رغم أن الدور الفرنسي كان متقدماً في المفاوضات التي جرت إقليمياً من أجل إقرار التهدئة اللبنانية بعد إعلان الرئيس سعد الحريري استقالته من رئاسة الحكومة في الرابع من تشرين الثاني، إلا أن واشنطن كانت حاضرة بالحد الذي غطى التدخل الفرنسي لترتيب خروج الحريري من الرياض وعودته عن استقالته.
ينقل زوار واشنطن ارتياح الحلقة الأوسع في الإدارة الأميركية التي تتعاطى في الشأن الداخلي اللبناني وترسم إطار تدخل الإدارة فيها، لجو الاستقرار الحالي الذي يعيشه لبنان، بعدما حسم الحريري عودته عن استقالته. ورغم أن ثمة تباينات بين الحلقة الأقرب الى الرئيس الأميركي دونالد ترامب والإدارة الموسعة بمعناها التقليدي، حيال طريقة مقاربة ملفات منطقة الشرق الأوسط، كما يحصل في سوريا والعراق، إلا أن استقرار لبنان ظل أولوية أميركية مهما كان شكل التعبير عنها. وجولات السفيرة الأميركية في بيروت اليزابيت ريتشارد ولقاءاتها المسؤولين اللبنانيين، صبت في هذا الإطار، فجددت دعمها للعهد وللمؤسسات الرسمية والأمنية في حفظ الاستقرار وعدم تأثير استقالة الحريري على الوضع الداخلي.
البارز في ما نقله زوار واشنطن مجموعة من الأساسيات تتعلق بالعناية التي توليها واشنطن لأن يكون لبنان حاليا محيَّداً عن الصراعات الإقليمية والتطورات الأخيرة مهما كان شكلها. فالمسؤولون المعنيون في واشنطن يعرفون مدى خطورة التحديات التي يعيشها لبنان، سواء من خلال أزمة النازحين المتفاقمة والمعلومات حولها، ومن خلال محاولات المسّ بالاستقرار الأمني والسياسي وتأثير الخلافات الإقليمية على أرضه. لكنهم في المقابل يبدون حرصاً أكبر بعد كل ما جرى من أجل الإحاطة أكثر بالهموم اللبنانية وعدم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

الحفاظ على الاستقرار، أميركياً، يشمل الداخل كما يشمل استمرار الهدوء جنوباً


لم تكن أزمة استقالة الحريري أزمة عابرة، خصوصاً في ظل بعض التبايانات التي ظهرت في تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين إلى أن اتضحت الصورة النهائية حيال الحريري ودعمه. في محصلة الاستقالة والعودة عنها نتج أمر لافت:
تشيد واشنطن بقدرة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على تفادي القطوع الذي مر به لبنان من دون خسائر تذكر. علماً أن الود كان مفقوداً بين بعبدا وواشنطن التي تعتبر عون قريباً من حزب الله، وكان واضحاً هذا التباين خلال زيارة رئيس الجمهورية الى نيويورك. وتكمن مفاجأة الأوساط الأميركية أنها اعتادت ردود فعل حادة من عون في بعض المحطات السياسية أو كانت تنتظر منه تصرفاً أكثر قساوة تجاه حدث كالذي حصل. لكن تجربته الأولى كرئيس للجمهورية في استحقاق أساسي له بعد إقليمي، كانت ناجحة بالنسبة إليها، لأنه تمكن من تحقيق خطوة مهمة بالمعايير الديبلوماسية والسياسية، واستطاع تحقيق إجماع لبناني حوله من خلال الاتصالات واللقاءات المحلية والإقليمية والدولية التي أجراها، وحقق عودة الحريري بما تحمل من أبعاد تحفظ الاستقرار الداخلي. وهذا الأمر كان بمثابة المفاجأة الإيجابية، يفترض أن تتبلور أكثر من الآن وصاعداً في طريقة التعامل الأميركي مع رئيس الجمهورية.
لا يزال حفظ الاستقرار الداخلي أولوية بالنسبة الى واشنطن. صحيح أن الولايات المتحدة تنسق مع السعودية وترعى الحركة الداخلية التي يقوم بها ولي العهد محمد بن سلمان، وهناك شكوك في أن بعض المقربين من البيت الأبيض كانوا على اطلاع على قضية الحريري قبل حصولها، إلا أن الأسلوب الذي تعاطت الرياض مع الحريري به، شكل مفاجأة لها. وهو الأمر الذي كاد يهدد الاستقرار الداخلي وهذا خط أحمر بالنسبة الى واشنطن، ما دفعها الى التدخل وإعطاء الضوء الأخضر لفرنسا معطوفاً على الإحاطة السياسية والمبادرة التي قام بها المسؤولون اللبنانيون سياسياً وأمنياً لضبط الوضع وعدم السماح بأي تدهور أمني ترتبه الاستقالة. وواشنطن تريد استكمال مروحة اتصالاتها لأن ما جرى منذ سنة وحتى الآن يمكن أن يبنى عليه لإبقاء لبنان ساحة استقرار، لا علاقة لها بتفجيرات المنطقة.
وبقاء الاستقرار يشمل، أميركياً، الداخل كما يشمل الجنوب. والنقاشات الأميركية تذهب في ضرورة الاستمرار في رعاية الهدوء جنوباً لأن الأمن كل لا يتجزأ مهما تنوعت أخطاره، ولا ينفصل أيضاً عن ضرورة حماية الحدود وحفظ الامن في المنطقة، وعدم السماح بأي مغامرة اسرائيلية.
والاستقرار الذي يعني واشنطن يشمل الامن بطبيعة الحال، وخصوصاً ان الولايات المتحدة فعّلت المساعدات العسكرية والأمنية، وأيضاً المجال الاقتصادي والمالي وعدم المس بهذا القطاع شرط حفاظه على المسلمات الأساسية المعمول بها. وهي إذ تراقب كل شاردة فيه إلا أنها حريصة على عدم ترك تأثيرات سياسية عليه بما يترك سلبيات مباشرة في لبنان.
لكن واشنطن تفصل بين حرصها على الوضع الداخلي، وإشادتها بأداء رئيس الجمهورية والقوى السياسية في تخطي أزمة الحريري واستمرار رعايتها للقطاعين الأمني والمصرفي، وبين موضوع حزب الله. فهي لا تزال مصرة على تنشيط العقوبات المالية عليه، وتميز بين مراقبتها لأنشطة حزب الله في الملف الاقتصادي والمالي، وبين موقفها من الإطار المالي والنقدي للبنان، ما يجعلها تبحث في حصر تأثيرات عقوباتها على أسماء وجهات محددة.