نحن أمام عهد جديد من التاريخ السعودي. لم تدخل السعوديّة بعد في مرحلة «الدولة السعوديّة الرابعة» التي يُروّج لها جهاز الدعاية الرسمي. هي لم تتشكّل بعد، والرجل الموعود بالعرش لم يستوِ عليه بعد. والتسميات وتصنيف المراحل يأتي بعد تحقيق إنجازات وبرامج وتغييرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. قد يكون محمد بن سلمان يُحضِّر لتدشين المرحلة الرابعة من الدولة، لكن لم تكتمل الصورة بعد. إن تقييم محمد بن سلمان هو تقييم لإعلانات وممارسات. لكن نظام محمد بن سلمان الفتيْ يتراوح بين الإعلانات والنيّات وبين المغامرات العسكريّة.
ومرحلة التحضير للسلطة تنبئ بمستقبل دموي وغير مستقر. إذا كان الطريق إلى العرش محفوفاً بهذا الكم من التهوّر والنزق والقمع فما بالك بطريقه في السلطة؟
لكن محمد بن سلمان استحدث أسلوباً جديداً في الحكم وفي الحرب. ليس عهده — على حداثته — مثل العهود السعوديّة السابقة. حالة اعتقال سعد الحريري هي مثال. في الروايات التي تُغزَل عن مغامرات وآلام رفيق الحريري في سنوات سيطرة النظام السوري — الذي نصّبه رئيساً لحكومة لبنان — يتركّز الحديث دوماً عن لقاءٍ صعب بين رفيق الحريري وولاة أمره في الشام، وكيف أنه تعرّض للتقريع وانه أصيب بعارض صحّي من جراء ذلك، ثم قفل عائداً بسيّارته إلى... بيروت. أما ابنه سعد، فقد استُدعي إلى الرياض واحتُجز وفُرضت عليه استقالة كتبوها له. أي أن النظام السعودي يعتمد في سياساته نحو لبنان فظاظات وبشاعات تفوّقت على أساليب الاستخبارات السوريّة في لبنان. لكن هذا الصلف السعودي ينتمي إلى مرحلة سعوديّة جديدة. (في الماضي، كان النظام يعتقل مَن يشاء لكن في السرّ، كما فعلوا في حالة ناصر السعيد، الذي خطفوه وقتلوه بالتعاون مع جهاز أمن «فتح» والمخابرات اللبنانيّة). نحن أمام لمسات محمد بن سلمان الغليظة في السياسة العربيّة. الولاء والطاعة لا تكفيان، كما ظهر في حالة سعد الحريري الذي لم يحد عن سياسة المملكة، أو هكذا ظنّ. محمد بن سلمان يريد القوّة، ويريد أن يظهر بمظهر الحاكم القوي.
ولو نجح محمد بن سلمان في القبض على أزِمة الحكم، ولو فرضها بالقوّة، فإنه سيطبع السعودية بصفات حكمه الجديدة لسنوات. لكن عوامل نجاحه صعبة لأسباب كثيرة. إن محمد بن سلمان يعتمد على القوة والتسلّط المفرط للتفرّد بالحكم. هو لم يعتقل معارضين من فريق واحد، بل هو شنّ حملة على المعارضين من كل الاتجاهات السياسيّة، الاسلاميّين والليبراليّين والأمراء على حد سواء — الموالين منهم والمعارضين. هو ألقى القبض على أفراد في الأسرة الحاكمة وهذه من الممنوعات في السياسة السعوديّة. كان أمر العقاب القانوني لفرد من الأسرة يخضع لرأي الملك شخصيّاً وبموافقة أجنحة متعدّدة في الأسرة. وحتى عندما عاد طلال بن سعود إلى السعوديّة، بعد سنوات إقامته في مصر وخروجه عن الحكم السعودي وإعلانه «الأمراء الأحرار»، فإنه عاد إلى المملكة بتسوية، وكان عقابه الوحيد أنه حُرم طيلة حياته — هو وأخوه بدر — من تبوّؤ منصب وزاري.
