حتى قبل احتواء تنظيم «داعش» في وادي الفرات والشمال السوري، كان الأميركيون يعدّون استراتيجية مزدوجة للميدان السوري في «حرب هجينة» تشمل سوريا بعمليات عسكرية، وإحياء ما تبقى من المعارضة الشعبية. أما في دمشق ومناطق سيطرة الجيش السوري، فهم يحاولون، منذ عام، ترميم شبكات العمل المدني عبر التركيز على تمويل الجمعيات الإغاثية، وتأهيل شخصيات تعدّ للنشاط الاحتجاجي مستقبلاً، وترث التنسيقيات، وتواصل استراتيجية إسقاط النظام وزعزعته ومنعه من إعادة الإمساك بسوريا مجدداً.
وبحسب باحث في الشؤون السورية في واشنطن، عرض دومينيك غراهام مدير جمعية «ميرسي كوربس» الأميركية قبل سنة أمام باحثين ومسؤولين عن الملف السوري، تصورات لاستعادة المبادرة «المدنية»، عاد بها من دمشق التي زارها آنذاك. وكان المسؤول الأميركي وصل الى دمشق في ذروة التدخل الروسي وانكفاء الرهانات الغربية على دخول دمشق بالقوة. فرض هذا التدخّل على الأميركيين الإعداد لخطة بديلة من الحرب بالواسطة التي اعتمدتها واشنطن، بعد هزيمة المجموعات المسلحة السورية التابعة لها وخسارتها أبرز معاقلها في حلب وحمص والغوطة، تتعامل مع فرضية استعادة الجيش السيطرة على الأراضي التي فقدها خلال الحرب. ويقول الباحث إن الأميركيين لم يغادروا سياسة تغيير النظام. فبعد خسارتهم معركة إسقاطه بالقوة المسلحة، يعودون اليوم إلى استراتيجية المحافظين الجدد بالتغيير التدريجي، والعمل تحت أقدام النظام تمهيداً لمحاولة قلبه لاحقاً. ويوضح أنهم سيعملون مجدداً على إحياء اللجان المدنية، ما إن تتراجع العمليات العسكرية، بتأهيل الشخصيات التي برزت في العمل الإغاثي في المدن والبلدات وتشكيل شبكات اختراق منهم. ويستغل «الإغاثيون» العجزعن تمويل إعادة الإعمار على مستوى المركز، لتشجيع المبادرات الفردية للقيام بجزء من هذه المهمة عبر تمويل المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة.
وبعد اعتزاله العمل في تركيا وعودته إلى أوروبا، يقول واحد ممن أشرفوا على عمل التنسيقيات في الداخل السوري وتدريب عناصرها في ذروة ازدهارها، إنه لن يكون سهلاً إعادة ترميم التنسيقيات تحت مسميات جديدة حتى ولو جرى اعتماد المنظمات الإغاثية، أو تمويل المشاريع الصغيرة لإحياء العمل المدني. كما أنها لن تكون قادرة على خلافة منظمات أكثر قوة وخبرة منها جرى اعتمادها خلال السنوات الماضية، أو تفادي الصراعات بين مموليها، والتي أدت إلى هجرة الكثير من كوادرها إلى أوروبا أو هلاكهم. وبحسب هذا المستشار الأوروبي السابق لـ«المجلس الوطني» و«الائتلاف السوري»، استخدم الأميركيون والبريطانيون منظمتي «شامونيكس» و«أرك» واجهة لتمويل العشرات من التنسيقيات والجمعيات المدنية السورية، التي شكلت الإطار الأول للاحتجاج في سوريا، قبل أن تجتاحه العسكرة والسلفية في وقت لاحق. ويقول المستشار المعتزل إن تنافس الأجهزة الغربية والتركية على استخدام كوادر التنسيقيات والمجتمع المدني آنذاك في استراتيجيتها السورية، تحول إلى حرب من التصفيات التي ذهب ضحيتها ناشطون بكّروا في قيادة الاحتجاج السوري. وهكذا قامت المخابرات التركية باغتيال ناجي الجرف، في غازي عنتاب قبل عامين تقريباً، بعد الاشتباه بتقرّبه من الأميركيين. وتغاضت السلطات التركية عن ذبح «داعش» لابراهيم عبد القادر وفارس حمادي في أورفه في تشرين الأول 2015، في حربها ضد مجموعة «الرقة تذبح بصمت» بعد الاشتباه بدورها في عمليات رصد مواقعها لمصلحة المخابرات الأميركية، و«التحالف الدولي»، وتوريط عناصرها في أعمال تتجاوز العمل السلمي إلى التجسس لمصلحة الأجهزة الأميركية، التي باتت تعد اليوم لمواجهة روسيا قبل كل شيء، وهو ما يفسر إلى حد بعيد إهمالها الخروقات الكبيرة في الشرق السوري التي حققها محور المقاومة بعد معركة البوكمال، وإعادة فتح طريق بيروت ــ دمشق ــ بغداد ــ طهران، الذي لم يمنع إغلاقه، تدفق الدعم الجوي نحو أركان المحور في بيروت ودمشق وغيرها.
