هل تعرفون قصّة طائرات «لايتنينغ»؟ كانت صفقة الـ«لايتنينغ» بين المملكة العربية السعودية وبريطانيا، في أواسط السّتينات من القرن الماضي، أولى صفقات السّلاح الضّخمة بين الخليج والغرب، وباكورة لتعاون طويل بين المملكة وشركات السلاح العالميّة. في تقريرٍ لها عن الموضوع، قالت صحيفة الغارديان إنّ صفقات السلاح الخليجيّة هي ــ وحدها ــ ما أبقى شركة «بريتيش آيروسبايس» مؤسسةً رابحة خلال نصف القرن المنصرم.
من النّاحية الاقتصاديّة البحتة، فإنّ صفقات السلاح الخارجيّة هي أسرع وسيلة حتّى ترمي أموالك في البحر. حتّى العقارات الكاسدة وأسهم البنوك المنهارة، الّتي تهوى الصناديق العربيّة شراءها قبل كلّ أزمةٍ في الغرب، تبقى لها قيمة معيّنة بعد حساب الخسائر. أمّا السّلاح، فهو سلعةٌ لا تنتج شيئاً، تكلّفك مبالغ باهظة حتّى تستحوذها، ومبالغ أكبر حتّى تشغّلها، ثمّ تدفع كلفة اتلافها حين ينتهي عمرها ويصيبها الصّدأ. في الغرب، هناك منطقٌ ما يحكم هذا الإنفاق: تلك المبالغ الباهظة تذهب ثمناً لأبحاث ورواتب لمهندسين وعلماء وعمّال، وقد أتقنت الولايات المتّحدة ربط الانفاق العسكري بتنمية القاعدة الصّناعيّة في البلد. أمّا حين تستورد سلاحاً من الخارج، فأنت ببساطة تقدّم للغير مساعدات اقتصاديّة.
اليوم، تنفق السّعوديّة ما يزيد على ستّين مليار دولار في صفقات سلاحٍ جديدة مع الولايات المتّحدة، والإمارات خلفها بقليل. أغلب المال السّعودي سيذهب لشراء طائرات اميركيّة من الجيل الرّابع، فيما تنفق كلّ من اسرائيل، الهند، روسيا، الصّين، ونصف دول اوروبّا أقلّ من عُشر هذا المبلغ لتصميم وحيازة طائراتٍ من الجيل الخامس، لن تلتقطها رادارات الـ«اف ــ 15» السّعوديّة في أجواء المعركة. الجميع يعرف عن صفقة اليمامة في الثمانينات، لكن هل تعرفون قصّة الـ«لايتنينغ»، وصفقة الـ«اف ــ 15» الأولى، وصفقة الـ«اف ــ 16» الاماراتيّة؟ هذه ثلاثة أمثلة تلخّص بذاتها نهجاً في «التسلّح»، تثبت الصفقات الأخيرة أنّ الحكومات في الخليج لا تزال تتبنّاه بإصرار.