والحكم في السعوديّة بعد وفاة المؤسّس لم يستقِم إلا بميزان دقيق من التحالفات ومن الحسابات بين أجنحة مختلفة في العائلة. وخلافاً للشائع عن «انقلاب» ١٩٦٤ الذي نصّب فيصل ملكاً، فإنه أتى بعد سلسلة شهور طويلة من المفاوضات والمناقشات التي كانت تدور بين العشرات من الأمراء والأقارب والعلماء. لم يكن الانقلاب على شاكلة الانقلابات العسكريّة المشرقيّة. كان فيصل يدرك أن هناك سوابق يمكن أن تؤثّر على استقرار العائلة. كان فيصل يقول إن الملك في حكم آل سعود لا يُخلع عن العرش إلّا بعد استنفاد كل وسائل الإقناع 1. والصراع بين سعود وفيصل كان صراعاً بين أجنحة أكثر مما كان صراعاً بين شخصيْن. وعندما اقتربت نهاية سعود، حاول الأخير أن يوسّع شبكة تحالفاته بين القبائل وحتى مع معارضين ناصريّين للحكم لكن الأجنحة في العائلة والعلماء رجّحوا الدفّة لصالح فيصل. وحاول سعود أن يحسم الصراع عسكريّاً في أواخر ١٩٦٣ عبر الاستعانة بـ«الحرس الملكي»، لكن استنفار «الحرس الوطني» (تحت قيادة عبدالله) واستنفار القوّات المسلّحة (تحت قيادة سلطان) فوّت الفرصة على سعود. وحَكمَ فيصل بالتعاون مع الجناح السديري وبالتشاور مع أجنحة أخرى كما أنه عزّز سلطة عبدالله في «الحرس الوطني» لإحداث توازن مع الجناح السديري القوي. كل هذه الأعراف والتقاليد في داخل العائلة المالكة أطاح بها محمد بن سلمان في قرارات ملكيّة سريعة.
واستولى بن سلمان على كل أجهزة الأمن والقوات المسلّحة و«الحرس الوطني»، وهذه سابقة. أي إنه انتزع السلطة من أيدي أجنحة كانت تستمدّ نفوذها منها. لم يبقَ لجناح مورد سلطة أو مال، إلا واستولى عليه بن سلمان. هل سيقبل كل أمراء آل سعود (يعدّون بالآلاف) هذا الواقع المُستجد؟ وكيف سيعيِّن وليّاً لعهده بعد أن يخلفَ أباه في الملك؟ ومِن أين سينتقي وليّ عهده؟ لم يبقَ له من جناح، ما سيحصر خياراته بأخوته الأشقاء من الأميرة فهدة بنت فلاح. وهو أقصى عن الحكم أخوته من أمهم سلطانة بنت تركي السديري. كان يمكن أن يُعزّز الجناح السديري بهم، لكنه استعدى هذا الجناح كما استعدى باقي الأجنحة. وكان المسّ بأبناء الملوك يُعدّ من المحرّمات، لكن القبض على عبد العزيز بن فهد شكّل رسالة أن أحداً منهم ليس خارج سلطة الحاكم المتفرّد.
لكن كيف سيحكم محمد بن سلمان بعد أن أقصى حتى أخوته (غير الأشقّاء) عن الحكم. والمقارنات تجري في بعض صحف الغرب بين تسلّط بن سلمان وتسلّط بوتين والرئيس الصيني شي، لكن المقارنة مغلوطة لأنه يمكن إجراء مقابلة صحافيّة مع معارضين لبوتين — على تسلّطه في موسكو ويمكن القيام بتظاهرات ضدّه في روسيا. هذا مستحيل في السعوديّة. المعارضة غير متاحة حتى ضمن العائلة المالكة.

