عندما تكون الإساءة من شخص لإيمان مجموعةٍ بشريّةٍ، أكان الإيمان دينيّاً أم فكريّاً، أمرٌ مختلف عن أن تكون الإساءة نتيجة سياسة واعية لرعاعٍ، لأنّ هؤلاء عندها يكونون يقصدون المجموعة البشريّة وحياة أفرادها وليس إيمانهم وفكرهم، وعندها يكون الموضوع موضوع قمع وقد يخفي نيّة جرميّة، ولذا تنبغي مجابهته بالقانون وينبغي نقده بشدّة بطبيعة الحال؛ ولكن الإساءة التي خدشت شعور المؤمنين حول مريم ليست من هذا القبيل، لا من قريب ولا من بعيد.
إنّ نرجسيّة الإنسان تجعل من الأمور العلميّة نفسها شأناً ذاتيّاً وجدانيّاً؛ فنجد الصراع على أشدّه في النظريّات العلميّة نفسها حول أمور تكاد تكون من النوافل، والأمثلة عديدة في علوم الاحصائيّات والفيزياء والنفس. إذا كان الأمر كذلك في أمور العلم، فالوضع أكثر حساسيّة في الأمور الشخصيّة التي تأخذ طابعاً وجدانياً كالأب والأم والأولاد، ومعتقدات الإنسان الإيمانيّة أو الفكريّة (السياسيّة والفلسفيّة وغيرهما).
إنّ معتقدات المرء ليست شأناً فكرياً بحثيّاً علميّاً بالنسبة إليه، بل تتضمّن عاملاً وجدانيّاً؛ ومن هنا فإنّ السخرية من معتقدات الإنسان تثير شيئاً من الانزعاج بسبب عدم الاحترام الذي يشعر به المرء عاطفيّاً، وبالطبع للنرجسيّة دورها هنا، إذ كلّ ما يمسّ معتقدي أعيشه كأنّه يمسّني شخصيّاً كلّما زادت نرجسيّتي. هذا العامل النرجسيّ يمكن ملاحظته عندما أسمح لنفسي بأنّ أمسّ الله ونبيّ طائفتي بألفاظ نابية، وإن لم أفعل ذلك أتقبّل أن يمسّه شخص من طائفتي وعندها قد أتوجّه إليه بالنصيحة واللوم فقط؛ وفي الوقت نفسه لا أتقبل أن يمسّ الله ونبيّ طائفتي إنسان من طائفة أخرى فتثور ثائرتي عليه؛ ففي هذه الحال، لا يغدو الموضوع عندي الله ولا نبيّه، بل أنا، أنا الفرد وأنا المتضخّم بجماعتي الدينيّة أو الفكريّة التي أنتمي إليها. بالطبع النرجسيّة تتضخمّ أكثر عندما تُمزج الطائفة بالموقف السياسيّ، أي عندما تتضخّم ذاتي الجماعيّة بشكل مزدوج: طائفيّ وسياسيّ (هذا إذا استثنينا المنافقين المصطادين في الماء العكر الذين لا يهمّهم سوى استخدام الدين والناس لجني «الأرباح»).
لا يمكننا أن ننزع النرجسيّة نزعاً من نفوسنا. ولكن طالما نعلم بوجودها، ينبغي أن يتريّث الإنسان ويفكّر قبل اتّخاذ موقف منفعل من قضيّة تمسّ «إيمانه»، خاصة أنّ ما قد يكون دعابة في نظري قد يستأهل القتل عند شخص آخر والعكس صحيح، وبالتالي من الضروري أن يتحلّى الإنسان بالهدوء في المواضيع الدينيّة.