أوّل الصّفقات

للوهلة الأولى، تبدو طائرة «لايتنينغ» خياراً غريباً لسلاح الجوّ الملكي السّعودي. المقاتلة صمّمتها «شركة الطائرات البريطانيّة» (التي ستصبح «بريتيش ايروسباسيال» في ما بعد) في الخمسينات، لتصدّ القاذفات السّوفياتيّة، إن أرادت ضرب جزيرة بريطانيا بالقنابل النوويّة. الطائرة مصمّمة لتطير بسرعةٍ فائقة على ارتفاعات عالية، لكنّها متخصّصة بالاعتراض فقط، وهي غير قادرة على القصف أو المناورة أو الطيران الفعّال على ارتفاعات منخفضة، وتلك كانت بالضبط القدرات التي يحتاج إليها السعوديّون في حال تورّطهم باليمن وحروبها القبليّة. لكنّ الإعلان تمّ فجأةً عن شراء سلاح الجو السّعودي لأكثر من أربعين مقاتلة من ذاك الطراز، في صفقةٍ عدّت حينها من الأضخم في تاريخ صناعة الدفاع البريطانيّة.
القصّة الحقيقيّة لتلك الصفقة كشفتها الوثائق الدبلوماسيّة بعد عقودٍ. السعوديّون ذهبوا أوّلاً الى الأميركيّين، طالبين تسليحهم ومعربين عن رغبتهم باستعمال وارداتهم النفطيّة لشراء عدّة أسراب من الطائرات الحديثة. الأميركيّون صُدموا بالطلب في البداية، وهم على يقينٍ من أنّ الطيران السعودي الفتيّ غير قادر على استيعاب توسّع مفاجئ من ذلك النوع. في الوقت نفسه، كان الأميركيّون يخوضون نقاشات حادّة مع البريطانيّين في المجال الاستراتيجي. البريطانيّون كانوا يرفضون التخلّي عن أوهامهم الامبراطوريّة، وهم يريدون قوّة نوويّة خاصة بهم وصناعة دفاعيّة مستقلّة. الأميركيّون حاولوا إقناع البريطانيّين بأن يوفروا المال والجهد وأن يفهموا أنّ العالم قد تغيّر وأنّهم غير قادرين على منافسة القوى العظمى، وأنّ خير ما يفعلونه هو الانضمام للمظلّة العسكريّة الأميركيّة، وشراء سلاح الأميركيّين ومعدّاتهم، بدلاً من تصميم أنظمة أكثر كلفة و أقلّ تقدّماً.
برنامج «لايتنينغ» أقنع البريطانيّين بتلك النظريّة. حين أنهت «شركة الطائرات البريطانيّة» تصميم المقاتلة، اكتشف السّاسة البريطانيّون أنّ أميركا صارت تصنع طائرات الفانتوم بالمئات، وهي أكثر تقدماً من طائرتهم، ومتعدّدة الأدوار، وأقلّ كلفةً بكثير. وافق البريطانيّون على مبدأ شراء الفانتوم بدلاً من انتاج اللايتنينغ، لكن ظلّت مشكلة: أنفقت شركة الطائرات البريطانيّة مئات الملايين من الجنيهات على تصميم وانتاج لايتنينغ، وقد أوصى الجيش مسبقاً على عدّة أسرابٍ منها. ما العمل بالطائرات الفائضة؟ هنا، لمعت عينا المفاوض الأميركي، وتذكّر الطّلب السّعودي. اتّصل بالرّياض وقال: ما رأيكم بأن تشتروا احدى أكثر المقاتلات تقدّماً في العالم؟
بالطّبع، تمّ اغلاق خطّ انتاج اللايتنينغ ولم تبع الطائرة، خارج اطار الصّفقة السّعوديّة، نسخة واحدة في تاريخها. الاستثناء الوحيد كان في عشرين طائرة اشتراها سلاح الجوّ الكويتي بالتّزامن مع الصفقة السعودية، الّا أنّ الكويتيّين سرعان ما اكتشفوا أنّ طواقمهم لن تستوعب الطائرة، فتمّ استبدالها بسرعة. الى اليوم، توجد ثلاث نسخ من المقاتلة تزيّن مدخل قاعدة جابر الجويّة، وهذا كان الاستخدام الأنفع لـ«لايتنينغ» في بلادنا.

اسطورة الـ«اف ــ 15»

