«هناك التزام جدّي بقرار حظر التجول»، قالت مراسلة قناة العربية من القاهرة، رندا أبو العزم في تمام الساعة الخامسة من مساء أمس. خلفها، بدا كورنيش النيل مقفراً بالفعل، باستثناء ملالات للجيش كانت تسدّ الشارع العريض، قبل «كوبري 6 أكتوبر». في اللحظة ذاتها، كانت قناة «الجزيرة» تنقل من ميدان التحرير، صورة مباشرة لأكثر من 150 ألف متظاهر يطالبون بسقوط الرئيس حسني مبارك.مشهدان مختلفان تماماً، كأن كلّاً منهما يجري في بلد. على «الجزيرة» انتفاضة المصريين مستمرة، لكنها «فاتت جنبنا» بالنسبة إلى «العربية». صحيح أنّ القناة السعودية لم تغب عن الحدث، لكنّها جيّرته وفق أجندتها: رافعة لنظام يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وفيما شهد يوم أمس حراكاً تنظيمياً في صفوف المعارضة أثمر في نهايته عن بيان نشرته وسائل الإعلام باسم «القوى الوطنية»، كانت «العربية» تبثّ الرعب من غياب الدولة من خلال استضافتها مجموعة من «متفائلي» النظام المتهاوي: هكذا، عرضت تقريراً عن السجناء الفارّين مع إحصاء عدد المنتمين منهم إلى جماعة «الإخوان المسلمين». كما بثّت صور «المكدّسين» في مطار القاهرة طلباً للسفر، وبحثت في التداعيات الاقتصادية لما سمّته مجرّد «أزمة». كما بدا أمن المواطن المصري ــــ ويا للمصادفة ـــ هاجس القناة الأول.
ومصادفةً أيضاً، لاحظت أبو العزم أنّ «هناك مواطنين لا يستطيعون شراء الخبز لأن «البلطجية»، اعتدوا على معظم محالّ السوبر ماركت!». وإمعاناً في الترويع، جرى الاتصال بالدكتور هشام عيسى الذي كان طبيب الفنان الراحل عبد الحليم ــــ كما أكدت المذيعة ــــ للوقوف منه على «وضع الجثث في الشارع».
لكن للأمانة، نقلت القناة السعودية أخبار التظاهرة مثل «انضمام قضاة إلى المتظاهرين»، لكن بصيغة الخبر العاجل أسفل الشاشة. في تلك المساحة الصغيرة التي تذيّل الشاشة، ورد أن «الآلاف يتظاهرون في ميدان التحرير»، بينما كانت الصورة مركّزة على كورنيش النيل (أحد مداخل ميدان التحرير) حيث يحتشد قلّة من المتظاهرين. وحين انتقلت الكاميرا لنقل مشاهد من ميدان التحرير، لم نر سوى أبنية!
وفيما اتّسع هواء «العربيّة» للمدافعين عن النظام، ضاق على الناطقين الفعليين باسم الشارع. تسنّى لرئيس تحرير جريدة «الأهرام» أسامة سرايا كل الوقت لإيضاح أنّ «التظاهرات أكبر دليل على مناخ الحريات الموجود في مصر»، وأن الأمن مستتبّ لولا «التضليل الإعلامي الذي تمارسه بعض الشاشات العربية لتعطي المشاهد انطباعاً بأن الشعب كله ثائر»... ثم انتهى الحوار سريعاً مع الأديب المصري علاء الأسواني. وقد انتهى تحديداً حين علّق صاحب «عمارة يعقوبيان» بناءً على طلب المذيع، قائلاً إنّ «الأستاذ سرايا يقبض راتباً كبيراً من «الأهرام» حتى يقول هذا الكلام. الشعب قال كلمته وهي واضحة وحاسمة. جاء وقت الخلاص مع هذه الانتفاضة العظيمة. لا مخرج سوى بتنحّي مبارك». وهنا أجابه المذيع «شكراً لك، سنعود إليك». المصير ذاته لقيه القيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» عصام العريان الذي قوبل بـ«شكراً جزيلاً» بعد أول جملة قالها على الهواء وهي «نطالب بمحاكمة مبارك».
أما وافرو الحظ ممّن منحوا الوقت على هواء «العربية»، فقد كانوا ضيّقي الصدر. اللواء محمد منصور مثلاً استفزّه السؤال عن غياب القوى الأمنية، فأقفل الخط في وجه المذيع بعدما قال: «ماذا يفعل الشرطي حين يهجم عليه ألف متظاهر؟».
عادةً يكون مفهوماً أن تسود حالة النكران عند رجال نظام ينتفض شعبه ضد ظلمه. لكن، عندما تسري هذه الحالة على بعض القنوات الإعلامية التي تضمّ إعلاميين محترفين، لا يسعنا إلا الاستنتاج بأنّ النظام له أذرع قد لا تكون بالضرورة أمنيّة.



«كلّه إلا الريّس»

طوال 30 عاماً، كانت الصحف المعارضة تلتفّ على قانون الطوارئ عبر انتقاد «الزمرة» المحيطة بالريس، مستثنية إياه، لتنجو برأسها. أمس، انتهج مراسلو «العربية» الأسلوب ذاته. صحيح أن المراسلَين محمود سلطان من الإسماعيلية وأحمد عثمان من السويس تحدّثا عن وجود تظاهرات، إلا أنّهما قالا إنّ الهتافات تطالب بـ«وجوه جديدة» أو «إسقاط النظام». لم يذكر أحد منهما «الرئيس». وحين ألحّ المذيع في الاستديو محمد الورواري على زميلته رندا أبو العزم أن توضح ما يهتف به المتظاهرون، تلعثمت ثم قالت له مرغمة: «هتافات ضد مبارك». أما حين بُثّت الهتافات على الهواء ثم سئل المراسل حافظ الميرازي عن فحواها، أجاب «الشعب يريد إسقاط النظام». في الواقع، كنا نسمعهم في تلك اللحظات. كانوا يهتفون «الشعب يريد محاكمة الرئيس».