من يجرؤ على وصف محاولة جعل بهاء رفيق الحريري زعيماً لحزب والده بأنها انقلاب على الخيارات الديموقراطية لأهل السُنة في تحديد قيادتهم السياسية؟ من يجرؤ على وصف مدبري الانقلاب على الرئيس سعد الحريري بـ«التخلف» و«الجهل» بطبيعة لبنان؟ ومن يجرؤ أيضاً، من أهل السنة، على تناول «المبايعات» ومقارنتها بـ«الديمواقراطية» واعتبار من ينساق إلى الأولى غنماً؟
وحده وزير الداخلية نهاد المشنوق استطاع فعل ذلك، ومن على منبر دار الفتوى، بعد لقائه المفتي عبد اللطيف دريان. وقد جاء موقفه صاعقاً لجمهور الحريري غير المقتنع تماماً بأن زعيمه في وضع الرهينة. ولم يتأخر المشنوق في الإعلان، بوضوح، أن الوجهة السياسية هي حماية سعد الحريري وعودته إلى بيروت. يتهدّج صوته أكثر فأكثر عندما يقول إن «ما يمر به لبنان هو أزمة وطنية»، ليفهم الجميع وجوب تفهم ما يحصل في الرياض منعاً لاهتزاز أعمدة الاستقرار اللبناني.
من يصدق، أيضاً، أن مفتي الجمهورية يتوجه إلى الحريري العائد من أزمة في الرياض بأخرى أشد منها معها قائلاً له «نحن معك شاء من شاء وأبى من أبى»؟ الجواب أيضاً عند المشنوق الذي تواصل مع المفتي يومياً خلال أسبوعي أزمة الاستقالة من الرياض، وبقيا على توافق بأن المهم حماية سعد الحريري في الرياض حتى تتأمن عودته، وحمايته في بيروت إلى أن يتخذ قراره النهائي. فكانت نتيجة جهود المشنوق التأكيد على أن سعد هو:
ـــ رئيس الحكومة إلى أن يقرر وحده وطواعية الخروج، أو تبعاً للاستحقاقات الديموقراطية.

وضع المشنوق رصيده
الكبير عند جميع القوى في سبيل عودة الحريري ليقرر هو طبيعة المرحلة المقبلة



ـــ الممثل الأبرز للاعتدال السُني المطلوب لبنانياً وعربياً ودولياً.
ـــ الممثل الشرعي والشعبي والدستوري والسياسي، ما يمنع أي مقايضة أو مبايعة حرصاً على القيمة والمقام.
ـــ هو من يقود عملية التصدي لمحور المقاومة والممانعة والاستراتيجية الإيرانية، لكن من دون اللعب بدماء اللبنانيين.
هذه الثوابت صاغها المفتي، فكان خطابه الذي رفع السقف إلى مستوى غير مسبوق من قبل، وخلاف ما توقعه أحد أيضاً. ولم يسبق لمفت أن فعل ما فعله الشيخ دريان، ولن يكون ما لم يكن هناك نهاد المشنوق.
الجميع أخذ على وزير الداخلية غيابه يومين بعد إعلان الاستقالة. بينما هو كان يدرك أن أحداً لا يحتمل ما تحصّل عليه من معطيات ووقائع، ولا ما يمكن أن تفضي إليه هذه الحيثيات إن صارت في الشارع. في أدائه كان حريصاً على لبنان مثل حرصه على صورة المملكة في وجدان أهل السُنة. تعمد في إطلالته من دار الفتوى ورمزيتها الحسم بأنه حيث يكون سعد الحريري يكون الاعتدال وكذلك الاستقرار والحوار. رصيد المشنوق كبير عند جميع القوى، وقد وضعه من دون تردد في سبيل عودة الحريري الى بيروت «ليقرر هو طبيعة المرحلة المُقبلة وبعد التشاور مع المسؤولين». جال على الرئيسين بري وعون ليثبت التطابق في الموقف من الاستقالة ـــ الأزمة. تصريحه الكثيف سياسياً نقل البلد من حال إلى حال: المشككون بالاحتجاز امتنعوا عن خوض المعارك الدونكيشوتية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي أزقة بيروت. المترددون إزاء الأداء الحريري العام انحازوا إلى جانب الخطاب الوطني المطالب بعودة رئيس حكومة استقال من عاصمة أخرى واختفى.
