تبدأ الرواية شبه البوليسية عند وصول نيكولا ساركوزي الى سدة الرئاسة الفرنسية قبل خمسة أعوام. كان هاجسه الثأر من خلفه. لكن من دون الخروج عن الضوابط الفرنسية المصلحية والاستراتيجية العامة. جاك شيراك كان «رابطاً» مع الرياض عبر بيت الحريري. وكان قد قرر الهجوم على دمشق عبر بيروت. أنا سأنتقم منه باعتماد تكتيك مناقض: سأربط مع الدوحة، «عدوة» الرياض، وعبر حمد بن جاسم، منافس الحريري استثمارياً وعلائقياً، وسأنفتح على سوريا عبر البوابة اللبنانية، فأثبت أن شيراك كان مخطئاً في كل شيء. هكذا بدا أن سيد الإليزيه الجديد يفكر ويتصرف.
منذ الأسابيع الأولى لتوليه الرئاسة، بدأ ساركوزي التحضير لكسر القطيعة الفرنسية السورية. بسرعة، أعد لزيارة سرية لدمشق. خلية رئاسية متخصصة، من مجموعة مختارة بعناية كبرى، انتقلت بلا أضواء ولا أسماء، من أورلي الى مطار دمشق مطلع صيف 2007. في دائرة المهمات الخاصة في الإليزيه، أُعطيت المهمة عنواناً تعريفياً واضحاً: «ماذا تنتظر سوريا من فرنسا؟». في العاصمة السورية، كانت المواعيد متخذة عبر «مكتب فرنسي خاص»، يعرفه السوريون تمام المعرفة ويتعاملون معه دائماً على أنه القناة الجدية. توالت اللقاءات على مدى أيام، وكان البحث مركزاً في سياق توضيح النيات والأهداف: نحن هنا لنبحث في حدود انتظاراتكم من باريس. قالها الزوار الفرنسيون السريون: قولوا لنا بصراحة، ماذا تنتظرون من فرنسا الجديدة مع ساركوزي؟ بعدها سنعود الى بلادنا، ونبحث الأمر على مستوى رأس الهرم. إذا كان الطرح مقبولاً، نعود إليكم بما ننتظره في المقابل، وإن لم نعد، نتواعد على محطات لاحقة.
بعد أيام، كان تقرير الزيارة الدمشقية السرية على طاولة طبخ القرار في الإليزيه. المستشارون وفريق العمل قرأوه بتمعّن، حرفاً حرفاً. الكبار وأصحاب الأمر، أو «صاحبه» تحديداً، قلبوا صفحاته بلهفة لا بسرعة، للوصول الى فصل الخلاصات والتوصيات. هنا كانت ثمة فقرات محددة بالأسود، لتقفز بوضوح أكبر الى عيون المعنيين. تنتظر سوريا من فرنسا ثلاث مسائل: المحكمة والرئيس والاقتصاد.
بوضوح كبير، صاغ التقرير أجوبة دمشق الثلاثة حول ما تنتظره من باريس:
أولاً، لجهة المحكمة، ينتظر السوريون منا أن نمنع تسييس عملها، وأن نحول دون استخدامها وسيلة لاستهدافهم. كانت قد مضت أسابيع على القرار 1757، القاضي بإنشاء المحكمة تحت الفصل السابع في 30 أيار 2007، وكان الموضوع نجم التداول السياسي والإعلامي والتهويلي. صاغ السوريون انتظارهم بحذر ودقة: نريد من المحكمة الحقيقة في موضوع اغتيال رفيق الحريري. ونريد منكم ضمانة ذلك. فأنتم تعرفون أكثر منا أن قصة محمد زهير الصديق مهزلة لاغتيالنا. فلا تغطوا تركيبات كهذه.
ثانياً، لجهة استحقاق الرئاسة، كانت الأيام تمر بسرعة، في ظل العجز عن تأمين نصاب دستوري وغياب توافقي انتخابي. وكان الاتجاه صوب فراغ رئاسي بدا يتضح أكثر فأكثر. لم يحرم السوريون محاوريهم الفرنسيين من مفاجأة في هذا المجال. قالوا لهم: ننتظر ثانياً من باريس السعي معنا ومع كل المعنيين لإيصال الاستحقاق اللبناني الى خواتيمه الإيجابية. نحن واقعيون، براغماتيون، نعرف الموازين والحدود. نكتفي بأن نعرض عليكم لائحة بالأسماء التي نعتبرها تفخيخاً لهذا الاستحقاق، أو اقتراحات تعجيزية لعرقلته. بمعنى آخر، فهم الفرنسيون أن مضيفيهم لن يقولوا لهم من يريدون رئيساً للبنان، بل سيكتفون بالكشف عمن لا يريدونه رئيساً. كانت اللائحة طويلة نسبياً. وكانت المفاجأة الكبرى أن بينها أسماء «حلفاء» لسوريا. استغرب الفرنسيون الأمر. سألوا استيضاحاً تحت وقع المفاجأة: إذاً من تريدون رئيساً لو قُدّر لكم الاختيار؟ فكان الجواب موضوعياً جداً: نحن ندرك تماماً أن من نريده رئيساً لا قدرة لنا إطلاقاً على إيصاله. الباقي عندكم.
