النزعة الجوهرانية لليلى سليماني تضرب مجدداً. ففي رد على نص انهزامي نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية في التاسع من كانون الثاني وقعت عليه كوكبة من 100 من النسوة باسم «حرية المضايقة»، انبرت ليلى سليماني في مقال لها مصبوغ بالنرجسية تحت عنوان «خنزيراً ولدت» تخط ملامح طبقة جديدة من الجوهرانية الثقافية، وهي التي تحمل لواء نسوية تتفرد بها البرجوازية الصغيرة.
وبالرغم من اشتراك النصين في الدفاع عن النظرة السلبية لحرية تتجاهل الواقع الملموس لتمثل بحد ذاتها المسار الوحيد لـ«لبرلة» الأخلاق كمنطلق للتحرر، غير أن مقال سليماني يعيد إنتاج خطاب جوهراني ثقافي سبق وأن أسهبت الكاتبة في الحديث عنه في حوار يبعث على الحيرة وينم عن الجهل مع كمال داوود. تكتب ليلى في مقالها «هل ستقلق النساء اللواتي يسرن في شوارع القاهرة ونيودلهي وليما والموصل وكنشاسا وكازابلانكا من غياب الإغواء والنخوة؟ وهل لديهن الحق في الإغواء والاختيار والمضايقة؟». كلا. فهؤلاء التعيسات المقيدات بمجتمعاتهن والمختنقات بالأغلال الأخلاقية ينتظرن تلك الطلائعية المتشدقة بتحرر المرأة لتنتزعهن من حالتهن البائسة وترسم لهن الطريق إلى الملذات التي لا تردعها أيّ من أوجه الكبت.

برهنت سليماني عن
فكر مرتبك وحسّ نقدي مبتذل في برنامج تلفزيوني جمعها بكمال داوود


وبذلك تعلن ليلى سليماني، تلك المتمردة زوراً والمتسلحة بمديح الإعلام الفرنسي، انصياعها للخطاب التقدمي المعتد بنفسه الذي يرسي علاقة سببية صارمة بين لبرلة الأخلاق فالتحرر فالتقدم. تروج المربية الليبرالية الليبرتارية الفاضلة لفردية نرجسية مُتْعَويّة تشكل واجهة لانكفاء النفس وتلتف حول الاستغلال الجامح للعلاقات الاجتماعية والوظيفة الممنهجة للبرالية الثقافية القائمة على تبرير الظلم والعنف اللذين تولدهما الهيمنة الرأسمالية. وفي خلاصة تنم عن غباء مدهش، تدعو واعظتنا إلى عالم تستطيع فيه ابنتها «التجول في الشارع ليلًا بتنورة قصيرة وثوب مقوّر الصدر» و«الصعود في الميترو عند منتصف الليل من دون خوف أو حتى التفكير في الأمر مرتين»، راجية ألا يكون هذا العالم «متزمتاً» بل أكثر «عدالة» و«تزداد فيه لعبة الإغواء جمالًا وجرأة». ذلك يعني أن العدالة تلقى صداها في احترام الحريات الفردية المحصورة في الجنس والرفاهية والاستهلاك على حد وصف الكاتبة، وهو ما يمكن اعتباره تصوراً ضيقاً عن الحرية ويغفل الرابط بين النوع الاجتماعي وعلاقات الإنتاج أو ينتقص من شأنه.
ولقد برهنت سليماني عن فكر مرتبك وحس نقدي غليظ ومبتذل في برنامج تلفزيوني جمعها بكمال داوود (حلقة من برنامج «Au Coeur de la nuit» بُثت على قناة ARTE في 7 أيلول 2017). وفي خلال ما يقارب الساعة من النقاش المضجر الذي مزج بين الأفكار المسبقة والجوهرانية والصور النمطية التي تختزل الواقع والأحكام المتعالية حول مجتمعيهما، راح داوود وسليماني يحصيان العلل التي يعانيها شعباهما المتخلفان، فتطرقت الكاتبة لأحد العيوب الأكثر انتشاراً، ألا وهو ثقافة النكران، قائلة إنّ «العاطفة تؤدي إلى الحب، والحب إلى الجنس، وفجأة هناك مشكلة في الجنسانية. أتدري أنك حين تشاهد قبلة على التلفاز يقولون لك ‹حرام› في حين أن القبلة لا تنم إلا عن الحب، وبالتالي بات من المستحيل الحديث عن الحب».
