لندن | «آل سعود... عائلة في حالة حرب» (House of Saud: a family at war ــ إخراج جون أكين، ومايكل رودن، وليو تيلينغ) سلسلة وثائقيّة (3 حلقات) بريطانيّة تنقل للعالم رسالة العام سام على لسان المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA ديفيد بتريوس: تضامنوا معنا لدعم بن سلمان، وابقاء العائلة السعودية في الحكم من أجل استقرار الإقليم والعالم، وعفا الله عمّا سلف!
عندما أعلنت «بي. بي. سي» على غير العادة أنها ستقدّم سلسلة وثائقيّة من ثلاثة أجزاء عن آل سعود بوصفها «سلالة في حرب» (انتهى عرضها أخيراً علىBBC Two ـ ومتوافرة على موقع الهيئة)، وقف المراقبون عند ذلك استغراباً. فالنظام البريطاني على تعاقب حكوماته، كان وراء تمليك هذه السلالة معظم جزيرة العرب. لمئة سنة تقريباً ـــ تأسست المملكة رسميّاً عام 1932 لكن الاتفاقات مع آل سعود تمت أثناء الحرب العالميّة الأولى ـــ بقي النظام البريطاني الراعي الرسمي والشريك الأهم في تمكين آل سعود من رقاب العباد وتحويل مملكتهم إلى قاعدة الإمبريالية الاستراتيجية الأهم في الشرق العربي، على نحو قد يجعل دولة الكيان العبري (إسرائيل) بالمقارنة مجرد نكتة ثقافيّة سمجة. ورغم المشاركة الأميركية الصريحة في تبني السلالة السعوديّة منذ لقاء الملك عبد العزيز مع الرئيس فرانكلين روزفلت على متن «الطرّاد كوينسي» عام 1945، فإن العلاقات البريطانيّة بالسلالة بقيت مركزيّة ومتينة وثابتة، لا سيما لناحية مأسسة النهب المنظم لعوائد النفط وتبييض الأموال (وإنفاقها) من خلال أسوأ شبكة فساد في التاريخ المسجّل كله. علام تأتينا إذن «بي. بي. سي» - الذراع الإعلاميّة لهذا النظام البريطاني الملوّث ـــ بوثائقي ضخم مثل «آل سعود... سلالة في حالة حرب»، وفي هذا التوقيت تحديداً؟
لم يطل الانتظار حتى عرضت الحلقات الثلاث، لتقدم إضاءات مختارة على مناحي الفساد في أعلى هرم السلطة السعودية: التورّط في الإرهاب، الفساد المالي وما يتبعه من فساد أخلاقي، والعبث اللامحدود بمصائر الشعب العربي في الجزيرة... نصل بعدها إلى نقطة الذروة في التّطور الدرامي للسرد، حين يُطرح محمد بن سلمان (32 عاماً) بوصفه المنقذ الأعظم من تلك الحالة المتردّية التي آلت إليها أوضاع البلاد والمنطقة.
هذه السلسلة التي تعد أضخم إنتاج من نوعه في تاريخ الوثائقيّات عن آل سعود، مجرّد قطعة بروباغندا صيغت بذكاء شيطاني للترويج لشخص محمد بن سلمان، وبناء وعي مزّيف في عقول المشاهدين بأن نجاح نجل الملك سلمان في مغامرة القفز على عرش مملكة الرّمال، مسألة لا بدّ منها لضمان استقرار الإقليم، بل استقرار العالم أجمع، وفق رسالة بليغة من الجنرال ديفيد بتريوس في لحظة ختام السلسلة.
بنية السرد في الوثائقي، تتبع نموذجاً يعرفه المحترفون في مجال الدعاية وصفته خبيرة الاتصالات الأميركية نانسي دورتي في دراستها التحليليّة لأسرار نجاح الخطابات المفصليّة في التاريخ، مثل خطاب مارتن لوثر كينغ (لديّ حلم...)، وكذلك خطاب تقديم ستيف جوبز لفكرة الـ «آي فون» للجمهور للمرة الأولى... تقوم تلك الطريقة في السرد على أساس أن تنطلق من مشكلة لها تاريخ وحاضر، وتعيد تقديمها مرات عدة، ومقارنتها كل مرّة بما يجب أن تكون عليه الأوضاع بحيث تظهر الهوّة هائلة بين ما هو قائم فعلاً وما يمكن أن يكون. هكذا، تبنى القناعة في ذهن المشاهد بالحاجة الماسة لحلٍّ، قبل أن يطرح عليه في النهاية «المُنتج» المراد تسويقه.
