إقرار الموازنة هو أول موجبات الحكومة والمجلس النيابي. لا عمل تنفيذياً أو تشريعياً يعلو عليه. ولذلك، ليس الإنجاز أن تقرّ الموازنة ويُرفع العتب أمام الجهات الدولية، بل أن تُقرّ الموازنة الأفضل، بما يراعي مصلحة المواطن أولاً والقواعد الدستورية ثانياً. فهل تراعي موازنة عام 2018 هذه المصلحة؟ وهل يعقل أن يكون الهدف من إعداد الموازنة هو تأمين متطلبات انعقاد المؤتمرات الدولية وإعطاء صورة غير واقعية عن العجز، عبر عدم احتساب كلفة عجز الكهرباء (2100 مليار ليرة) من ضمن عجز الموازنة المقدر بـ7569 مليار ليرة؟ أما الحديث عن «شلفة» خفض هذا العجز، فهل يعقل أن يحصل على طريقة 20 في المئة على الماشي؟ أوليس من الأفضل أن تحدد مكامن الهدر ليجري ضبطها؟ هل يمكن وزارة الصناعة على سبيل المثال أن تخفض من موازنتها عشرين في المئة، فيما الموازنة هي عبارة عن رواتب وإيجار مبانٍ؟ ثم كيف يُطلب خفض الإنفاق، فيما تُجرى تسويات ضريبية وتُلغى غرامات، أضف إلى أن كلفة بعض جلسات مجلس الوزراء لا تقلّ عن نصف مليار دولار، متضمنة الكثير من التوظيفات.
وإذا كان التعامل مع خدمة الدين التي تصل قيمتها إلى 8428 مليار ليرة، جارياً على أنها مبالغ مقدسة لا يمكن المسّ بها، فعلى الأقل لا يضر التذكير بأنها في الأساس كانت عملية رشوة للطبقة السياسية والمصرفية، حيث رفعت الفائدة في عام 1995 من 14 في المئة إلى 40 في المئة، أضف إلى أن أحداً لا يقدم جواباً عن سبب ارتفاع خدمة الدين نحو 900 مليون دولار (1328 مليار ليرة) خلال سنة واحدة (بين العامين 2017 و2018). فهل هي كلفة هندسات مالية متوقعة في العام الحالي؟
ثمة بقعة ضوء لا يتوقع أكثر المتفائلين أن تؤدي إلى المحاسبة. وزارة المالية على وشك الانتهاء من تكوين الحسابات من عام 1993 إلى عام 2016. ومصادرها تؤكد أن التقرير سينجز الأسبوع المقبل، بعد الانتهاء من تكوين الحساب الأخير، أي حساب البقايا المدورة. قبله أنجزت حسابات: الهبات، سلفات الخزينة، سلفات الموازنة، الصندوق، المصرف، مؤقت واردات، مؤقت نفقات، فرعية، الودائع، الأمانات والسندات، القروض والحوالات.
للمناسبة، من المسلّم به أن يصار إلى تكرار التغاضي عن موجب إقرار قطع الحساب قبل إقرار الموازنة. فتعهد الحكومة، أثناء إقرار موازنة العام الماضي، أن تنجز الحسابات خلال سنة (تشرين الأول المقبل) لا يزال ساري المفعول. ووزير المالية علي حسن خليل يؤكد التزام وزارته هذا التعهد.
أول الغيث أنه صار للدولة اللبنانية حسابات دخول لعام 1993. قبل هذه الورشة كان الرقم المعتمد صفراً لكل الحسابات. وقد تبين، على سبيل المثال، أن ميزان الدخول لحساب المصرف، وهو أهم الحسابات، يبلغ 14 مليار ليرة، لا صفراً بحسب «تسوية السنيورة».
والصفر الذي ثبّته الرئيس فؤاد السنيورة في عام 1993 (عندما كان وزيراً للشؤون المالية في حكومة الرئيس رفيق الحريري)، أدى عملياً إلى انعدام صحة رصيد الحساب الجاري للدولة اللبنانية لدى مصرف لبنان. والأهم أنه أدى إلى عرقلة رقابة ديوان المحاسبة على الموازنات اللاحقة. وفي عام 2006، حاول السنيورة، بصفته رئيساً للحكومة، شرعنة تصفير الحسابات من خلال تقديم مشروع قانون خاص يتيح لشركةٍ خاصة التدقيق في حسابات الدولة.