حتى فترة ليست ببعيدة، اعتقد الكثيرون أن روسيا والولايات المتحدة توصلتا إلى تفاهم ضمني حول سوريا، على الرغم من أن مضمونه بقي محطّ تأويلات بين جازم أنهما اتفقتا على تقاسم النفوذ، ومن ذهب إلى يقين بأن الولايات المتحدة لزّمت روسيا إدارة الملف السوري لقاء تعاونها في الإجهاز على «داعش» و«القاعدة». عزز ذلك الاعتقاد سعي جدي لدونالد ترامب مطلع عهده للتقارب مع روسيا، نتيجة لقناعته أن المواجهة الناجحة مع الصين تقتضي ذلك، وبسبب العلاقات الخاصة التي جمعته بمسؤولين ورجال أعمال روس. اعتبر التفاهم على سوريا قاعدة صالحة للتقارب بين القوتين الدوليتين. غير أن «النواة العسكرية» في فريق ترامب، الأكثر تمثيلاً لرؤى ومصالح الدولة العميقة في الولايات المتحدة، لم تكن لتوافق على هذا التوجه أبداً. يعود ذلك إلى موقفها من روسيا كتهديد استراتيجي للولايات المتحدة، وليس من النظام في سوريا، أو من الحرب ضد الإرهاب.

الأميركيون سيعملون مجدداً على إحياء اللجان المدنية


تباين «النواة العسكرية» اتضح في البواكير من أيام الإدارة. تواردت التسريبات عن مشاريع وزير الدفاع جايمس ماتيس، لتحديث القدرات العسكرية الأميركية المكرّس أكثرها لمواجهة روسيا، والكفيلة ـــ إذا ما تم تحقيقها ــــ بإطلاق سباق تسلح بين القوى العظمى. يأتي الإعلان مؤخراً عن استراتيجية الدفاع الوطني، والوثيقة النووية، اللتين أعدهما «البنتاغون» بإشراف مباشر من ماتيس، ليحملا الدليل أن تلك المشاريع باتت الاستراتيجية الرسمية للولايات المتحدة، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على الأوضاع الدولية عموماً، وعلى العلاقات الروسية ــــ الأميركية بشكل خاص.
في سياق كهذا، وبدلاً من أن تكون ساحة تقاطع ومقايضة بين هذين الطرفين، تحولت سوريا تدريجياً إلى ميدان مواجهة، تعتمد فيها مختلف تكتيكات الحرب الهجينة لاستنزاف روسيا وحلفائها. وحرص وزير الدفاع الأميركي، اللاعب الرئيسي في تحديد الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة، على الإعلان شخصياً عن تلك الوثيقة التي تلخص استراتيجية الدفاع الوطني، شاهراً أبوّته للنص المصنف «سري للغاية». خلال مداخلته أمام جامعة جون هوبكنز، أعطى ماتيس طابعاً دراماتيكياً لميزان القوى العسكري الدولي، ناعياً «الميزة التنافسية للولايات المتحدة التي تتراجع في جميع مجالات الحرب». وعلى الرغم من تحديد الوثيقة خمسة تهديدات رئيسة للأمن القومي الأميركي، من الصين إلى روسيا فكوريا الشمالية، فإيران والجماعات الإرهابية. غير أن الأولوية لا تزال هي التصدي للتهديدين الروسي والصيني.