تمحورت الحلقة الأولى حول تاريخ المملكة في دعم «مقاتلي الحرية» (وهم بالطبع جنود الاستخبارات المركزية الأميركية تطلقهم حيث شاءت في أفغانستان ويوغسلافيا وسوريا والعراق واليمن وليبيا، لكن الوثائقي لا يشير إلى تلك الحقيقة بالطبع). هؤلاء القتلة، تلقوا دعماً مباشراً من المملكة تجاوزت قيمته 90 مليار دولار في أقل من عقدين من دون ذكر الدعم اللوجستي والدعائي والمخابراتي والدبلوماسي وتجنيد أبناء الجزيرة وفقراء المسلمين السذج عبر العالم لمصلحة «الجهاد» الأميركي.
يستعرض الوثائقي نماذج من هذا الدعم للتطرّف في البوسنة والهند وسوريا، مع توسع في وصف خط صفقات الأسلحة والذخيرة التي تشتريها السعوديّة باسمها من مصانع السلاح في شرقي أوروبا (بلغاريا العضو في الاتحاد الأوروبي). أسلحة لا يستعملها الجيش السعودي، تُشحن بالطائرات إلى الأردن وتهرّب من هناك بمعرفة المخابرات الأردنيّة إلى الجنوب السوري مع صناديق النقد ومواد الدّعم القتالي والإغاثي المختلفة. بالطبع، لا تذكر السلسلة دور الاستخبارات الأميركيّة في تنظيم هذه الشبكة وتوجيهها بين دول الخليج ومصنعي السلاح ودول الممر (الأردن وتركيا)، رغم أن «نيويورك تايمز» نفسها كشفت في تحقيق لها عن خلاف رئيسي مع الأردن عندما تبيّن أن بعض منسوبي المخابرات الأردنيّة سرقوا جزءاً من الأسلحة التي كان يُفترض تهريبها إلى سوريا وباعوها في السوق السوداء، ليقتل ببعضها مواطنون أميركيون في جرائم مختلفة طالتهم في المنطقة.
دفاع الضيوف الغربيين في الوثائقي عن المملكة، كان بقولهم إنّ ذلك الدّعم تمّ من خلال أفراد أثرياء أو جمعيات خيريّة مشبوهة، وليس بالضرورة من قبل النظام السعودي نفسه. لكن عبد الله المعلمي ممثل السعوديّة في الأمم المتحدة خالفهم بالقول بأن الدّعم للثورة السوريّة المزعومة قد حصل بالفعل، لكن بالتأكيد للمنظمات غير المصنفة إرهابية. دفاع أشبه بالإدانة التامة، علماً بأنه من المعروف أن قلب شبكة تمويل «مقاتلي الحرية» منذ فاتحة الانقلاب في أفغانستان السبعينيات إلى اليوم لم يكن سوى (الملك الحالي) سلمان بن عبد العزيز شخصيّاً.
الحلقة الثانية كان محورها الفساد المالي، وغايتها تبرير ليلة انقلاب الـ «ريتز» عندما قبض محمد بن سلمان على 500 من أثرياء المملكة بمن فيهم 11 أميراً (لحق بهم رئيس وزراء لبنان) وألقوا بالسجناء في فندق الـ «ريتز كارلتون» الفاخر في الرياض. لأجل ذلك، استدعيت مجموعة من الفضائح المعروفة من تاريخ فساد العائلة منذ فضيحة محمود فستق (عمولة لشراء أسلحة بريطانية تذهب عمولتها عبر فستق ـــ زوج أخت الأمير - لجيب الأمير عبد الله أيّام شبوبيته) مروراً بأيّام الملك فيصل الذي سلّم إخوته وزارات السّيادة، لتتحول إلى مراكز قوة وآبار نهب وفساد، وانتهاء بعبد الله وقد صار ملكاً. السّرد حافل بالأرقام القياسية التي تجعل كل حادثة بمثابة أكبر عمليّة سرقة أو خداع أو فساد في التاريخ، على رأسها فضيحة التسليح الطويلة المدى المعروفة باليمامة مع البريطانيين. هؤلاء كانوا يدفعون بعلم صريح من مقر رئاسة الوزراء مليارات الجنيهات لتذهب كعمولات ورشاو في حسابات الملك (وبعض أقاربه المتنفذين بمن فيهم الأمير سلطان، ملك صفقات الدّفاع، وأولاده، والوليد بن طلال الذي تجاوزت عمولاته 57% من قيمة العقود...) تسهيلاً لعقد الصفقات التسليحية الكبرى.