فهم الفرنسيون أن دمشق تحاول قلب الأدوار بينها وبين واشنطن، حيال ما كان عليه في استحقاقات رئاسة 1995 و1998 و2004. يومها كانت ثمة مقولة أن دمشق لديها «الصوت» ( Vote) وأن واشنطن لديها «النقض» (Veto). اليوم قررت سوريا أن تدعو واشنطن عبر باريس إلى تجربة اللعبة معكوسة: أنتم لديكم حق الاقتراع، ونحن لدينا حق النقض.
بقي بند ثالث على لائحة الانتظارات السورية من فرنسا: العلاقات بين دمشق وباريس، وبينها وبين أوروبا: الاستثمارات، العقوبات، الطيران والنفط وكل الملف الاقتصادي الاستثماري والتنموي.
بسرعة، اتخذ الإليزيه القرار: موافقون. وفي المقابل، نحن ننتظر منهم أمرين: أولاً، الاتفاق على استقرار الوضع اللبناني مع تعايش الرئيس المقبل مع سعد الحريري. ثانياً، إجراءات سورية داخلية طفيفة. ننتظر من دمشق إطلاق سراح هذه اللائحة من المعتقلين السياسيين المتقدمين في السنن والانفتاح «الإخوان المسلمين»، يمكن أن نبدأه في الخارجين العربي والأوروبي. استقرار لبنان بهذه التركيبة ضروري لتسهيل المطلوب على صعيد المحكمة الدولية. ذلك أن وجود الحريري، لا شخصياً، في السلطة عامل أساسي لتمرير أي تسوية في موضوع آلية قضائية معنية باغتيال والده. كما أن إصلاحات الداخل السوري وخصوصاً مواضيع حقوق الإنسان، ضرورية لتحقيق الانتظار السوري الثالث منا، على مستوى التبادل البيني والعلاقات الاقتصادية معنا ومع أوروبا.
عادت الخلية الرئاسية الى دمشق. عرضت الجواب الرئاسي الفرنسي. وبسرعة قياسية أيضاً حصلت على كل الموافقات والتصديقات اللازمة. فانطلقت عجلة التفاوض الرسمي والعلني بين العاصمتين، وخرجت زيارات غيان وليفيت الى الضوء، وصولاً الى وقوف بشار الأسد في الشانزيليزيه في 14 تموز 2008، إلى جانب 43 رئيس دولة، وبعد ثلاثة أعوام فقط من العزلة السورية المطبقة غربياً.
في تلك الفترة، كان الاستحقاق الرئاسي قد دخل عنق الزجاجة. بدأ الحديث عن تشجيع أميركي حيناً وغربي أحياناً، لذهاب الفريق الحريري الى انتخاب غير دستوري، بالاكتفاء بأكثرية النصف زائداً واحداً. وبدأت الردود المتشنجة حيال هذا الطرح، رغم أن الحريريين كانوا قد أطلقوا مناورتهم بترشيح ميشال سليمان بعد 48 ساعة فقط على مغادرة لحود قصر بعبدا.
ذات يوم من كانون الأول 2007، جاء بعض أعضاء الخلية الفرنسية الى بيروت وجالوا على عدد من المسؤولين. وفي إطار مناسبة اجتماعية التقوا أحد القريبين من حزب الله. سألوه عرضاً عن الأزمة الرئاسية. ماذا لو ذهب الحريريون أبعد؟ جاءهم الجواب سريعاً واضحاً: حزب الله لن يسكت. ماذا يمكن أن يفعل؟ سيحكم سيطرته على كامل الوضع عسكرياً. سيمسك «الحزب» ببيروت، خلال ساعات، قالها المسؤول. كان أعضاء الخلية الفرنسية يسابقون بعضهم وأنفسهم، بين التهام طعام المازة اللبنانية التي «يمسحون»، وبين التدوين على مفكراتهم الصغيرة لكل حرف مما يسمعون.
عاد وفد الخلية الفرنسية الى عاصمتهم. رفعوا تقريراً بكل ما سمعوه. كلمة كلمة. هناك توقف أحدهم عند سيناريو «احتلال بيروت». وضع تحته أكثر من خط أسود. في تلك الفترة، كان الفراغ الرئاسي قد أصبح واقعاً بعد 24 تشرين الثاني 2007. لكن قبل حصوله، كانت معارك نهر البارد التي اندلعت في أيار من العام نفسه، قد انتهت في 2 أيلول بما سمّي «هروب» قيادات «فتح الإسلام» بطريقة مريبة ومشبوهة. فيما كان إلياس المر وزير الدفاع مستعجلاً لإعلان نهاية الحرب قبل نهايتها، وكان ميشال سليمان قائد الجيش واقفاً عند رأس الهضبة.
