المشهد اللبناني بين عام وآخر، يعيد الجميع إلى دائرة الانتظار. المصير السياسي وحتى الاقتصادي ـــــ الاجتماعي، سيكون رهن نتائج المواجهة القائمة بشأن سوريا الآن. أما مصير حاجات الناس اليومية، فهي مرتبطة بالقدرة على فرض وقائع جديدة تمنع القوى النافذة من ربط مصالح الناس بحسابات هذه القوى وشخصياتها. في لبنان فئة من المواطنين، تملك مقدرات مالية تتيح لها صرف ما يوازي الحد الأدنى للأجور شهرياً، مقابل حصولها على طاقة كهربائية من دون انقطاع. وهي توزع هذا المقابل بين شركة كهرباء لبنان وأصحاب المولدات. هذه الفئة لا يمكن أن تتجاوز 10 في المئة من اللبنانيين في أعلى التقديرات. أما بقية الناس، فهم صنفان: الذين يقدرون على صرف نحو مئة دولار بين الشركة والمولد، والذين يمضون ساعات طويلة في العتمة.
حقيقتان ثابتتان: الأولى أن مشكلة الكهرباء لا تميّز بين مواطن وآخر. والثانية، أن أي لعبة إحصائية لا يمكنها أن تشير إلى الفوارق السياسية والطائفية بين المواطنين. وبالتالي، نصبح جميعاً في مواجهة السؤال البسيط، ولكن الأصعب: من يمنع معالجة ملف الكهرباء في لبنان؟
بمقدور الجهات الرسمية، من رؤساء ووزراء ونواب وتقنيين وموظفين كبار، أن ينخرطوا في معركة إلقاء المسؤولية، لمدة تستمر لعقدين من الزمن. لكن الطريف في الأمر هو أن الجمهور الذي تضرر من دون أي تمييز بسبب أزمة الكهرباء، سرعان ما يقرر أن يجري عملية فرز له، فيتحول المتضررون إلى جمهور يناصر هذا المسؤول ويخاصم ذاك. إلا أن المحصّلة تكون في آخر النهار: الكهرباء لا تزال مقطوعة، وأصحاب الدخل المرتفع (وهم هنا بغالبيتهم من الرؤساء والوزراء والنواب والموظفين الكبار إلى جانب آخرين) يمكنهم التنعم بالطاقة من دون انقطاع، بمعزل عن مصدرها، سواء كانت الدولة أو القطاع الخاص.
لكن النتيجة الأكثر مأساوية، هي أن يملك المال الذي يتيح له التنعم بالكهرباء طوال الوقت، لا يهتم ولا يكون منزعجاً، ولكنه يشارك في عملية الاحتجاج، ما يعني أن الذين يتنافسون على تعطيل الحل، لا يهتمون بالأمر على المستوى الشخصي؛ لأن واقعهم المادي يتيح لهم الحصول على الطاقة طوال اليوم، لكن الجمهور الذي وحّدته مشكلة الكهرباء، وفرّقه الاصطفاف السياسي والطائفي، ينتهي به النهار إلى كيل ما تيسر من شتائم ضد الدولة.
وبعد ذلك، هل من حل؟
طبعاً، لن يتوقع أحد أن تبادر الحكومة إلى علاج من دون النظر إلى الهوية السياسية للقائم على المشروع، ما يعني أنّ من الممكن توقع استمرار الأزمة ما دام وزير عوني مسؤولاً عن المهمة. وهي المشكلة ذاتها لو جاء وزير حريري. ما يعني أنه ليس في الأفق ما يشير إلى الحل.
طبعاً، لن يستفيق اللبنانيون على هدية مجهولة المصدر تمنحهم الطاقة الكهربائية طوال الوقت. ولكنهم سيستمرون في الاحتجاج والتأفف وشتم هذا أو ذاك من المسؤولين.
طبعاً، لن يكون هناك إجماع يتيح تحركاً شعبياً موحداً لإرغام السلطة على المباشرة في تنفيذ مشروع حقيقي يعيد الطاقة الكهربائية، ولو خلال مدة زمنية معينة.
فما الذي يمكن أن يعوّل عليه المرء في مثل هذه الحالات؟
لا شيء سوى الجنون.
لا شيء سوى الخروج من المنازل ومن الحارات، ومن الأحياء الضيقة ومن القرى المهملة، والتوجه مباشرة، من دون إذن أو سماح، نحو منازل المسؤولين، ونحو مكاتبهم، ونحو مقارهم الرسمية أو الخاصة، ونحو مصانعهم، ونحو المطاعم التي يأكلون فيها، أو المقاهي التي يقصدونها، وأن يعمد الناس، بجنونهم، إلى تخريب كل هذه الأمكنة، إلى منع الكهرباء عنها، وإلى منع الشموع أيضاً، وإلى منع القداحات إذا لزم الأمر.
لا شيء سوى الجنون، أن يُجبَر كل من معه 400 دولار يدفعها شهرياً للحصول على طاقة كل الوقت، على الاحتفاظ بأمواله لنفسه، وإشعاره بأن هذه النعمة غير قابلة للصرف في لبنان.
إزاء هذا القدر من القهر المتواصل، وإزاء هذا الغباء المسيطر على عقول الناس، فلا يتحركون، ويحتجون بطريقة بدائية متخلفة، وإزاء اللامبالاة التي تسيطر على من بيدهم الأمر، ليس لدينا سوى الجنون.
وفي حالة الجنون، لا داعي لانتظار توحد الناس خلف زعيم أو خطيب أو خطاب. ولا داعي لانتظار تركيبة تراعي التوازنات الطائفية والمناطقية وما إلى ذلك من قاذورات القوى الطائفية في لبنان.
في حالة الجنون، يحتاج لبنان إلى مئة شاب وصبية، يملكون العقل والإرادة لإعداد مشروع تخريب حياة المترفين وأصحاب الحظوة والنفوذ، وأن يقدموا على عنف مشروع، عنف يرعب هؤلاء، ويجعلهم يتحسسون رقابهم، أو جيوبهم لا فرق، وهو عنف يجعل السلطة وأهلها وأزلامها يتوحدون أكثر مما هم متوحدون الآن، لكن وحدتهم هي الكفيلة بجعل الشارع يخرج من دون عناصر التمايز القائمة بين عناصره الآن، وحده العنف الذي يجعل البلاد أمام خيار لا بديل له: المساواة في الانتفاع أو المساواة في الضرر.
إذا خرج مئة شاب وصبية في حفلة الجنون هذه، فسيفتحون كوّة في الجدار السميك الذي بنته القوى الطائفية وعصابات سرقة المال العام والخاص في البلاد. ومتى فتحت هذه الكوّة، يصبح لدينا الأمل بدولة حقيقية ولو بعد حين!