أيضاً وأيضاً، خاطب المشنوق العالم الساعي وراء الاعتدال بالقول إن ضالته سيجدها في سعد الحريري ولا أحد غيره. بعث برسالة واضحة إلى السعودية بأن أحداً لا يمكنه صناعة الاعتدال وجذب المتهورين غير ابن رفيق الحريري الغائب عن النظر والسمع، والعكس من ذلك يعني احباط السنة لاستنهاضهم بخطاب داعشي لا ينفع بعدها الحديث عن العودة إلى ما قبل عام 1979، زمن بروز رفيق الحريري. السياسة، بحسب المشنوق، تبنيها الوقائع وليس الكليشيهات. الأرض هي من تنبت الزعماء أما السماء فترسل الأنبياء فقط، وهذه مهمة انتهت مع النبي محمد.
أنهى تصريحه وعاد إلى الحلقة الأصدق في بيت الوسط ليخوض معها معركة عودة رئيس الحكومة. براعته السياسية موازية لحرفية موقعه كوزير للداخلية. فبعد انتقاده للمبايعة أعلن فخره بتعليق صورة ولي العهد السعودي على صدره وأداً لفتنة اشعالها عند مدخل طرابلس.
منذ أطل للمرة الأولى من دار الفتوى، بعد يومي غياب، أبطل الصاعقين التفجيريين لاستقالة الرياض، أولاً بإعلانه بوضوح وحسم الإمساك بالوضع الأمني، وثانياً بنفي امتلاك الأجهزة اللبنانية معلومات حول محاولة اغتيال للرئيس الحريري.
بعدها انصرف المشنوق لإبطال المفاعيل السياسية وتعيين التوجهات والاستحقاقات السياسية الداهمة على الجميع. ميز بين المخاوف والتساؤلات. شدد على ضبط الإيقاع، فهو يعي ان «الحريرية السياسية» لا طاقة لها على احتمال شهيدين: الأب والابن، رفيق وسعد! كان مُلحاً على الهدوء بالمعركة لأن التوتر يتحكم بالسُنة لسببين: الأول استقالة غامضة، والثاني القابلية للانزياح نحو المتاجرة بـ«الإحباط» الذي استثمر فيه الانقلابيون كل شيء، بما في ذلك دماء رفيق الحريري.
في كل كلمة كان يقولها كان يترك طريقاً لمن يريد التراجع. لم يزعم امتلاكه معلومة على الرغم من أنه كان بنك معلومات لتقاطع موقعه السياسي مع الأمني. حرص على استخدام كلمة «انطباعي»، ولم يسقط في الهلوسات السياسية والدستورية التي كانت ترمي فقط للتلاعب بجمهور الحريري وأخذه إلى الجحيم. المهمة كانت، برأيه، محصورة في حماية لبنان وسلمه. فهو يعرف عبر أوساط الكونغرس ان فؤاد السنيورة، ومنذ كان رئيساً للحكومة، تبلغ من الادارة الأميركية ان سلاح حزب الله «مسألة تعالج ضمن تسوية إقليمية مع سوريا وإيران». ويومها كان تقدير المشنوق السياسي ان هذا أمر يريح الكاهل السني مما لا طاقة له على احتماله. لكن الآن ما الذي استجد؟ هذا هو السؤال، وجوابه لن يكون عصياً على المشنوق إذ أفتى بالسياسة وأصاب حرصاً على الحريري والحريرية.