وتذهب سليماني إلى تسليط الضوء على النقص في بناء شخصية الفرد، بحيث يشكل هذا النقص عاملًا مفسرًا لوطأة الضغط الاجتماعي والخوف من ردود الفعل الانتقامية. لا جديد يذكر، فشأن الكاتبة الفائزة بجائزة جونكور لعام 2016 شأن الكتّاب المغاربيين/ات ممن ركبوا/ن الموجة الاستعمارية الحديثة بفعل خطاب فريد. تعيد سليماني إنتاج خطاب ثقافوي لتبرز ضرورة إزالة التابوهات وكسر المحظورات الثقافية لكي يتمكن الأفراد، الذين لا يعدون كونهم كائنات غرائزية، من تقبل أنفسهم بحرية. فبحسب عقيدة الفردية الليبرالية المقدسة، ينبغي تنظيم الحياة الاجتماعية بعيدًا عن أي أحكام خاصة. كما عبرت سليماني عن فانتازيا طبقة سيضعها التمسك بقيم الحداثة الغربية من خلال لبرلة الأخلاق في طليعة التغيير. لا يهم إن كان الخطاب الذي تنشره لا يتماشى وتطلعات شعب لا يعدو كونه عبءاً كبيراً عليها. وفي حوارهما الذي ينضح بالاستشراق الحديث، نفهم سبب احتقار روح الجماعات المعجونة بالثقافة العربية الإسلامية، والتي لا مكان لها في مجتمعهما المنشود. وفي حين يعتبر داوود أن «اللغة العربية لغة لا جنسية»، ترى سليماني أنها «لغة منزوعة الجنسانية» على عكس اللغة الفرنسية التي هي إيجابية و«أنثوية».
وبعيداً عن استخدام الفئات التصورية الأشبه بفقاعة الصابون في تماسكها فإن هذين الكاتبين يأسفان في حقيقة الأمر للدور المدمر الذي أدّاه الإسلام، وفقًا لهما، في تجريد العربية من الإشارات إلى «الثمالة» و«النشوة الجنسية.» وبالتالي فإن هذه اللغة العربية التي صاغت الانتماء إلى ثقافة وتاريخ زاخرين وتجاوزت الانتماءات الإثنية والدينية لتصبح أداة لتطور حضارة ذات نزعة عالمية، هذه اللغة باتت لب المشكلة بفعل «أدلجتها» و«تسييسها»، كما لو أن اللغة، في أماكن أخرى من العالم، لم تؤدّ دورًا إيديولوجيًا وسياسيًا، وأن الفرنسية لم تكن لغة الاستعمار التي نشرت خيالات إثنو-ثقافية عن المجتمع الفرنسي.
وسط هذا الفيض من الغباء الوقح، يبرز الخطاب الحتمي بشأن الإسلاميين الذين يطاردون المخيلة الداوودية. وتضيف سليماني بخبث «بحثت في كتابي عن الفتاوى الأكثر غرابة وسخافة، فهم أصلًا مهووسون بالجنس ولا شيء غير الجنس يشغل تفكيرهم»، فيرد داوود «لقد أسميت ذلك الإسلام البورنوغرافي». تنتقد الكاتبة ما تعتبره نفاق المغاربيين المولودين لعائلات هاجرت إلى أوروبا والذين يصوتون للتيارات الإسلامية المحافظة للحفاظ على الفولكلور، فتقول ممتعضة إنهم «يريدون الحفاظ على تقاليدهم التي ما هي إلا فولكلور. هذا نفاق. هنا يستفيدون من الحرية والحداثة، أما في بلادهم فيرجعون إلى الفولكلور»، مضيفة أنها «لن تعود لتعيش في المغرب» بل تأمل حدوث تغيير «في مجتمعاتنا» لتصور نفسها على أنها قدوة للسكان الأصليين والمهاجرين، بمعنى آخر نموذج مطلق وجوهري عن «العربي الصالح».
ما هو إذاً هذا المشروع البديل الذي تحمله سليماني؟ هل هو تحول ثوري في العلاقات الاجتماعية يقلب البنى المهيمنة للقطعان تلك؟ تبرر سليماني لداوود قائلة «لا أمثل متعوية جديدة»، والمتعوية هنا كنهضة لمشروع سياسي واجتماعي في عالم عربي يعيش أزمة، وخطاب برجوازي لأولاد دانون لا يمت لواقع الطبقات العاملة المادي بأي صلة. تكمن المشكلة الحقيقية، التي تطرحها الحالات المماثلة لحالة سليماني وداوود وآخرين مثلهما، في النقد الاجتماعي البعيد عن الواقع الذي تدفع به نخبة صغيرة من الفرانكوفونيين باسم حراك صغير جدًا للطبقة المتوسطة العليا غير قادر على الخروج من المأزق الاستهلاكي. إن هذا الصخب الذي يُصوَّر على أنه من طلائع «الثورة تحت الزنّار»، على قاعدة تمثيل خيالي ونرجسي، بعيد كل البعد عن الواقع.