اعتمدت السياسة السعودية على مدى عقود طويلة على شراء رؤساء دول

والحملة ضد الفساد في الصين هي غير ما هي عليها في السعوديّة لأن الحملة السعوديّة بدأت للتوّ ولا يمكن الحكم على نتائجها، والحكومة الصينيّة حقّقت إنجازات هائلة في المجالات الاقتصاديّة المختلفة بالرغم من انتشار الفساد لكن ليس على صعيد عائلي. ولا يمكن المقارنة بين استبداد بن سلمان وبين استبداد الحاكم الكوري الشمالي — على استبداده — لأن كوريا الشمالية حقّقت تطوّراً صناعيّاً وتكنولوجيّاً وعسكريّاً. يمكن مقارنة تجربة بن سلمان بتجربة صدّام حسين في صعوده إلى السلطة في السبعينيات، لكن الواردات النفطيّة حقّقت آنذاك تقدّماً اقتصاديّاً واجتماعيّاً وعسكريّاً لم تحقّقه السعوديّة بعد في أي من المجالات.
وتجربة صدّام حسين ترافقت مع حملة إعلاميّة مذهلة: سوّق صدّام لنفسه من خلال إعلام موالٍ له في العالم العربي وفي خارجه. لكنه قرنَ صعودَه باستقاء شرعيّة سياسيّة من خلال سياسات صارمة (في السعبينيات فقط) حول القضيّة الفلسطينيّة ومن خلال رفع مستوى المعيشة للشعب العراقي 2. من أين سيأتي الحاكم الجديد بشرعيّته الجديدة؟ حتماً ليس عن طريق صندوق الاقتراع وليس عن طريق توسيع نطاق الحكم. هو يحتاج إلى تحسين مستوى المعيشة وهذا يتطلّب أسعار نفط باتت من الماضي. هل سينتظر الشعب في المملكة حلول سنة ٢٠٣٠ حتى يحكم عليه؟ هي سيستكين الشعب بانتظار ذلك؟ وكيف سيموّل بن سلمان مشاريعه الضخمة وهو ملتزم بمشتريات أسلحة باهظة من أميركا، لتسديد حسابات سياسيّة لترامب؟
المستبد السعودي هذا يختلف عن المُستبد العراقي في أوجه عديدة. صدّام كان يخاطب شعبه، ويخاطب العالم العربي دوريّاً. بن سلمان يعتبر أن جمهوره هو حكومات وإعلام الغرب فقط. كان ملوك وأمراء آل سعود يستعينون بالصحافة اللبنانيّة لتسويق سياساتهم وحكمهم. أما اليوم، بالرغم من الانصياع شبه التام للإعلام اللبناني نحو آل سعود 3. فإن أحداً منهم لا يحظى بمقابلة مع ملك أو أمير سعودي. الحاكم المستبد يستعين في تجميل صورته والترويج لحكمه بشبكة من الإعلاميّين الغربيّين: من مجلّة «إيكونمست» إلى موقع «بلومبرغ» وغيرهم. وهو يحرص على استمالة وسائل الإعلام المتطرّفة في الرأسماليّة (أي المناهضة للبرامج الاجتماعيّة للدولة). لكن كيف يستقيم الحكم لحاكم إذا كان جمهوره خارج بلاده؟ هذا لا يعني أن ليس هناك من تأييد في داخل المملكة لما أسماه بـ«حملة الفساد». لكن الحملة هذه محكومة نتائجها بالفشل لأنها لا يمكن أن تصل إلى خواتيمها المنطقيّة لأن موارد إنفاق الحاكم وعائلته وحاشيته لا يمكن أن تصبح مُعلَنة. لكن كيف سيوفّق بين إعلان محاربة الفساد وبين مستوى البذخ والإنفاق الذي تعوّدت عليه العائلة المالكة بأسرها؟ الشفافية وحكم آل سعود لا يقترنان. وحتى لو أنه التزم بمحاربة الفساد، هل سيجرؤ على الكشف عن ميزانيّة «أرامكو» لجمهور المستكتبين؟ ولنفترض أنه يريد أن يحارب الفساد، إن موارد النفط في المملكة لا تُنفق فقط على حياة البذخ التي يعيشها الأمراء — وهذا يكلّف الخزينة أعباء باهظة. الحكم السعودي الإقليمي (وحتى الداخلي) اعتمدَ على مدى عقود، ويعتمد، على حروب سريّة (وعلنيّة في عهد بن سلمان) وعلى الرشى السياسيّة في كل المنطقة العربيّة، وخارجها. الحكم السعوي يشتري الولاء بالمال، لا بسحر الشخصيّة أو البرامج التنموية. إن السياسة والحكم السعودي اعتمدتا على مدى عقود طويلة على شراء رؤساء دول، ووزراء ورجال دين وصحافيّين ومثقّفين وزعماء قبائل وعشائر في داخل المملكة وخارجها. هل سيقدّم بن سلمان كشفاً للرأي العام العربي والعالمي عن الإفساد السعودي للحياة السياسيّة والثقافيّة والدينيّة والاقتصاديّة العربيّة؟
قد يصحّ القول إن الحاكم لا يكترث لدعم شعبه وإنه وجد في ترامب داعماً وراعياً له. وفي دعم ترامب مفارقة، لأن الرجل كان في تاريخه من الكارهين (العنصريّين) للعرب والساخرين والناقدين دوماً لآل سعود (هو كان من داعمي قانون «جاستا» الذي يسمح لعائلات ضحايا تفجيرات ١١ أيلول بمقاضاة أفراد العائلة السعوديّة الحاكمة). وديناميكية العلاقة بين الحكومة الأميركيّة وبين النظام السعودي تغيّرت كثيراً عبر العقود، وتغيّر مسار التبادل المالي. في عام ١٩٤٧ منحت الحكومة الأميركيّة مبلغ ١٠٠ مليون دولار للملك عبد العزيز، مقابل سيطرتها السياسيّة والاقتصاديّة في المملكة 4. أما هذه السنة فإن محمد بن سلمان أعلن قائمة مشتريات سلاح أميركي بقيمة ١١٠ مليارات دولار. «المركز» الأميركي يحتاج إلى مزيد من موارد النفط المالية (عبر تصدير البضائع والسلاح الأميركي، وعبر جعل السعوديّة — ودول الخليج الأخرى — تُنفق على الحملات العسكريّة الأميركيّة والأمنيّة في المنطقة. إن الإنفاق الخليجي على الحرب الأميركيّة ضد العراق في عام ١٩٩٠-١٩٩١ أصبح سابقة لن ترضى أميركا عنها بديلاً. طبعاً، هذا الدور السعودي في الإنفاق على الحروب والحملات الأميركيّة ليس جديداً (حتى الـ«كونترا» في نيكاراغوا كانت تحصل على المال السعودي، كما أن النظام السعودي موّل الحزب الديموقراطي المسيحي في إيطاليا لمنع وصول الشيوعيّين إلى السلطة في سنوات الحرب الباردة). الجديد هو في التنافس بين دول الخليج على إرضاء الحاكم الأميركي. يحاول بن سلمان أن يجاري محمد بن زايد في ذلك، لكن النظام الإماراتي أكثر استقراراً من نظامه.

الهدف بات التطبيع
من دون سلام، ومن دون المطالبة بدويلة فلسطينيّة

والتقرّب إلى دولة العدوّ الإسرائيلي هو جانب آخر من خطة بن سلمان في الحصول على الرضى الأميركي. وهناك بوادر عن موافقته على التخلّي عن «مبادرة السلام العربيّ». الهدف بات التطبيع من دون سلام، ومن دون المطالبة بدويلة فلسطينيّة. والمشروع الأميركي الجديد للشرق الأوسط يهدف إلى تحسين طفيف في الوضع الاقتصادي للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، والاكتفاء بإدارة ذاتيّة على نسق «كامب ديفيد» في عهد السادات. هذه الخطة تكسب حظوة في الكونغرس لبن سلمان، لكن كيف سيوفّق بين التطبيع على مستوى عالٍ وبين المصالحة مع مزاج الرأي العام؟ قد يكون الرأي العام السعودي مُصاب — مثله مثل الرأي العام العربي في كل الدول العربيّة — بالخمول وحتى بقلّة اهتمام في موضوع فلسطين، لكن هناك بعداً سعوديّاً دينيّاً تاريخيّاً للقضيّة، وقد ربطه النظام بهويّته الاسلاميّة.