البريطانيون ـــ كما لو أنهم تجار يحكمون جزيرة ـــ يفسرون ذلك بضرورات استراتيجيّة للحفاظ على الصناعات العسكريّة البريطانيّة في مواجهة المنافسة الأميركيّة والأوروبيّة الشديدة، من دون أن يغمض لهم جفن سواء لناحية تفسير اشتراك دولة تدعي الديمقراطيّة في نهب منظم لمقدرات دولة تحكمها مافيا عائليّة أو حتى لناحية الموقف الأخلاقي نحو ضحايا النظام السعودي في داخل السعوديّة أو في سوريا أو اليمن وغيرها ممن يُقتلون بأسلحةٍ ومعداتٍ بريطانيّة. والملوك هنا ـــ بحسب الوثائقي ــ هم فقط السابقون فهد وخالد وعبد الله، لكن حتماً من دون ذكر الملك سلمان.

مجرّد قطعة بروباغندا صيغت بذكاء شيطاني للترويج لشخص محمد بن سلمان، وبناء وعي مزّيف في عقول المشاهدين


إذاً توحي السلسلة أن كل الفساد قد توقف بتوليه العرش، وأن ابنه المدلل في خطوته المسرحيّة في الـ «ريتز» سيقضي نهائياً على الفساد. دفاع ديفيد بتريوس كان بأن الجميع كانوا يعلمون بوجود الفساد في المملكة، وأن محمد بن سلمان هو الأمل لاسترداد ما تبقى منها. وبشّرنا بأن الأخير يخوض «ثورة» حقيقيّة ستغيّر كل شيء وستزهر الصحراء.
الحلقة الثالثة تستمر في السياق نفسه، وهذه المرّة تركّز على فضائح الجنس والدّعارة الدولية حيث مقدرات الدولة السعوديّة في خدمة توريد بائعات الهوى من كل أنحاء العالم، لا سيّما من بريطانيا والولايات المتحدة. فتيات يقبضن مبالغ طائلة مقابل قضاء أوقات حميمة مع أفراد العائلة الحاكمة. كذلك، تشير إلى امتلاك النظام السعودي أنظمة تعد الأكثر تطوراً في العالم للتحكم ومراقبة وإفساد أدوات التواصل الاجتماعي. فأكثر من نصف حسابات تويتر السعوديّة مثلاً يديرها موظفو أمن سعوديون، وتقنيات اختراق الأجهزة الإلكترونية ومراقبتها لا يمكن بالفعل مواجهتها. أمر يجعل المرء في المملكة لا يأمن حتى لأهل بيته. أيضاً، تطرّقت الحلقة إلى حملات الإعدام والتنكيل بالمعارضين، والضحايا المدنيين في اليمن (دافع عنها المدير التنفيذي لـ «معهد الجزيرة العربية» في واشنطن علي الشهابي بقوله إنّها حرب ضروريّة ربما لم يسوّق لها بما يكفي). بعد هذه الرحلة المتعبة، نصل معاً إلى القناعة بحتميّة التغيير المنهجي في ذلك البلد المنكوب، ليُطرح محمد بن سلمان تحديداً كحلّ وحيد أخير... هو الذي أصبح بعد انقلابات قصر غامضة مدعومة من واشنطن، يمتلك زمام الدولة الأخطر في المنطقة عبر سيطرة تامة على الأجهزة الأمنيّة، وعلى معظم ثروة البلاد محميّاً بقانون لمحاربة الإرهاب يسمح بسجن أو إعدام من يعارض أو يذكر بن سلمان شخصيّاً بسوء: الدولة أنا، وأنا الدولة.
