بين زحمة لقاءاته مع رئيس هنا، وسياسي ورجل دين هناك، تمكّن وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، مساء أمس، من الاجتماع لساعة ونصف الساعة مع مجموعة من الصحافيين في مقر إقامته في فندق «فينيسيا» في بيروت التي «انطلق منها الربيع العربي»، على حدّ تعبيره. هناك، اعترف «البروفيسور» بأنّ الأسئلة التي واجهها من الصحافيين تختصر الأزمة الحقيقية لبلاده في ما يتعلق بالموقف من الأزمة السورية، بين من يرى أن أنقرة تعتمد سياسة خارجية «طائفية» و«تتآمر» ضد النظام السوري من جهة، في مقابل مَن يلوم تركيا لأنها «تفسح المجال أمام النظام السوري لارتكاب المزيد من الجرائم بحق الشعب السوري» من جهة أخرى.
اعتراف داوود أوغلو يليه آخر مفاده أنّ تركيا ليست «سوبرمان» يمكنه حل كل المشاكل، مضيفاً اهتماماً خاصاً بشرح موقف حكام أنقرة الذين «لم يوفّروا أي وسيلة وأي عرض مساعدة وأي نصيحة» لدمشق لـ«يجري التغيير في سوريا بقيادة الرئيس بشار الأسد وفق سيناريو سلمي». لكنّ الرجل وزير في النهاية، وبالتالي لا يمكنه قول الكثير من أسرار الغرف المغلقة احتراماً «للياقات الدبلوماسية»، رغم أن داوود أوغلو «عمل طيلة أشهر من التنسيق مع السوريين، كشخص سوري حتى وليس كوسيط فحسب»، بينما لم يجدِ كل ذلك في وضع الإصلاحات في سوريا موضع التنفيذ.
يسترسل داوود أوغلو في الكشف عن بعض تفاصيل اجتماعاته وبقية المسؤولين الأتراك مع الأسد. أردوغان نفسه أبلغ الأسد من حلب في كانون الثاني الماضي، على حدّ تعبير وزير الخارجية، أنه «يمكنكَ إعادة بناء المنزل (سوريا) من نقطة الصفر، ولديك نقاط قوة مهمة، منها أنك زعيم شاب ومعادٍ لإسرائيل، على عكس ما كانت عليه مصر وتونس، لذلك فإنك تملك دعماً وشرعية عند شعبك، إضافة إلى أن سوريا تتمتع بوحدة اجتماعية وبدعم تركي، وكل ذلك يسمح لك بإجراء إصلاحات حقيقية رغم أنه ليس في سوريا حرية منذ 40 عاماً». يتابع داوود أوغلو: «لقد دافعنا عن الأسد طيلة 8 سنوات، ووجّهنا سفراءنا في العالم ليكونوا سفراء سوريا في أي مكان ليس فيه سفير سوري، والسوريون يعرفون ذلك جيداً، وهذا ما حصل عامي 2005 (بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري) وفي 2006 (العدوان الإسرائيلي ضد لبنان) وفي حرب غزة. لهذه الأسباب كان لدينا أمل حقيقي بأن بإمكان الأسد تحقيق الأعجوبة والقيام بإصلاح حقيقي». ويخلص رئيس الدبلوماسية التركية إلى أن الرئيس الأسد «وافق ووعد لكنه لم ينفّذ». وهنا يستدرك بأن ما طرحه وبقية المسؤولين الأتراك على الأسد وقيادته في بداية الأزمة لم يكن أوامر ولا توجيهات، بل «بناءً على موافقة سورية بالاستماع إلى النصيحة التركية، بدليل أنهم (السوريون) طلبوا منّا تقديم المساعدة في المشورة بشأن الإصلاحات». أما عن «الأجندة الأجنبية» التي تسيّر السياسة الخارجية التركية، فينفي داوود أوغلو وجودها أصلاً، «ولو كنا نريد الاستماع إلى تعليمات دول أخرى ضد سوريا، لكنّا فعلنا ذلك أعوام 2004 و2005 و2006، حين كانت تركيا أضعف مما هي عليه اليوم، لذلك لن نكون أبداً جزءاً من أجندة أجنبية ضد سوريا». ويختصر داوود أوغلو الرسائل التركية الأولى للأسد بالآتي: أنتَ قادر على الذهاب إلى انتخابات حرة، فالناس تحبك ويمكن أن تحصد 50 أو 60 في المئة من الأصوات، وأنتَ لا تحتاج إلى 90 ولا إلى 99 في المئة منها.
كلام كثير ينتهي عند نقطة واحدة عند داوود أوغلو: فعلنا كل شيء من دون استثناء لمساعدة الأسد، ووضعنا كل قدراتنا تحت تصرّفه. أكثر من ذلك، فقد عمل حكام أنقرة «بجهد كبير منذ كانون الثاني الماضي حتى أيلول الماضي، حتى إنني شخصياً لم أجتمع بأي معارض سوري حتى تشرين الأول الماضي، لكي لا نفوّت أي فرصة للتعاون والتنسيق مع القيادة السورية، وعرضنا التوسط بين النظام والمعارضة حتى نيسان الماضي»، وفق كلام «البروفيسور». اليوم، الأمل بأن يتمكّن مراقبو الجامعة العربية من تحسين الأوضاع في سوريا موجود عند داوود أوغلو. «أمل» لا يمنعه من التحذير من أنّ تركيا «ستنتظر صدور تقرير المراقبين العرب وقرار الجامعة العربية قبل أن تتّخذ قراراتها المستقبلية تجاه سوريا»، وذلك ردّاً على سؤال «الأخبار» له عن مدى استعداد تركيا لإرسال قوات عسكرية إلى سوريا، إذا تبنّت الجامعة العربية مطلب أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بإرسال قوات عسكرية عربية «لوقف القتل في سوريا». أما عن الرفض التركي لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، فهو مستمر بلغة داوود أوغلو، رغم تنبيهه من أنه «في حال حصول حدث كبير أو تدفق هائل للاجئين إثر مجزرة شبيهة بما حصل في حلبجة العراقية مثلاً، فحينها نكون مضطرين إلى اتخاذ إجراءات أحادية الجانب». كيف لا و«الخطر كبير جداً في منطقة العراق ـــ سوريا ـــ لبنان ـــ البحرين، بينما تسير الأمور على ما يرام في الجبهة الواعدة، أي في مصر وتونس وليبيا والمغرب». تأخّر داوود أوغلو على موعده مع مطران بيروت للروم الأرثوذوكس الياس عوده، فكان لا بدّ من الإسراع في اختتام اللقاء مع الصحافيين، لكن ليس قبل أن يعرّج على الرسالة التي جاء لإيصالها «إلى من يهمه الأمر» في لبنان تحديداً: لا نريد للمسيحيين أن يكونوا ضحية للربيع العربي، ولا نريد للبنان أن يكون ضحية لما يحصل من حوله، وفي سوريا تحديداً. لذلك ربما أُعجب داوود أوغلو بـ«الفكرة الممتازة» التي عرضها عليه الرئيس الأسبق أمين الجميّل، بتنظيم مؤتمر للزعماء المسيحيين ـــ والمسلمين في تركيا «لبحث أوضاع المسيحيين في الربيع العربي». فكرة يردّد البعض أنّ داوود أوغلو لم يكن بانتظار الجميّل ليطرحها عليه، بما أن تركيا مهتمة بطمأنة المسيحيين اللبنانيين والسوريين إلى أنّ «تخلّيهم» عن دعم النظام السوري لن يأتي بنتائج كارثية عليهم، وذلك بضمانات تركية تحديداً.