لكن حسابات بن سلمان هي أميركيّة أساساً. اعتمد هو ومحمد بن زايد فيها في عهد ترمب على القرب والتقرّب من جارد كوشنر. وبصمات بن زايد على حكم بن سلمان واضحة، خصوصاً في الاعتماد الأقصى على شركات العلاقات العامّة الغربيّة، مثل تلك التي تعتمد عليها الإمارات في إعلانات عن وزارة السعادة والتسامح فيما يُزجّ بالسجن بمَن يخالف المشيئة الحاكمة بتغريدة أو بـ«تعاطف» ممنوع. وهذه الشركات هي التي كانت وراء إعلان «السماح» للمرأة بقيادة سيّارة في السعوديّة. وهي التي تنظمّ حركات وفود رجال الأعمال في تظاهرات مدينة «نيوم» — التي ستكون عاصمة التطبيع بين الدول العربيّة. لكن هذه الإعلانات الطموحة ستفتقر إلى نتائج، وسيتضح للرأي العام المحليّ ولجمهور بن سلمان في الغرب أن مشاريعه لن تؤتي ثمارها. والحذر (الأميركي) من إعلانات بن سلمان يعتمد أيضاً على الحكم على مساره في قيادة المملكة في السنتيْن الماضيتيْن.
وعندما تسرّب أجهزة المخابرات الأميركيّة ووزارتا الخارجيّة والدفاع هذا الأسبوع قلقاً شديداً من مترتّبات أفعال وسياسات بن سلمان تظهر حدود مصداقيّة الحاكم الجديد. فالحرب في اليمن باتت تشكّل عبئاً على حلفائه الغربيّين، فيما يتضح من تصاريح الحريري في الأسر أن الموضوع اليمني بات يشكّل إحراجاً كبيراً لبن سلمان، خصوصاً بوصول صاروخ بالستي إلى مطار الرياض (ردّدت كل وسائل الإعلام العربيّة كما الغربيّة ان وسائط نظام الـ«بتريوت» تعاملت مع الصاروخ قبل سقوطه، مثلما ان الحكومة الأميركيّة والاسرائيليّة كذبتا في عام ١٩٩١ عن نجاحات نظام الـ«بتريوت»، إلى أن تبيّن في دراسة لأستاذ في جامعة «إم.آي.تي» أن نسبة النجاح بالكاد وصلت إلى ٥٪ من مجمل الصواريخ المُطلَقة). وحربه ضد قطر لم تفشل فقط لا بل هي قرّبت أكثر بين قطر والحكومة الأميركيّة (طبعاً، كان على قطر أن تبتاع الرضى الأميركي عبر شراء المزيد من السلاح الذي لا تحتاجه وعبر زيادة منسوب الضيافة للقوّات الأميركيّة). وزيارة الملك المغربي إلى قطر قبل أيّام دليل على أن محمد بن سلمان فشل في اجتذاب تحالف عربي قوي إلى صفّه. وغياب المنافسة الاقليميّة، بعد سقوط النظام العراقي الصدّامي والليبي وغياب الجمهوريّة الجزائريّة عن الساحة العربيّة، هو الذي أسال لعاب قطر ثم الإمارات والسعوديّة لإحكام السيطرة على الساحة العربيّة لأن المنافسين الجهوريّين التقليديّين لحكّام الخليج غابوا عن الساحة. وأضاف محمد بن سلمان إلى سجلّه القصير والهزيل مسرحيّة استقالة الحريري التي لن تنتهي على مقاسه على الأرجح.
