المشهد الرمادي البارد نفسه، وفوضى عظيمة. زحام وهلع وحركة وصراخ. صوت آليّات وعويل سيارات إسعاف. تصريحات وتقارير أوّليّة. عسكر وسياسيّون و«مواطنون عاديّون» وأهالٍ مفجوعون وفرق إنقاذ و… كاميرات الإعلام. كما عند كل كارثة، تحضر الكاميرات. التلفزيون يحبّ الكوارث، ونحن نحبّ التلفزيون. نهرع إلى الريموت كونترول ونتسمّر أمام الشاشة، ونروح نتلصّص على مصائب الآخرين بين هلع وقرف وشفقة واستنكار وفضول مَرَضيّ، وشعور سرّي بالارتياح لأننا أفلتنا هذه المرّة من ضربة القدر. كيف لم تفكّر المحطّات برفع ثمن الإعلانات، ومضاعفة عددها، عند الكوارث؟
الجميع يريد أن يتفرّج على هول المشهد في طمأنينة جحره الهادئ، الدافئ، الآمن (حتّى إشعار آخر)، فيما الصحافيّون يبحثون بين الأنقاض. هذا عملهم، هذا واجبهم، إنّهم يعملون لحسابنا في النهاية. بعضهم يؤدّي المهمّة الصعبة بكثير من الحياء والحرص والتأثّر والتهيّب والدقّة، والبعض الآخر يرتكب الأخطاء العفويّة عينها ـــ تلك التي تكشف عن غياب قواعد وتقاليد مهنيّة ثابتة ـــ بين استخفاف وعنجهيّة وتسرّع وقلّة ذوق وتجاوز للكرامة الإنسانيّة لحظة الفاجعة.
أحياناً تتسرّب التفاصيل الهامشيّة عبر الكاميرا. الوجه المكتنز الشديد الاحمرار الذي غطته الدموع: من تراها تكون هذه الصبيّة المتشحة بالأسود؟ تلك السجّادة الواسعة التي تعوق عمل المسعفين، لعلّها كانت في صحن الدار. الكنبة المزركشة ذات المسند الإمبراطوري، تنتزع منك ابتسامة مجروحة. قطعة باطون عملاقة من الدرج يجاهد الونش لرفعها، وصوت السلاسل وتساقط الأنقاض. أطياف بلا ملامح، وأضغاث حياة توقّفت إلى الأبد… لكن هل رأينا حقّاً المبنى الذي انهار فجأة على ساكنيه، بعد ظهر أحد شتائيّ قارس ومشؤوم، في قلب بيروت؟ هل عرفنا قصّته في النهاية؟ حكاية ناسه وجيرانه والحيّ والمنطقة؟ هناك شريحة اجتماعيّة كاملة تقبع تحت أنقاض العمارة النكوبة، في ذلك الحيّ «الفقير» من الأشرفيّة التي تتماهى عادة مع المثلّث الذهبي. إنّها الطبقة الوسطى المنهارة التي تتشبّث بالأعجوبة اللبنانيّة، تخبّئ وجعها وتؤجّل مواجهة واقعها، فيما الأزقّة تغصّ بالسيّارات، وتزداد اكتظاظاً وعمراناً يقرّبنا من «العشوائيّات». هذا المشهد لا تلتقطه الكاميرا، ولا أحد يريد أن يراه. لا أحد يريد أن يبحث عمّا يختبئ خلف عبارة «الإيجارات القديمة»، و«الأساسات المتصدّعة»، والعمارات المتأكّلة التي لا ينتظر المستثمرون سوى أن تنهار كي يبنوا في مكانها أبراج بيروت الجديدة.
كلا، لم يحدث شيء في حيّ فسّوح يوم الأحد الماضي. سقطت بناية مهترئة لا يملك أحد ثمن ترميمها، ولا تملك الدولة وسائل حماية سكانها. مات بعض الفقراء (الجدد) والعجائز و«السودانيين». هذا كل ما في الأمر، عودة إلى البرامج الاعتياديّة.