استدعيت للتعليق والشهادة في السلسلة الوثائقيّة شخصيات عدة أغلبها ذات وزن في ما يتعلق بمرحلة ما من علاقة الغرب مع مملكة آل سعود: خبراء إرهاب وتجارة سلاح، ومستخدمون سابقون، وأعلاهم رتبة الجنرال ديفيد بتريوس، وسفراء خدموا في المملكة، إضافة إلى عبد الله المعلمي السفير السعودي إلى الأمم المتحدة. مما ينفي بالطبع ادعاء البرنامج الكاذب بأن السعودية ليست لها علاقة بإنتاج هذه السلسلة، وأنها لم تعلّق على محتوياتها. رغم قسوة بعضهم الشكليّة، كان هؤلاء جميعاً يقدّمون نقداً لطيفاً لممارسات العائلة الحاكمة ــ ما قبل الملك سلمان تحديداً ــ من دون أي إشارة من قريب أو بعيد إلى حقيقة أنّ أولئك لم يكونوا ليستمروا ساعات في السلطة من دون مظلة الحماية والدّعم الغربيين.
فنيّاً، اعتمد الوثائقي على صور أرشيفيّة وفضائح معروفة على نطاق واسع ومقابلات فرديّة. وبالتالي، فإن مجال الإبداع فيه كان محدوداً. ولأنه تبنى السرد بأسلوب الإقناع كما وصفته نانسي دورتي، فإن تعدد الصعود والهبوط بين محاور الحلقات المتعددة تسبّب في فقدان الصيغة الدراميّة لمصلحة بيع فكرة بن سلمان. بدا الوثائقي كأنه دعاية لمسحوق غسيل مع إطلالات مستفزة للمعلمي والشهابي بين كل غسلة وأخرى. إذن، تلك هي مشيئة العم سام: أن يُكافئ سلمان - مموّل «مقاتلي الحريّة» الأميركيين عبر كل مآسي المنطقة - بتتويج ابنه ملكاً، ليقود الثورة المستحقة في الجزيرة. ثورة اجتماعيّة واقتصاديّة مفصلّة على المقاس الأميركي، وأن تستمر مصانع الأسلحة الأميركيّة والبريطانيّة (والبلغاريّة) في تحقيق الأرباح الوهميّة، بينما ينبغي أن يستمر السّوريون واليمنيون والعراقيّون والليبيّون والبحرينيون وسكان شرق الجزيرة بموتهم المجاني كل يوم.
إنه زمان الوحوش والظّلمة لأمّة مات قديمها العثماني غير مأسوف عليه قبل مئة عام ولمّا يولد جديدها بعد. لكن لا أحد يا سيّد بتريوس، لا أحد، سيمنع ولادة جديدنا، ولو بعد قليل.




بين تصفيق ومعارضة شكلية

المتحدثون العرب في السلسلة البريطانية، راوحوا بين التصفيق الصفيق لبن سلمان ــ علي الشهابي مثالاً ــ والمعارضة الشكليّة للقيم غير الليبراليّة للحكم السعودي التي يطرحها طقم المعارضين المقيم في لندن كمضاوي الرشيد، وسعد الفقيه، وأمير سعودي هارب بعد مصادرة أراضيه. الرشيد تحديداً، البروفيسورة البليغة في إحدى أهم الجامعات البريطانيّة، بدأت حديثها بنفس استشراقي يزاوج بين الإسلام وآل سعود، فجعلت من دولتهم مشروعاً جهادياً منذ بداياته، يستهدف استعادة نموذج الإسلام الأول. لكنها نكرت علينا الحقيقة البسيطة بأن هذه السلالة كانت عصابة عنف خارجة عن الخلافة الإسلامية الرسمية، وأنها تحالفت مع كل شياطين الغرب كي تنفرد بحكم هذه الزاوية من العالم، ووظفت الدين كما أيّ منظومة فاسدة في التاريخ ليس فقط للاحتفاظ بالسلطة، بل أيضاً لتمكين الهيمنة الإمبريالية العالميّة. كما أن مآخذ الرّشيد لم تتعلق أساساً بمساءلة شرعيّة حكم السلالة للجزيرة، بقدر ما كانت تعليقات غربيّة النزعة عن الإجراءات غير الديمقراطيّة للحكم السعودي. وإذا كان سعد الفقيه متعطشاً للظهور الإعلامي أياً كان ولو للترويج لمحمد بن سلمان، فكيف للبروفسورة المجدّة أن تقع في الفخ نفسه، وهي سليلة أسرة الرشيد التي كانت من أوائل ضحايا آل سعود؟