أمّا في أوائل الثمانينات، فقد انتشر خبر عزم السعوديّة شراء أكثر من ستّين طائرة اف ــ 15، أكثر طائرات العالم تقدّماً (وسعراً) في ذاك الزّمن. أثارت الصفقة اعتراضاً اسرائيليّاً واحتجاجات، وصوّر لنا بيع الطائرات للسعوديّة على أنّه انتصار عربيّ على اللوبي الصهيوني، وخطوةٌ جديدة على درب تحرير فلسطين. في الحقيقة، كلّ من يستطيع أن يقرأ باللغة الانكليزيّة كان بإمكانه أن يراقب التحليلات الأميركيّة التي كانت كلّها تؤكّد أنّ الطائرات هي معدّة لتخويف العراق وايران، وغير موجّهة ضدّ اسرائيل، وأنّها لن تتمركز في القواعد القريبة من فلسطين. كلّ ذلك معقول، الّا أنّ الأميركيّين أضافوا بنداً الى الصّفقة حوّلها الى مهزلة حقيقيّة: الطائرات التي ستباع للسعوديّة لن تكون مجهزة برادار للقصف الأرضي، أي أنّها ستكون قادرة على مهام الاعتراض فقط، وليس القصف.
عدنا الى ما يشبه الـ«لايتنينغ»: ميّز طائرة اف ــ 15 كونها من أوائل الطائرات القادرة على اداء أدوارٍ متعدّدة بالكفاءة نفسها: القصف، الاعتراض، المواكبة، الحرب الالكترونيّة. لا أدري أيّ عقلٍ جهنّميّ في البنتاغون خطر له أن يأخذ طائرةً متقدّمة من الجيل الرابع، فيحوّلها الى مقاتلة معترضة من الستّينات، ثمّ يسوّقها بناءً على شكلها الجذّاب. هذا يشبه تماماً أن تشتري سيّارة مارسيدس، ولكنّها مزوّدة بمحرك هيونداي، ثمّ تدفع ثمنها على أساس أنّها فيراري.
طائرة اف ــ 15، بنسخها المتعدّدة، لا تزال عماد سلاح الجوّ السعودي، هي كلّفت على مدى خدمتها ــ وستكلّف ــ مئات المليارات، وهي قد أسقطت الى اليوم أربع طائرات «معادية» بالضبط: اثنتان لايران واثنتان للعراق. ثمّ حظيت نماذجها الأكثر تقدّماً (والتي تمّ شراؤها بعد حرب الخليج الثانية) بـ«شرف» قصف قرى وبلدات صعدة منذ عامين.

