لم تحجب الأزمة الحكومية خطورة ما يتعرض له لبنان من مضاعفات في ملف النازحين السوريين، لا بل إن الإطلالات الدولية التي واكبت الأزمة وضعت هذا الملف كأولوية من دون أن تتضح خريطة الطريق لإيجاد حل نهائي يمهّد لعودتهم الى بلادهم، علماً بأن المفاوضات الجارية حول سوريا يفترض أن تساهم في بلورة بعض الاقتراحات حول هذه القضية، بوصفها مشكلة دولية وأوروبية تماماً، كما تعني دول الجوار ومنها لبنان.
قبل أسابيع قليلة، طرح تقرير لبناني رسمي، أمام مراجع غربية، أعداد النازحين السوريين في لبنان التي باتت تؤثر ديموغرافياً واجتماعياً واقتصادياً على الوضع اللبناني الداخلي. يتحدث التقرير عن كيفية ازدياد أعداد النازحين والصعوبات التي يعانيها لبنان في تحمل أعبائهم، وأضاء على جانب آخر من المشكلة، إذ أشار الى الولادات السنوية المرتفعة التي لا تسجل في لبنان ولا في القيود السورية الرسمية، ما يترك التباسات على وضع المواليد السوريين الجدد، ومستقبلهم في لبنان.
وطرح التقرير على المراجع الغربية السؤال الآتي: ماذا لو أصبح نصف سكان دولكم من غير السكان الأصليين؟ اتخذ السؤال أهميته عند المقارنة بين الهواجس التي تحكم الولايات المتحدة حالياً في ظل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في معالجة الهجرة غير الشرعية أو في عجز دول أوروبا عن احتواء موجات اللجوء إليها. وقد لاقى التقرير مع الأمثلة التي طرحت حول المصاعب والأعباء الاقتصادية والأمنية والاجتماعية اهتماماً في ضوء مثابرة لبنان على طرح هذا الملف كأولوية، إذ إنه ضاعف في الأشهر الأخيرة تحركه لإيجاد مخارج ليس للتمويل فحسب، وإنما لوضع أسس العودة على الطاولة، وخصوصاً في ظل استتباب الأوضاع في عدد من المناطق السورية. وقد استفاد من أزمة الحكومة واهتمام الدول الأوروبية بلبنان منعاً لتفاقم أزمة النازحين وخروجهم منه إليها، للنفاذ من هذه النقطة والتركيز على إنهاء هذا الملف.

تسوية ما بعد أزمة استقالة الحريري يفترض أن توحّد الرؤية والخطاب حول النازحين



وبحسب مصادر سياسية، فإن التسوية السياسية «الثانية» التي انطلقت بعد أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري يفترض أن تصبّ في توحيد الرؤية والخطاب حول النازحين، بعد سنوات من التجاذبات بين تيارين سياسيين (المستقبل والوطني الحر) صارت مقاربتهما لملفات حساسة تكاد تكون واحدة. وهذا ما يفترض استثماره لوضع خطة قابلة للتنفيذ تحسم الجدل العقيم حول الترتيبات المفترضة لتأمين العودة.
مشكلة النزوح لا تقف عند حدود الأعداد وحسب، ولا عند الأزمات المتصلة بها، بل تتعداها الى ما قد ينتج من تأخر الحلول. بحسب الخبراء المعنيين في متابعة قضايا النازحين في العالم، أن ما بين 17 إلى عشرين في المئة من مجموع أعداد النازحين في العالم، لا يعودون الى بلادهم ولو حلّت الأزمة التي كانت السبب في نزوحهم، بل يبقون في الدول المضيفة في صورة غير شرعية، كما حصل في دول أوروبية عدة.
اندماج تدريجي من دون هوية
من الصعب تماماً قراءة وضع النازحين في لبنان من دون التعامل بواقعية مع أحداث مماثلة، ولو كانت تبدو للوهلة الأولى بديهية. فقضايا النزوح تصبح في نهاية المطاف متشابهة. فكيف الحال في دول متجاورة تتشابك فيها القضايا المشتركة والملفات السياسية والأمنية، وفي مجتمعات متقاربة لغوياً ودينياً واجتماعياً كلبنان وسوريا؟
ينصبّ الاهتمام اللبناني على الواقع الأمني المتعلق بخطورة وضع النازحين، ربطاً بالعمليات الإرهابية أو الجرائم التي ارتكبها نازحون. لكن لا يمكن حصر المشكلة بخريطة توزع المخيمات من جنوب لبنان الى شماله وكثافتها في البقاع مثلاً. يتعاظم الاحتجاج على انخراط السوريين في دورة الحياة اليومية، كونه يمثل عصباً سياسياً له تداعياته المستقبلية، لأنه يتعلق برغبة الاندماج الذي يسعى إليه النازح السوري مهما كان انتماؤه وهويته وطائفته، ليصبح فرداً في المجتمع اللبناني، من دون هوية تثبت انتسابه، علماً بأن هذا الاندماج ينطلق من وقائع يومية، تتعدى أن المجتمَعَين يتحدثان لغة عربية واحدة ويضمّان الطوائف نفسها.