لاحظ الفرنسيون أنه بعد سقوط المخيم، واختفاء مسؤولي التنظيم الأصولي السني، بدأت هجمة سعودية حريرية جدية لإيصال سليمان الى الرئاسة. كأن شيئاً ما حصل هناك جعل من ميشال سليمان «رئيس نهر البارد». أو كما قيل يومها إن شاكر العبسي هو من اختار رئيس الجمهورية اللبنانية. لم يعد الأمر مناورة. صار يتبلور حقيقة واقعة، حتى طلبته القناة القطرية المباشرة من الإليزيه: لم يعد مقبولاً الفراغ الرئاسي في بيروت.
عند هذا الحد، تذكر أحدهم في باريس تلك الفقرة في التقرير السابق حول سيناريو «معركة بيروت». تم استدعاء المعنيين الى ورشة تفكير حول تنفيذها: مطلوب أولاً «فريق» قادر على افتعال أزمة كبرى في العاصمة. ثانياً، تكون قطر جاهزة للتحرك في وساطة معدّة سلفاً. ثالثاً، يكون الحل الرئاسي منجزاً في الدوحة. رابعاً، مطلوب التأكد من موافقة الجميع. غير أن مسألة بسيطة ظلت عالقة: سيناريو «احتلال بيروت» الذي حدّثنا عنه القريب من حزب الله، موضوعه الأساسي كان احتمال ذهاب الفريق الحريري الى انتخاب رئيس أحادي. وبالتالي لا يمكن اللجوء إليه الآن. يجب البحث عن ذريعة أخرى. فجأة، لمعت في ذهن أحدهم فكرة «كاميرا المطار». قالها في سياق مزحة: أخبرني وزيران لبنانيان عن أننا مراقبون في كل مرة نستعمل فيها مطار بيروت. حزب الله يضع كاميرا هناك لمراقبة مدرجات الهبوط والإقلاع. عند سماع تلك الكلمات، تسمَّرت بعض العيون. اشرأبت أعناق ووجوه. كاد أحدهم يصرخ: أوريكا. وجدناها. ابدأوا المسلسل.
وُضع أمر العمليات: الوزيران «الصالحان» ينقلان خبر الكاميرا الى وليد جنبلاط. الفرنسيون ينسقون مع الأميركيين لطمأنة جنبلاط الى منحه الدعم الكامل في الملف: فجِّر الموضوع، ونحن خلفك حتى النهاية. التوقيت مثالي عشية جلسة لمجلس الأمن. أحدهم رمى بفكرة إضافية: إذا اتفقنا مع واشنطن على تحريك قطع عسكرية صوب بيروت، فسيقتنع جنبلاط أكثر باللعبة. ربّت المسؤول الأعلى كتفه: برافو. لا بل بدل القطعة اثنتان. بعد أيام نُشر الخبر الصحافي: المدمرة الأميركية «يو إس إس كول» تحركت صوب الشواطئ اللبنانية. حاملة الطائرات الفرنسية كليمنصو لحقت بها. من جهة أخرى، كانت قطر تضع آخر لمساتها المسبقة على زيارة الوساطة، «لحقن الدم ووقف الفتنة»، وعلى حجوزات فندق شيراتون الدوحة، وخصوصاً على فقرات الاتفاق الشامل: رئيس، مع حكومة، مع قانون انتخاب، فيتحقق الانتظار الأول الذي طلبته فرنسا من سوريا، في إطار الإنجاز الساركوزي التاريخي.
اجتمعت حكومة السنيورة. كلمة حق تقال: لم يكن رئيس الحكومة موافقاً على المخطط. البعض يقول إنه أحسّ بأنها لعبة، اشتمَّ فيها شيئاً من المناورة. كان يدرك أن الحل سيخرجه من السرايا لمصلحة «الأصيل»، فيما «البديل» كان قد بدأ يطرب للافتات الطريق الجديدة: «دولة الرئيس ... رئيس الدولة». في النهاية، كسر جنبلاط تردد السنيورة. فُتح الهاتف خارج قاعة جلسة 5 أيار الشهيرة، قيلت الكلمات الكبيرة. صار التهديد إمّا إصدار القرار ضد حزب الله فوراً وإمّا الاستقالة. فصدر القرار، وكانت الشرارة للسيناريو «المضبوب» في جارور في الإليزيه منذ كانون الأول 2007. اندلعت أحداث 7 أيار، وتماماً وفق التصور المسبق، ساعات قليلة وحُسم الوضع، لا عسكرياً وحسب، بل سياسياً أيضاً وأصلاً. حُسمت بكلمات قليلة من كوندوليزا رايس. في 9 أيار صباحاً، سمع سيد المختارة تصريح ناظرة خارجية واشنطن. لم يصدق الصدمة. بتعابير فجة، قالت حليفة الساعات القليلة السابقة: «ما يحصل في بيروت مسألة لبنانية داخلية ...». فهم اللعبة: لقد خدعوني. فتح الخط مع طلال إرسلان. وقرر الحد من الخسائر، والذهاب الى مؤتمر الدوحة سائحاً متفرجاً.
