لم يكن ضباب الصبح قد انقشع بعد. الغيوم في السماء تنبئ بأن عاصفة جديدة قادمة. السيارة تشقّ طريقها في قرى البقاع الشمالي. يقود السائق السيارة بسرعة توحي بأنه يحفظ الطريق عن ظهر قلب. لا شيء في مظهر السائق أو المرافقَين يوحي بأنهم سلفيون. لا لحى مطلقة ولا شاربين محفوفين، ولا زيّ أفغانياً، أو غيرها من المظاهر النمطية التي تتبادر إلى الذهن عند الحديث عن السلفيين. تصل السيارة إلى حاجز لقوى الأمن الداخلي. يومئ السائق برأسه للعسكري الذي يخرج من غرفة الحراسة، فيرد بإيماءة. ومن دون أن يسأل، يبادره السائق بـ«أننا نقوم بجولة سياحية»، يضحك الجميع ومعهم العسكري.
تكمل السيارة على الطريق الوعرة. في هذه الرحلة، السيارة الرباعية الدفع أكثر من ضرورة. بعد كيلومترات عدة في جبال جرداء، تمرّ السيّارة بـ«راعٍ» برفقة كلب. يقترب الرجل من السيارة، فتلمح خلف ظهره سلاح كلاشنيكوف، لكنه لا يلبث أن يتراجع بعدما يلقي السلام مرحّباً. يسرّ أحد المرافقين بأنه «كشّاف» مهمته الاستطلاع والمراقبة. يلوح من البعيد منزلٌ في منطقة نائية. كل شيء يبدو طبيعياً إلى حدٍّ ... غير طبيعي! ندلف إلى المنزل لنجد ستة جرحى ممددين، يئنّ بعضهم من الألم. يقول السائق: «الأخوة من الجيش السوري الحر. أصيبوا بجروح الليلة الفائتة».
في المنزل، أيضاً، ملتحون مسلحون بالكامل. يسلمهم السائق غرضاً كان بحوزته، ويهمّ بالمغادرة. نسأله عن «الشيخ»، فيجيب: «ستقابله عمّا قريب». نعلم أننا لم نصل إلى المكان المنشود. نستقل السيارة، مجدداً، برفقة السائق وحده هذه المرة. أثناء المسير، يصادفنا نهرٌ يقطع الطريق، لكن السائق يندفع فيه مقرراً اجتيازه من دون تردد. تعلق عجلة السيارة بإحدى الصخور، لكن دراية السائق بالطريق لا تبقي عائقاً. يجتاز النهر ويكمل طريقه. بعد نحو عشر دقائق، يلوح منزلٌ صغير.
داخل المنزل كان اللقاء الأول مع الشيخ أ.ع.، وجهاً لوجه، بعد أشهر من التواصل الهاتفي. تُفاجأ بمظهر الرجل الأربعيني الذي كنت تمازحه على الهاتف. لحية كثّة تضفي عليه هالة من الوقار، رغم أنه دائم التبسّم. ليس هذا مكان الإقامة الدائم للشيخ الدائم التنقل بين لبنان وسوريا والعراق، والذي أقام في مخيم عين الحلوة نحو عام حيث درّس القرآن قبل أن ينتقل إلى البقاع. وقد أكّدت مصادر متطابقة أنه يملك منزلين في لبنان وسوريا. إضافة إلى نحو عشرة منازل في البقاع والشمال لاستقبال «الضيوف» الذين يزوّدهم بأوراق ثبوتية مزورة لتسهيل تنقلاتهم داخل الأراضي اللبنانية.
ينهض الشيخ مرحّباً، ويطلب الشاي قبل أن يعود الجميع إلى الجلوس أرضاً. «القعدة عربية» في غرفة فسيحة ذات نافذة صغيرة، تتوسطها سجادة و«صوبا» على المازوت. ستّ بنادق من طراز «كلاشنيكوف» مسندة إلى أحد الجدران. يعرّف بـ«الأخوة» الحاضرين: أربعة منهم قدموا من سوريا قبل يومين، هم ثلاثة سوريين والرابع جزائري، جميعهم حليقو اللحى. «أخَوَان» آخران بقيا ملثّمين طوال الجلسة. الرجل الذي غادر بعد شرب الشاي، قال «الإخوة» إنه «أبو محمد»، مسؤول نقل السلاح والأشخاص بين لبنان وسوريا، وهو يتولى إيجاد منازل آمنة بين طرابلس وبيروت.
