معين الرفاعي (أبو عماد)في غضون أيام قليلة، تتوجه الفصائل الفلسطينية إلى القاهرة استجابة لدعوة مصرية، واستكمالاً لجهود المصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس»، التي أنتجت الشهر الماضي اتفاقاً موقّعاً بينهما. ومن المتوقّع أن يناقش اجتماع القاهرة سبل وآليات بلورة موقف فلسطيني موحد إزاء التطورات المتعلقة بقضية فلسطين.

لا تخلو مثل هذه الاجتماعات عادة من طرح العديد من القضايا السياسية الشائكة، والغوص في مسائل تفصيلية، نظراً إلى كثرة الملفات المطروحة من جهة، وتعقيدات المشهد الإقليمي من جهة أخرى. مع ذلك، من الأهمية بمكان تحديد نقطة الانطلاق الأساسية لمقاربة المسائل برمتها من منظور استراتيجي يتيح إمكانية التوصل إلى تفاهمات واتفاقات محدّدة قابلة للتنفيذ.
إزاء ذلك، من المهم، لإنجاح الاجتماع، تجنب الاكتفاء بتفاهمات مؤقتة تفرضها الظروف الآنية أو الضغوط الخارجية، لأن مثل هذه التفاهمات تكون عرضة للاهتزاز مع أدنى تغيّر، وتفتح الباب لإعادة خلط الأوراق من جديد في أول مناسبة أو فرصة.
وعليه، من الأجدى مقاربة المصالحة من منظور استراتيجي وشامل يأخذ بعين الاعتبار اختلاف رؤى كل فريق من المجتمعين للأهداف العليا للشعب الفلسطيني وحقوقه، وتمتلك تالياً تأييداً شعبياً وشرعية لا يمكن تجاوزها أو إخمادها.
لذلك، تكتسب المقاربة الأساسية التي سينطلق منها الاجتماع أهمية بالغة. ذلك أن طبيعة المواضيع التي ستطرح فيه والزاوية التي سينطلق منها الحوار أو النقاش هي التي ستحدد مآلاته ونتائجه.
إن طرح قضايا من مثل المشاركة في «النظام السياسي الفلسطيني»، من شأنه أن يثير العديد من الإشكالات: ما الذي يعنيه «النظام السياسي»، بل ما الذي تعنيه «فلسطين» في هذا السياق؟
هل النظام السياسي المقصود هو مؤسسات «منظمة التحرير» أم المؤسسات المنبثقة عن اتفاق أوسلو التابعة للسلطة؟ وما هو ناظم العلاقة بين المنظمة والسلطة؟ وماذا عن الفصائل الفلسطينية ومؤسساتها؟ ومن أو ما الذي يحدد شرعية هذه المؤسسات: هل هو الاعتراف الدولي بها أم الانتخاب؟ أم الرضى الشعبي والتأييد الجماهيري لها حتى لو كانت خارج السلطة؟
ثم: ما هي غاية النظام السياسي في الواقع الفلسطيني: هل هي التحرير أم تداول السلطة، أم الحصول على اعتراف المؤسسات الدولية، أم تمثيل الفلسطينيين؟
والأهم: ما الذي نقصده بالفلسطيني؟ وعن أي فلسطين نتحدث: هل هي فلسطين الوطن والتاريخ، أم الجزء المحتل عام 1967 منها؟ ومن هو الفلسطيني؟ ومن الذي يعتبر فلسطينياً؟ هل يشمل النظام السياسي مشاركة كل الفلسطينيين بمن فيهم اللاجئون وأهلنا الصامدون في المناطق المحتلة عام 1948؟ كيف ينظر النظام السياسي الفلسطيني إلى اللاجئين في مخيمات الضفة وغزة مثلاً، هل هم مواطنون أم لاجئون تنبغي عودتهم إلى بيوتهم التي أخرجوا منها؟
بالمثل، لا يمكن التغافل عن واقع أن الاحتلال الإسرائيلي هو الفاعل المباشر الأكبر في تحديد مدخلات ومخرجات النظام السياسي الناشئ عن اتفاق أوسلو. يكفي للتدليل على ذلك أن الاقتصاد الفلسطيني بات رهينة سيطرة الاحتلال، ليس على المستوى الكلي فحسب، حيث يسيطر على كل تفاصيل الحياة الاقتصادية، بل على المستوى الجزئي أيضاً، إذ باتت شريحة واسعة من أهلنا في الضفة مرتهنة بالقروض للبنوك. العديد من أهلنا في الضفة لا يجدون فرصاً للعمل إلا في تشييد المستوطنات التي هدفها القضاء على وجودهم فوق هذه الأرض، وليس تدمير نظامهم السياسي فحسب. كما لا يمكن التغافل عن مشاريع الاستيطان والتهويد والضم والعزل التي يمارسها الاحتلال في الضفة المحتلة والقدس الشريف وكامل فلسطين، التي تهدد وجود النظام السياسي وفرص استمراريته.