بالنتيجة، أقر البند الأول مما طلبته باريس من دمشق: استقرار لبناني، بأرجحية حريرية، وبقي البند الثاني: ماذا ستفعلون داخل سوريا: إطلاق المعتقلين والمصالحة مع الإخوان.



«ظبطت» لبنانياً، ولم «تظبط» إخوانيّاً

على مدى عامين ونيف تقول الرواية الفرنسية، احترفت باريس تذكير دمشق بالمسألة الداخلية، من دون جدوى. مع أنها كما تقول، حتى في هذا المجال قامت بأكثر من مسعى للتسهيل والتمهيد. فبعد بضع خطوات سورية محدودة وجزئية، لجهة إطلاق سراح بعض المعتقلين، عملت فرنسا بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، وبالتعاون المباشر مع كل من قطر والسعودية، على تأمين مناخ مساعد لنوع من الانفتاح بين دمشق والتنظيم «الإخواني. حتى إن اجتماعاً عقد في أوروبا على مستوى القيادة العالمية للإخوان، شاركت فيه تنظيمات كل من الأردن، مصر (محمد مهدي عاكف) وسوريا (علي صدر الدين البيانوني). وقصدت باريس وقطر أن يكون اللقاء تحت أنظار القيادي الإخواني السوري البارز، عصام العطار، المقيم في ألمانيا، وشقيق نائبة رئيس الجمهورية نجاح العطار، في محاولة لطمأنة دمشق. وفي شكل متزامن، عمدت الدوحة الى الضغط على الشيخ يوسف القرضاوي للتعاون، فأصدر في الوقت نفسه موقفاً إعلامياً أشاد فيه بالرئيس بشار الأسد. فاعتبرت باريس أنها سددت قسطها من الاتفاق الثنائي، ولبثت تنتظر الشق السوري المقابل. لكن على مدى عامين من الوعود وطلبات التريث، لم يتحقق شيء بحسب الرواية الفرنسية.
في هذه الأثناء، بدأت تظهر مؤشرات معاكسة: سيناريو دير شبيغل للمحكمة الدولية، الثورة المخملية في طهران إثر انتخابات حزيران 2009، وصولاً الى تقارير عن انتقال جهاديين أصوليين من السعودية الى سوريا عبر كردستان العراق. حتى إن بعض هذه التقارير أكد اعتراف السلطات السعودية بنحو 1850 «مفقوداً» من الأشخاص المراقَبين من قبل السلطات السعودية على أراضيها، نظراً الى الاشتباه فيهم، مع «ترجيح» انتقالهم الى دولة أخرى. عند هذا الحد، بدأت تظهر أولى علامات التفسخ في الاتفاق الفرنسي ـــــ السوري. وراحت تتبيّن أكثر فأكثر مشاعر الريبة والحذر وعدم الاطمئنان. أواخر سنة 2010 كان الاتفاق المذكور يلفظ آخر أنفاسه: سوريا تؤكد وجود مخططات متطرفة ضدها، والشق اللبناني يُدفن نهائياً بإسقاط حكومة سعد الدين الحريري. فأعلنت باريس أنها باتت في حل من كل تعهداتها، وبدأت الحرب.
وفي شهر آذار 2011، وصل مسؤول أمني سوري رفيع الى فرنسا، حاملاً لائحة طويلة من أسماء المتطرفين الإسلاميين، المرجح أن يكونوا قد تحولوا الى أعضاء في خلايا إرهابية نائمة في أوروبا. لكن الرد الفرنسي جاء فجّاً: لا نريد لوائحكم. انتهى الاتفاق السابق. لا تفكروا بعد اليوم بأي مقايضة بين تنسيقنا الأمني وتغطيتنا لنظامكم. من الآن فصاعداً، أنتم مسؤولون عن كل ما سيحصل لكم ... وبدأت «الثورة السورية».
في النهاية، يقول الفرنسيون، بلغنا جميعنا المأزق نفسه. كلنا بتنا في خانة الجمود، لا قدرة على التقدم، لكن أيضاً لا إمكان لأي تراجع. إلى أين من هنا؟ إنها بداية نفق طويل.