هناك أمثلة كثيرة يعيشها اللبنانيون في تعاملهم اليومي مع السوريين النازحين خارج المخيمات، وهي في ظاهرها تبدو مشاهد عادية، لكنها تحمل في طياتها ركيزة أساسية لهذا الاندماج التدريجي، وهو ما لفت قلة من السياسيين الذين يتحدثون عن مراكز نفوذ سورية تجارية أو اقتصادية أو اجتماعية في بعض المناطق. ورغم أن غالبية النازحين يتوزعون حالياً على المخيمات المكتظة، هناك أيضاً دفع مطّرد نحو الإقامة في شقق سكنية وتحضير بنية لافتة لأعمال حرفية وتجارية. ثمة مناطق باتت معروفة في كل المحافظات، يتحول فيها السوريون، من خلال فتح محالّ تجارية وصناعية، إلى عنصر أساسي في الدورة الاقتصادية المحلية. والقضية أبعد من مجرد منافسة تجارية، أو مقاربة تتعلق بسوق العمل والمضاربة فحسب.
يقول وائل وهو عامل سوري مراهق من حماة ويقيم في منطقة جبلية، إنه يتعلم أن يتحدث بلهجة لبنانية لا سورية، لأنه يريد أن يبقى في لبنان ولا يريد لأصدقائه أن يعرفوا أنه سوري. تشكل اللهجة سبيلاً الى محاولة التكيف مع واقع جديد، وخصوصاً أن رفاقاً له لا يزالون يعيشون وطأة التمييز في المدرسة بين اللبنانيين والسوريين. ولا تنحصر محاولة الانتقال من سوريا الى لبنان بالمعنى المجازي، على فئة معينة أو على نازحين من طبقات فقيرة. فالسوريون المسيحيون الآتون من مناطق انحسر فيها الخطر الأمني، قياساً الى مناطق الحرب الأخرى، يحاولون عبر الكنائس والمدارس الخاصة التي يسجّلون فيها أولادهم الذوبان في مجتمع يتماهون فيه طائفياً.
ورغبة الاندماج عند الأهل في الطبقات الميسورة تعادل رغبة الطلاب الذين يسجلون نسبة نجاح عالية. والمفارقة أن النزوح السوري لم يخفف من محاولة الحفاظ على الحواجز الطبقية بين أثرياء يتعاملون مع الواقع اللبناني على أنه قد يكون محطة عابرة، أو سبيلاً الى العيش برفاهية تضاهي تلك التي كانوا يعيشون فيها في سوريا، وبين طبقات فقيرة تسعى في الحد الأدنى الى البقاء في لبنان أملاً بمستقبل أفضل.
لا يريد وائل العودة الى سوريا، بسبب ما يراه في لبنان من حياة يومية لم يعرفها في بلاده التي لم يشاهد فيها سوى الحرب. مثله مثل أحمد الذي يعمل في محل تجاري، رافضاً في أي شكل العودة الى سوريا التي عاد أهله إليها. يندمج الشابان في الحياة اللبنانية اليومية، خارج إطار المخيمات والحدود المفروضة عليها، وهما يخرجان من إطار العامل اليومي الضيق، ليتحولا إلى موظفين بالمعنى الشرعي للكلمة، مع كل ما تحمل هذه الصفة من إطار اجتماعي مختلف عن إطار العمال اليوميين. مثلهما مثل عشرات الصبايا السوريات اللواتي يعملن في صالونات التزيين والمحال النسائية والسوبر ماركت، ولا يرغبن في مغادرة لبنان، لييس لأسباب سياسية، ومنهنّ من توالي عائلاتهن النظام السوري.
مئات الأمثلة عن الحالات السورية في إقامة أطر حياتية متكاملة ومجتمعات تسعى الى الاختلاط مع المحيط اللبناني ولو حافظت على روابط اجتماعية وعائلية مع موطنها الأصلي. وهذا ليس تبسيطاً لأنه في التفاصيل اليومية، التي تحتاج الى دراسات مفصلة، تكمن الحلقة التي لا تلحظها المفاوضات السياسية، رغم أنها عنصر حيوي في قراءة التحول في الوجود السوري في لبنان. وما كتبه الباحثون والسياسيون حول بدايات اندماج المهاجرين الأوروبيين يشبه تماماً ما يحصل عندنا. وقد يكون التمثل بتجربتهم ومعالجتهم أقصر طريق لإيجاد حلول سريعة لأزمة النازحين.