لم يمرّ المشروع، الذي عمد إلى تكراره الوزير محمد الصفدي في عام 2011، وها هي وزارة المالية تنتهي من تصحيح الحسابات عمودياً، عبر تصحيح وتكوين ملايين القيود الضائعة وغير المسجلة، فهل تفتح طريق المحاسبة والمساءلة؟

ميزان الدخول لحساب المصرف في عام 1993 «يرتفع» من صفر إلى 14 مليار ليرة



الأرقام التي تملكها وزارة المالية أوضح من أن تخبأ، وتدقيقها ينتظر المرحلة الثانية والأخيرة من عملية التصحيح، أي تصحيح الحسابات أفقياً (إعداد الحسابات السنوية). عندها ستظهر المخالفات الفعلية عبر المقارنة بين ما أنجز عمودياً وما سينجز أفقياً، وتضاف إلى ملفات المخالفات التي كشفت في المرحلة الأولى وحُوِّلَت إلى الجهات الرقابية.
في المرحلة الأولى عُرف ماذا دخل وخرج من الخزينة، لكن في المرحلة المقبلة سيعرف كيف صرفت هذه المبالغ. وإذا لم يكن التدقيق ممكناً في مرحلة غياب الحسابات، فإن إنجازها أوجد ركيزة انطلاق متينة.
آلاف القيود الخاطئة التي اكتشفت حان وقت معرفة خلفيتها. هل هي نتيجة إهمال أم جهل أم سوء نية؟ ذلك يتطلب جهداً استثنائياً من الهيئات الرقابية بالتعاون مع وزارة المالية. وعلى سبيل المثال، هل عدم تقييد سلفة لوزارة في حسابها بل في نفقات وزارة ثانية كان متعمداً أم لا؟ وهل آلاف المليارات التي ذهبت إلى الكهرباء جرى التأكد من حاجة المؤسسة لها أم لا؟ في إحدى جلسات مجلس النواب خرج النائب حسن فضل الله ليعلن أن الدولة دفعت على كهرباء لبنان 20 مليار دولار، فكانت إجابة الحريري أن المبلغ هو 35 مليار دولار. أيهما الرقم الصحيح؟ ومن يتأكد من وجهة صرفها الفعلية.
في أغلب المشاريع يتكرر الأمر نفسه. يصدّق ديوان المحاسبة، بموجب الرقابة المسبقة، على تنفيذ أي مشروع، لكن في ظل غياب الرقابة اللاحقة، من يتأكد أن هذه المشاريع قد أنجزت فعلاً أو ماذا كانت تكلفتها؟
كيف يحصل المشروع نفسه على اعتمادين في خلال سنوات مختلفة؟ وكيف يمكن مؤسسة لم تسدد سلف الخزينة التي حصلت عليها أن تتحول إلى دائنة للدولة بحسب القيود؟ مصدر مطلع يقول إن بعض الجهات بدأ بإعادة دفع السلف. هل في ذلك إقرار بأن أحداً لم يكن مضطراً لذلك ما قبل تصحيح الحسابات؟ ثم، هل صحيح أن نظام المحاسبة كان معداً لتشريع الفوضى المالية، التي تسهّل عمليات التلاعب؟ وإذا كان أي خطأ في القيد يعني صعوبة معرفة حقيقة صرف الأموال، فهل من الطبيعي أن يكون 92 بالمئة من حساب الهبات بلا قيود، بحجة أن الواهب أراد أن تصرف هبته من خلاله، في الغالب عبر الهيئة العليا للإغاثة، التي لا يحتاج الصرف من خلال إلى أكثر من توقيع واحد؟ وهل تكفي هذه الحجة لتبرير عدم تسجيل الهبة على الأقل؟
في المرحلة الأولى من التدقيق الذي تقوم به وزارة المالية منذ عام 2012، تبين وجود فضائح مالية فعلية، فهل تثبيت هذه الفضائح في المرحلة الثانية سيفتح باب المحاسبة أم «عفا الله عمّا مضى» ستكفي لإقفال ملفات فساد السلطة؟
النائب حسن فضل الله الذي أثار الموضوع أخيراً يختصر الأمر بالإشارة إلى أن «ما جرى يكشف أنه كان يوجد عملية منظمة استمرت لسنوات طويلة بهدف تضييع حسابات الدولة وتسهيل الاستيلاء على المال العام». وبعد إنجاز الحسابات، يدعو فضل الله في حديثه لـ«الأخبار» إلى الإسراع في تبيان كيف صرفت أموال الدولة وأين هي مكامن الهدر والسرقة، كذلك يدعو إلى رفع الغطاء عن المتورطين وإخراجهم من حصانة الحماية السياسية ليصار إلى محاسبتهم واسترداد أموال الشعب منهم.
أما الوزير علي حسن خليل، فيكتفي بالتأكيد لـ«الأخبار» على المسار القانوني لما بعد إنجاز الحسابات: ترسل وزارة المالية تقريراً وفق الأصول، أساسه عدم التغطية على أحد، على أن يضع مجلس النواب يده على الملف ويجد الصيغة المناسبة ليتحمل الجميع مسؤولياته.