنّى أمير الكويت موقف الغانم ضدّ إسرائيل ورأى أنه يُجسّد موقف الدولة


هذا ليس مشهداً عاديّاً يأتينا مِن الكويت، مِن الخليج عموماً. لطالما ميّزت الكويت نفسها خليجيّاً، وربّما موقفها اللافت هذا تجاه إسرائيل كان ليبدو عاديّاً في زمن «المدّ القومي» سابقاً، وصولاً إلى سبعينيات القرن الماضي مثلاً، لكن أن يأتي مِن هناك في زمن الهرولة السعوديّة، ومع الإمارات والبحرين، إلى التطبيع، بل إلى ما يُشبه التحالف (العلني) مع إسرائيل... فهنا يكون المشهد الكويتي بمثابة فرادة خليجيّة. نحن في زمن رجل الاستخبارات السعودي أنور عشقي، الداعي إلى حبّ إسرائيل باسم «بلاد الحرمين» وما حولها، وزمن السفير الإماراتي يوسف العتيبة، الناشط في الهوى الإسرائيلي. ربّما على الكويت أن تقلق الآن مِن السعوديّة، بعد موقف الغانم والصباح، وهذا ما لمح إليه أحد الصحافيين الكويتيين، محذّراً من اختراقات لوكالة الأنباء الكويتيّة (على غرار ما حصل مع قطر). بالتأكيد، ليس منتظراً أن تفتح الكويت حرباً على إسرائيل، ولا أن تذهب إلى «محور المقاومة» عضويّاً، ولا أن تنسّق مع إيران في تدمير إسرائيل، لكن، وبمسافة مقابلة، تُريد الكويت أن تقول: نحن أيضاً لسنا السعوديّة ولا الإمارات ولا البحرين تطبيعيّاً. نحن لسنا «الخليج» كما طُبِعَت صورته في وعي شعوب المنطقة. نحن حالة خاصّة (حتّى على المستوى الثقافي والفني والإعلامي). علاقة الكويت بالقضيّة الفلسطينيّة، منذ البدايات، تميّزت عن سياسة «الخليج» العامة. لها شهداء على دربها. ناجي العلي عرف هذا. هو أمر يعرفه الفلسطينيّون أكثر مِن سواهم (أجيال كويتيّة حفظت وجوه المعلّمين والمعلّمات مِن فلسطين في مدارسهم). لولا «غزو صدام» ربّما لكانت الأمور أفضل. هي ذكرى «الغزو» التي طبعت الشخصيّة الكويتيّة على مدى ربع قرن، بما حمله ذلك مِن جفاء مع «القضيّة» بسبب مواقف بعض أبنائها. الكويت اليوم تقفز فوق «الذكرى الأليمة» لتعود إلى خطاب سابق، لها في مخزونه ما يثبت تميّزها. عموماً، موقف كالذي صدر عن الكويت أخيراً يُحرج السعوديّة. مِن هنا تُفهم تلك التغريدات الصادرة عن شخصيّات سعوديّة تُسخِّف موقف الغانم، إذ تحرّك كتّاب ومطربون، وصولاً إلى ممثلة مغمورة، فضلاً عن متابعين رياضيين وسموا الكويت بـ«أقزام آسيا». نزعة التنمّر السعوديّة تجاه الكويت تاريخيّة، عمرها مِن عمر البلدين، تصل إلى زمن «الآباء المؤسسين». تُرى مَن قصد الأمير الصباح بعد استقباله الغانم بقوله: «اللي رفعتوا روس أخوانكم بالكويت، وأتمنى أنكم لا تنظروا إلى ما يكتب ويقال.. حتشوفون لما توصلون ماذا كتبوا لأنه حسد. لذلك، الحقيقة أنا شخصيّاً فخور». هذا ما نُقل عنه.