لو نجح بن سلمان في مغامرته سيطبع المملكة ببصماته وشخصيّته لعقود طويلة. لكن سلوكه في سنتيْن يزيد من احتمال فشله القريب والذريع. الحاكم الفردي المُتملَّص من حكم العائلة كليّاً سيحتاج إلى مزيد من العنف والقهر للحفاظ على السلطة. ويحتاج الحاكم إلى صرف متزايد من رصيده ومن شرعيّته لفرض نفسه بالقوّة المفرطة. لكن الشرعيّة السياسيّة في الدول الخليجيّة منذ أيام الاستعمار كانت تسمح بحكم الرجل الواحد لكن المنبثق عن تفاهم في أوساط الأسرة الحاكمة، وغالباً عن تفاهم أوسع بين قبائل وعائلات مؤازرة. أما الحكم المُنفرد، وبموارد ماليّة متناقصة (تقلّص المخزون النقدي السعودي بنسبة الثلث في ثلاث سنوات فقط)، فسيكون عرضة لاهتزاز. وسيحتاج الحاكم لإلقاء القبض على أثرياء المملكة بهدف سرقة أموالهم، ربما من أجل زيادة المخزون المالي— العام والخاص، لا فرقَ — للحاكم الجديد. لكن هذا يؤثّر سلباً على قدرة الاقتصاد السعودي على جذب الاستثمار الغربي الذي ينشده بن سلمان.
يحاول بن سلمان وبن زايد بناء إمبرياليّة صغرى في العالم العربي. يظنّان أن تحالفهما مع العدوّ الإسرائيلي ورعاية واشنطن لهما ستبسط لهما العالم العربي كلّه تحت أقدامهم. والحكومة السعودية التي كانت تتآمر في الخفاء وتتعامل بالسرّ باتت مُجاهرة وهي، مثلها مثل الإمارات (وقطر)، تنشر قوّاتٍ في أراض بعيدة عنها لقلب أنظمة وفرض النفوذ. تحوّلَ العالم العربي إلى مختبر لمغامراتهم ووحشيّتهم وإلى حقل تدريب لقوّاتهم المسلّحة التي تتجنّب المواجهة المباشرة وتعتمد على لذّة القصف الجوي العشوائي عن علوّ شاهق. لكن عندما تصبح هذه الإمبرياليّة الصغرى عبئاً على الإمبرياليّة الكُبرى فإن الثانية ستُحجّم الأولى بسرعة وفعاليّة. الحكومة الأميركيّة تتمتّع بولاء وطاعة الحاكميْن الخليجيّيْن لكن ليس على حساب المصالح الأميركيّة. ولأميركا تاريخ طويل في التخلّي عن حلفاء ووكلاء وعملاء مطيعين. وإذا كان محمد بن سلمان واثقاً من ديمومة الدعم الأميركي القوي له فما عليه إلا التعريج على المكان الذي يحتجز فيه ابن عمه، محمد بن نايف، ليسألَه عن تاريخ الدعم الأميركي القوي له.

هوامش:

1- راجع الرواية الموثّقة لروبرت لايسي، في «المملكة: الجزيرة العربيّة وآل سعود»، ص. ٣٥٦. ومن المعلوم ان لايسي أقام في المملكة لسنتيْن عندما أجرى البحث في موضوع كتابه بناء على دعوة من الملك خالد بن عبد العزيز. وسيرته مبنيّة على مقابلات مع أمراء في الأسرة الحاكمة ومستشاريهم.
2- أذكر ان كريستين هلمز (مؤلّفة كتاب «العراق: الجناح الشرقي للعالم العربي») روت لي عن ابحاثها في العراق ان كثيراً من العراقيّين ماتوا من الكهربة في تلك الفترة لأن الكهرباء ومخاطرها لم تكن معلومة لديهم.
3- بعدما عادت بولا يعقوبيان من السعوديّة وأجرت مقابلة مع سعد الحريري، بمهنيّة، بحسب وصفها هي، أدلت بتصريح في مطار بيروت أصرّت فيه ان المملكة «عطيت كتير من الخير للبلد»، وأنه من الخطأ إنكار ذلك.
4- فريد هاليداي، «الجزيرة العربيّة من دون سلاطين»، ص ٥١.
*كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)