لا مريم ولا يسوع ولا الأنبياء يحتاجون إلى من ينتصر لهم

ولكنّ هناك أمراً آخر على الصعيد الإيمانيّ نفسه، وهو مبدأ أشار إليه يسوع، بما معناه : «قبل أن تنظر القشّة التي في عين أخيك أنظر إلى الخشبة التي في عينك»، أي من الضروري للإنسان أن لا يكون منافقاً في مواقفه. كم إنساناً من الذين ينتقدون التطاول على مريم، استهجنوا الذين انفعلوا وغضبوا لمشهد فكاهيّ ساخر عن رجل دين مسلم يجلّه محبّوه؟ وكم من الذين ينتقدون الكلام الوضيع الذي قيل حول مريم، يقولون سرّاً «دعابات» بحقّ المسلمين وإيمانهم لا يليق أن تقال هنا أو في مكان آخر؟
على المؤمنين بالله (وكاتب هذه المقالة منهم) أن يفكّروا في معنى الإيمان. في خضمّ المعمعة الأخيرة حول التطاول على مريم العذراء، أكبر رمز مسيحي بعد يسوع، ينبغي أن يتذكّر المسيحيّون معنى أن يكون الإنسان مسيحيّاً، وما هي التصرّفات (وهي الأمر الوحيد الملموس من الإيمان) التي ينبغي عليهم أن يتحلّوا بها بناءً على إيمانهم. من أهمّ الأمور التي أتى بها يسوع كانت تأكيده رفضه لحرفيّة الدين وتأكيده على روحيّته: محبّة الإنسان ودعم وسائل حياته. ولذلك شفى المرضى وأطعم الجياع، وعندما تكلّم عن الملكوت أكّد أنّه سيسأل الناس عن تصرّفاتهم، بعضهم تجاه بعض: هل أطعموا الجياع؟ هل أعطوا ماءً للعطاشى؟ هل أسكنوا من لا مأوى لهم؟ هل زاروا المرضى والمساجين؟ أي بكلمة أخرى، هل وقفوا إلى جانب هؤلاء الذين همّشهم الاقتصاد السياسي؟ ولو كان يسوع كإنسان على معرفة بعلوم اليوم، لقال هل خفّفتم عن المساكين اليوم؟ وهل سعيتم لإنهاء أسباب الشقاء؟ الإنسان الذي يحيا بلحمه ودمه تباشير الملكوت منذ اليوم، هو إنسان يقف إلى جانب المصلوب اليوم وكلّ يوم، ويساعد في إنزاله عن الصليب، وفي مسيرة قيامته من الموت المعنويّ. دون هذا الموقف الجذريّ المعيوش، كلّ ما نقوله لا يعدو كونه لغواً في لغوٍ. إلى أيّ حدّ كان من غضب حاملاً همّ الملكوت، أي مشاركاً لماله وساعياً لإزالة أسباب الشفاء؟
قد يغضب الإنسان وقد يكون محقّاً في غضبه، ولكنّه ليس محقّاً في كلّ تصرّفاته، وقد لا ينتبه فيكون منافقاً من حيث يدري أو لا يدري. كان يوحنّا الذهبيّ الفم يوبّخ المسيحيّين قائلاً «إنّك تحترم هذا المذبح حينما ينزل عليه جسد المسيح، ولكنّك تهمل وتبقى غير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذي هو جسد المسيح [أي الإنسان الفقير]»
قياساً نقول: إنّك تغضب عندما يهان ذكر مريم ولكنّك تهمل وتبقى غير مبال حينما تفنى تلك التي هي صورة مريم، أي كلّ امرأة اختُطف وقتل ولدها في الحرب، وصُلب مستقبلها ومستقبل أولادها بعد الحرب... وكل امرأة يَعْبُرُ في نَفسها اليوم سيف التحرّش اليوميّ وتشييؤها والقمع والتعنيف المعنويّ والجسديّ، وسيف منع جنسيّتها عن أولادها... هكذا يكون الانتصار الواقعي الإيمانيّ لمريم.
بالطبع لا مريم ولا يسوع ولا الأنبياء يحتاجون إلى من ينتصر لهم، ولا القضيّة هذه تحمل خطّة وحملة شعواء تشنّها جهة على مجموعة بشريّة لها إيمانها، والمسيحيّون الأوّلون تألّق إيمانهم يوم كانت الامبراطورية الرومانيّة تحتقر إيمانهم، تتّهمهم بالإلحاد (لرفضهم آلهتها) وترميهم للأسود. إنّ وجه إنسان واحد يساوي الأكوان كلّها في عينيّ يسوع. لا تضعوا وجهاً ظلماً في السجون ولا نكن منافقين.
للمؤمنين أن يستخدموا أوقاتهم بطريقة أفضل: بالتعاون مع مواطنيهم كي ينتخبوا من هم أهلٌ لقيادة البلاد دون نزاع على النهب، وبذلك يرفعون مستوى المعيشة، ويخلقون فرص العمل ووسائل العيش الكريم، كما وبالامتناع عن انتخاب المجرمين واللصوص، وكي يدافعوا عن النساء والأطفال من العنف المعنويّ والجسديّ. هذه أمور أجدى أن يقضي الإنسان وقته عليها، ولكنّها متعبة، لأنّها تتطلّب جهداً وتعاوناً وتكاتفاً ونفساً طويلاً. وأهمّ من ذلك تتطلّب... إيماناً.
من ينظر بالفعل إلى واقع الحال تصعقه قلّة الإيمان، وإن كان جدّياً في إيمانه، لكان سؤاله: إيماني أين هو؟ ترجمتي لمقتضيات إيماني أين هي؟ أين اشتراكي في عمل جماعيّ في الإطار الوطنيّ؟ لم يقل نبيّ إنّ الإيمان سهل. أين هي تلك الترجمة الإيمانيّة المنفتحة على الجميع، المتعلّمة من الجميع، الفنّية الفكريّة السياسيّة الاقتصاديّة من أجل عالم أفضل؟
* أستاذ جامعي