واقع «منظمة التحرير» ليس أحسن حالاً، فرغم الدعوات المتكررة والاتفاقات واللقاءات العديدة لإعادة بنائها وتفعيلها وإصلاحها، فإنها لا تزال تعاني أزماتها نفسها. مسألة مشاركة حركتي «الجهاد الإسلامي» و«حماس» في المنظمة مجرد مشكلة واحدة، وربما هي أهون المشكلات أمام المنظمة التي بدأت تفقد دورها لمصلحة السلطة، ولا تستطيع حسم مسألة مشاركة أهلنا في المناطق المحتلة عام 1948 في عضويتها، ولا إجراء انتخابات للاجئين في العديد من الدول المضيفة.
مع ذلك، نقول إن اللحظة الراهنة تشكل فرصة مهمة لإنجاح اجتماع القاهرة. فقد أثبتت الأحداث التي عصفت بمنطقتنا خلال العقد الماضي أنه لا يمكن تجاوز القضية الفلسطينية، وأن إيجاد تسوية طويلة الأمد بات مطلباً للكيان الإسرائيلي وللعديد من الدول الغربية والأنظمة العربية، كل من منطلقاته ودوافعه الخاصة. وهذه نقطة قوّة أساسية في يد شعبنا الفلسطيني وقواه وفصائله.
لذلك، ولكي لا يتحول اجتماع القاهرة إلى اجتماع آخر في سلسلة اجتماعات المصالحة الكثيرة، ربما يكون من المفيد اقتراح مقاربة المسألة من منظور مختلف. فعوضاً عن الغوص في مسألة المشاركة في النظام السياسي الفلسطيني وإشكالاته الكثيرة والمعقدة التي تمسّ بصورة مباشرة بثوابت الشعب وحقوقه وأهدافه، نقترح أن يناقش اجتماع القاهرة وضع استراتيجية فلسطينية موحدة وملزمة.
جوهر الاقتراح هو الاستفادة من اجتماع القاهرة لعقد اجتماع لـ«الهيئة القيادية المؤقتة لمنظمة التحرير» بهدف إعادة قراءة المشهد الفلسطيني برمته، والأخذ بالاعتبار المتغيرات الراهنة، وإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني، ووضع استراتيجية موحدة وملزمة، وتحديد الآليات اللازمة، ومن بينها إجراء انتخابات للمجلس الوطني، وإعادة بناء المنظمة وإصلاحها، والاتفاق على استراتيجية موحدة لعودة اللاجئين إلى بيوتهم وأراضيهم، وأن تجيب عن الأسئلة المطروحة جميعها.
إن من الأهمية بمكان أن تأتي الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة تعبيراً عن هموم الشعب الفلسطيني وأهدافه وتطلعات قواه المتعدّدة، وأن يرى فيها كل فريق إمكانية تحقيق أهدافه وتطلعاته في إطار العمل المشترك وإجماع الكل الفلسطيني، لا أن تكون نتيجة تدخلات وضغوط واشتراطات خارجية، أو أن يشعر فريق أو أكثر بأنها تسلبه حقه المشروع في التعبير عن آماله وتطلعاته، وعلى حساب قضايا شعبنا، ليتحيّن الفرص بعد ذلك للانقضاض عليها في منطقة مليئة بالمتغيّرات السريعة والمفاجئة، وتتصف بغياب الاستقرار.
يوفّر اجتماع القاهرة فرصة للقوى الفلسطينية لبناء عمل وطني جامع يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية على أنها قضية جامعة خارج الاصطفافات والمحاور الإقليمية، ومهمتها مواجهة المشروع الصهيوني، وعلى قاعدة تحقيق التوازن بين الرؤى الخاصة لكل فريق فلسطيني والإطار الوطني الشامل، وذلك على قاعدة: نتعاون في ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه!
فهل ينجح اجتماع القاهرة في ذلك؟
* سياسي فلسطيني