لم تنته مفاجآت الكويت بعد. فبرعاية الغانم، نفسه، ستستضيف البلاد مؤتمراً في 17 تشرين الثاني بعنوان «مقاومة التطبيع في الخليج العربي». وفق المنظّمين، فإن المؤتمر «سيناقش عدداً من المواضيع والتحديات التي تواجه حركات مقاطعة الكيان الصهيوني في الخليج العربي، وسبل تعزيز وتكثيف حملات المقاطعة بشكل فعال وممنهج، إضافة إلى توعية شباب المنطقة بالنضال العربي الفلسطيني المشترك». تقول مريم الهاجري، وهي عضو اللجنة التنسيقية للمؤتمر: «يأتي تنظيم هذا المؤتمر رداً على التوجهات التطبيعية مع العدو الصهيوني التي تشهدها المنطقة، ما يدعو إلى ضرورة إبراز الصوت الشعبي في الخليج الرافض للتطبيع، والتصدي لمحاولات التطبيع بكل أشكاله المباشرة وغير المباشرة». يُظلم الموقف الرسمي الكويتي، اليوم، عندما يُشمَل بالخليج في الخطاب السياسي العام. الخليج، تلك المفردة التي هي، بحكم الواقع، أقرب إلى التهمة في شارع عربي عريض. يُظلم أيضاً بعض مَن في الشارع السعودي نفسه، والإمارات والبحرين وعموم تلك المنطقة، إذ ثمّة مَن هلّل هناك لموقف الغانم وأشاد به في وجه التيار الآخر. لسنا أمام كتلة خليجيّة صلبة.
بالمناسبة، مرزوق الغانم هو ابن شقيقة رئيس مجلس الأمّة الراحل جاسم الخرافي، الذي عُرِف بمواقفه المؤيّدة لحركات المقاومة مِن فلسطين إلى لبنان. هو أيضاً ابن شقيقة رجل الأعمال الراحل ناصر الخرافي (شقيق جاسم). ناصر الذي فاجأ كثيرين برسالته التي وجهها إلى الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله، عام 2011. دافع عن نصرالله، في وجه ما كُتِب ضدّه في وسائل إعلام خليجيّة، قائلاً: «أقول لسماحتكم لا يحزنكم ما تثيره حشرات الليل التي إذا أزعجت، فإنّها لا تضر، وإن مؤيديك ومحبيك من الغالبية الساحقة في عالمنا العربي والإسلامي يدعون لك في كل الأوقات بالعزّة والشموخ، وإن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عنك». في عزاء خاله، تلا مرزوق الغانم رسالة التعزية المرسلة من نصرالله إلى العائلة، وختم من على المنبر قائلاً: «جزاك الله الخير يا سماحة السيّد، وهي شهادة نعتز بها وشهادة ممن هو أهل لها، وفقيدنا قام بدعم المقاومة اللبنانية الشريفة الأبية إلى أبعد حد، غير آبه لما قد يحلّ به». بهذا تظهر بوضوح هويّة الغانم ومِن أيّ خلفيّة يأتي. هو ابن بيت نجا مِن وباء المذهبيّة الذي ضرب المنطقة، وآمن بالمقاومة وصواريخها «التي أذلّت إسرائيل عام 2006» (كما قال الغانم سابقاً). هو صوت في الكويت وليس كلّ الكويت. اليوم يدعم الأمير هذا الصوت، علناً، وإن بحدود مقاومة التطبيع. لا يُطلب مِن الدولة حالياً أكثر مِن ذلك. أميركا تُراقب. إسرائيل لم تُعلّق، وهي تُراقب. ذات يوم، قبل عقود، كانت مقاطعة إسرائيل تحصيل حاصل. لم يكن أحد يجرؤ عليها مِن غير أن يَحسب لفعلته ألف حساب. كان البحث في تحرير فلسطين. كان في الأصول. تغيّرت الأيّام. اليوم، نطمع بثبات دائم على المقاطعة. هذا جزء مِن المشهد البائس، راهناً، لقضيّة لا يبدو أنّ سحبها مِن الوجدان العربي سهل. الموقف الكويتي الأخير، هنا، وفي مطلق الأحوال، إشارة ضوء على هذا المعنى.