تتعدد ساحات المواجهة غير المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة، من بينها سوريا. التدخل الروسي في سوريا استراتيجية «راجل متهور»، من وجهة نظر العسكرية الغربية. يشبّه ميشال غويا، العقيد البحري الفرنسي، هذه الاستراتيجية، بعبور راجل الطريق رغم رؤيته للسيارة التي تتجه نحوه بسرعة، مما يضطر سائقها للتوقف تجنباً للارتطام بالراجل العابر. تدخّلت روسيا فجأة وعلى نطاق واسع مجبرة القوى الدولية على الحد من تدخلها في الصراع السوري. يلحظ غويا أن الحرب الدائرة في سوريا موزاييك مركّب من أطراف عديدة، تحذوها أهداف وأجندات مختلفة. ما لا يقوله غويا هو أن هذه السمة الموزاييكية المعقّدة، قد تسمح للاعب دولي بالتخادم مع لاعب آخر ضد الخصوم. وإذا عدنا إلى نموذج «الراجل المتهور»، يحجم السائق عن صدمه، تاركاً الأمر لسائق يليه.
الجدير بالذكر أن الجنرال ماتيس، هو من ابتكر مفهوم الحرب الهجينة. ففي مقال حرّره في العام 2005 مع العقيد فرانك هوفمان، بعنوان «حروب المستقبل، عصر الحروب الهجينة». ابتغى في مقاله التأثير على النقاش الدائر في الولايات المتحدة، عشية الإعداد لاستراتيجات الدفاع الوطني بعد انقضاء عامين على غزو العراق. ساجل وزير الدفاع الأميركي ضد رؤية سلفه دونالد رامسفيلد، التي قالت بتخفيض عديد القوات والاعتماد على التكنولوجيا المتطورة، وأوصى بزيادة هذا العديد، واعتماد مكافحة التمرد لهزيمة المقاومة العراقية. ماتيس الخبير في الحروب الهجينة وداعيتها، فرصته الكبرى مواجهة روسيا في سوريا.




ضد «المنافسين»


تشير الباحثة في الشؤون الأمنية والاستراتيجية في معهد «بروكينغز»، مارا كارلن، إلى أن «الشعار المركزي لاستراتيجية الدفاع الوطني، منافسة ـ ردع ـ انتصار، موجّه ضد المنافسين الرئيسيين، وكذلك التركيز على تطوير القدرات القتالية والجهوزية كشرط لتمكين الجيش الأميركي، من استعادة تفوقه على الجيشين الروسي والصيني. بحسب هذه الاستراتيجية فإن إعطاء الأولوية للمعارك المقبلة تأتي على حساب خوض المزيد من المعارك حالياً ضد لاعبين غير دوليين… يجب على روسيا والصين النظر بعيون قلقة إلى هذه الاستراتيجية، وقراءتها مع كأس فودكا وبايجو».
بديهي أن مشاريع تطوير القاذفات الاستراتيجية والصواريخ الباليستية، والأنظمة المضادة للصواريخ، والقوات البحرية، ليست موجهة ضد «القاعدة» أو «بوكو حرام». يتجلى التركيز أكثر على روسيا في الوثيقة النووية التي تقع في 75 صفحة، والتي تحمل هي أيضاً بصمة ماتيس، وكلماته في مقدمتها. فبعد أن تعلن إن العالم أضحى أكثر خطورة من السابق، تخلص إلى أن ذلك يعود لامتلاك روسيا مخزوناً نووياً ضخماً، موصية تالياً واشنطن أن تتزود بأسلحة نووية جديدة، ذات قوة محدودة. كانت مقدمة ماتيس للوثيقة في منتهى الوضوح. يبرر وزير الدفاع الأميركي التوصيات، بما يسميه «توسيع روسيا لقدراتها وطبيعة استراتيجيتها وعقيدتها. هذه التطورات التي تواكب سيطرتها على شبه جزيرة القرم، وتهديداتها ضد حلفائنا تدل على عودة موسكو إلى المنافسة مع القوى العظمى». لا غرو أن العالم ينحو على ضوء تلك التطورات، إلى المزيد من التوتر وعسكرة العلاقات الدولية. حدا ذلك باندريه غراتشيف، آخر من تيسرّ أن ينطق باسم ميخائيل غورباتشوف، خاتم رؤساء الاتحاد السوفياتي، إلى توصيف الوضع الدولي بأنه «أجواء ما قبل حرب» شبيهة بتلك التي مهّدت للحربين العالميتين الأولى والثانية.