تمويل الأبحاث الأميركيّة

في أواخر التسعينات، استدرجت الامارات عروضاً لتجديد وتوسيع اسطولها الجوّي. تقدّمت أغلب الشركات الأوروبيّة المتلهّفة على الصّفقات: فرنسا مع «رافال»، بريطانيا مع «يوروفايتر»، وروسيا مع أحدث نسخات «سوخوي». الطائرات كلّها حديثة وتنتمي الى أواخر الجيل الرّابع، ثمّ وقع اختيار الامارات على طائرة اف ــ 16 التي تمّ تصميمها في الستينات. تفسير ما حدث يزيد الموضوع غرابة. أعلنت الامارات أنّها دخلت مع شركة لوكهيد المصنعة للطائرة بـ«شراكة» لتصميم أكثر النماذج تقدّماً من المقاتلة، وأنّ «تبادلاً تكنولوجياً» سيحصل، وأن الامارات ستدخل «شريكاً تجاريّاً» في انتاج «اف ــ 16 بلوك 60»، وستحصل على حصّةٍ من أرباح كلّ صفقة مستقبليّة. هو فتحٌ جديد في مجال التسلّح العربي!
بالطبع، طائرة «اف ــ 16 بلوك 60» لم (ولن) تَبع نسخةً واحدة خارج الامارات، ولم يحصل تبادل تكنولوجي بين «لوكهيد» وصناعة الطيران والفضاء الاماراتيّة (والامارات، بالمعنى الديموغرافي للكلمة، عدد مواطنيها أقلّ من أن يُنتج المهارات الكافية لتشغيل وصيانة سربين حديثين من الطائرات، فضلاً عن صناعتها). سبب ولادة الـ«بلوك 60» بسيط: ما فعلته الامارات هو أنّها دفعت ثمن تطوير رادارٍ كانت «لوكهيد» واميركا تحتاج إليه لمشروعٍ آخر.
من أهمّ القفزات في تكنولوجيا الرادار كانت تحويله من آلة ميكانيكيّة الى آلة رقميّة. ما يسمى «الرادار الصلب» (أي الذي يرسل الموجات عبر نبضات إلكترونيّة، لا عبر أجهزة ميكانيكيّة متحرّكة) ثوّر مجال الطيران في العالم، وكان للغرب فيه أسبقيّة واضحة على الاتحاد السوفياتي. في التسعينات، تمكنت التكنولوجيا من تصغير حجم هذه الرادارات الى حدّ يسمح بتركيبها على الطائرات المقاتلة: رادار واحد يتولّى مهام القصف الأرضي والاعتراض والكشف وتوجيه الصواريخ ومسح التضاريس، يطلق نبضات إلكترونية متغيّرة على الدوام وبوتيرة هائلة، لا يمكن التشويش عليها أو تتبّعها. رادار كهذا هو من أهمّ مواصفات طائرات الجيل الخامس. شركتا لوكهيد وغرومان كانتا المتعاقد المكلّف بتصميم رادارٍ بهذه المواصفات للطائرة الاميركية المستقبليّة، «اف ــ 35» (التي ضمنت اسرائيل الحصول عليها). مشروع الطائرة كلّف أكثر كثيراً من التوقعات وواجه كلّ أنواع المشاكل التقنيّة والاقتصاديّة، وقد تمّ تقليصه عدّة مرات. انتاج الرادار سيكلّف لوكهيد «كمشة» مليارات من الدولارات، والربحيّة لم تعد مضمونة. هكذا ولدت «اف ــ 16 بلوك 60»: «لوكهيد» اتّفقت مع الامارات حتّى تموّل تطوير الطائرة (ورادارها الحديث من تصميم غرومان هو «التطوير» الفعلي الوحيد فيها)، ثمّ أخذت الرّادار نفسه، وباعته لمشروع «اف ــ 35»!
يتّفق نوام تشومسكي وتشارلز تيللي، كلٌّ من زاوية مختلفة، على أنّ المال وحده لا يصنع جيوشاً، بل التجربة والاحتكاك بالمعركة وبأتونها. تشومسكي يقول إنّ القوى الأوروبية لم تهيمن على العالم بفضل الثورة الصناعيّة والتقدم التقني (فالاستعمار بدأ قبل التصنيع بقرون)، بل بفضل تكنولوجيا عسكريّة أوروبية وثقافة حربيّة أنتجتهما قرونٌ من الصراع المستمرّ بين الدول الصغيرة في القارة. أمّا تيللي، فيجزم أنّ الفتوحات في تكنولوجيا الحرب والتنظيم العسكري هي ما سمحت لبلدان أوروبية بأن تهيمن وتسود، ورمت بغيرها في غياهب النسيان.
لا تملك أي دولة عربيّة تجربة مماثلة في خوض «الحرب الشاملة» وبناء المؤسسات اللازمة لمجهود كهذا – مع استثناء وحيد هو عراق الثمانينات. تهرّبت جميع دول المواجهة (باستثناء مصر عبد الناصر) من خوض حربٍ حقيقيّة مع اسرائيل ومن التحضير لمهمّة بهذا الحجم. في الوقت نفسه، أُنفقت مئات المليارات على صفقات سلاحٍ هي، في الحقيقة، عمليّة نقل للثروة من الخليج الى الغرب. ضدّ من تتحضّر هذه الدّول؟ ايران والعراق؟ انت لن تشتري جيوشاً بالمال ولن تتعلّم الحرب في كتاب، لكن هناك أساسيّات اسمها الجغرافيا، واسمها الديموغرافيا، والجميع يعلم أنّه لو اعتمدت المواجهة على القدرات الذاتية للمتحاربين، فإنّ كلّ تكنولوجيا الأرض لن تغيّر في هذه الأساسيّات: ايران (أو العراق) ستكون في الكويت في خمس دقائق، وفي السعودية في نصف ساعة، وفي الامارات في اليوم التّالي.

* طالب دكتوراه علوم سياسية في جامعة كاليفورنيا ــ بيركلي