يبدأ الشيخ الجلسة بسؤال عن الأحوال، «فأنتم أهل الصحافة أدرى بما يجري». يدور الحديث بين الحضور حول الأحداث في سوريا. يصعب تمييز اللهجات، رغم البصمة السورية الواضحة؛ إذ إن لهجة أهالي القرى الحدودية تتشابه إلى حد بعيد مع اللهجة السورية. لا يخفي الشيخ دعمه لـ«الثورة في سوريا عبر توفير ما أمكن من سلاح للمجاهدين»، لكنه لا يلبث أن يشير إلى أن «نقل السلاح عبر لبنان تراجع كثيراً هذه الأيام، بسبب سيطرة رجال الجيش الحر على مخازن أسلحة في سوريا».
عن العلاقة مع «الجيش الحر»، يشير الشيخ إلى أن التنسيق بين هذا «الجيش والإسلاميين الجهاديين ليس خافياً». يؤكد أنهما «ليسا طرفاً واحداً، لكن العلاقة بينهما تتقاطع عند أكثر من نقطة. إضافة إلى الرابط الديني بينهما لكونهما ينتميان إلى الطائفة السنية المسلمة، فإنهما يتعاونان ضد عدو واحد يتمثل بالنظام السوري. كذلك فإن إمساك السلفيين الجهاديين بالمفاصل الحدودية بين لبنان وسوريا وبين سوريا والعراق يمثّل بيئة حاضنة لهذا الجيش للتعامل مع المهرّبين من أجل إدخال الأشخاص والسلاح».
نقاش الجالسين فحواه أن ما يجري في الدول العربية من «ثورات» يصب في «مصلحتنا». هنا، يصل الحديث إلى نشاط «القاعدة» بين لبنان وسوريا. يكشف الشيخ أن جميع الحاضرين «سلفيون جهاديون». يؤكّد أحدهم أن ثلاثة من قادة «القاعدة» خرجوا من السجون الليبية، وأن نحو خمسين شخصاً وصلوا من ليبيا وتونس وسوريا والعراق والسعودية إلى لبنان، مبعوثين من قيادة التنظيم، بهدف استطلاع الوضع وتهيئة الأرضية لإعادة إطلاق الجهاد. ويوضح الشيخ أن هناك مجموعة دخلت إلى مخيم عين الحلوة تتألف من ثلاثة سعوديين وثلاثة عراقيين وسوريين اثنين وتونسي. ويتحدث كذلك عن انتقال عناصر تابعين لهم لاستطلاع الأرض بين بيروت وطرابلس. «مبعوثو القاعدة»، بحسب الحاضرين، أنهوا جولة الاستطلاع في لبنان، والنتيجة جاءت «إيجابية». فـ«الأرض خصبة للعمل الجهادي، والموفدون عقدوا العزم على إطلاق مشروع قاعدي جديد في بلاد الشام»، ومن ضمنها لبنان. فقد حان الوقت لـ«حي على الجهاد». يتطرق الحديث إلى عملية الدهم التي نفّذتها مخابرات الجيش اللبناني في منزل في بلدة عرسال البقاعية في 22 تشرين الثاني الماضي لاعتقال مشتبه به في تنظيم «القاعدة». نسأل عن المطلوب الذي أشار إليه بيان أحد الأجهزة الأمنية يومها بالأحرف الأولى من اسمه م. ش. ينفجر الحاضرون ضحكاً؛ لأن الاسم غير صحيح. يقول الشيخ إن الشخص المعني هو حمزة القرقوز. سوري في منتصف العشرينيات من العمر، من قياديي «القاعدة» ويتولى التواصل مع «المجاهدين» في لبنان وسوريا والعراق والتنسيق معهم. يؤكد أن القرقوز «كان موجوداً في هذا المنزل» في اليوم السابق. يتسلم الملثّمان زمام الحديث، ويؤكدان أنهما كانا موجودين في المنزل الذي دهمه عناصر المخابرات بحثاً عن القرقوز. بدا الزهو واضحاً في صوتيهما وهما يرويان كيف انتزعا الأسلحة من عناصر الاستخبارات بعدما فوجئ هؤلاء بعدد المسلّحين الذين كانوا في المنزل، وكيف غادر القرقوز من باب خلفي للمنزل بعدما عرّف أمام عناصر المخابرات عن نفسه!

في المقابل، يسرد مصدر أمني لـ «الأخبار» رواية استخبارات الجيش. فيذكر أنه بعد عملية رصد ومتابعة، توفّرت معلومات عن وجود قيادي في تنظيم «القاعدة» في أحد المنازل في عرسال. توزّع عناصر الاستخبارات على أربع سيارات داهمت المنزل حيث قُبض على القرقوز. ويضيف المصدر أن مسؤول الدورية ارتأى أن يُجري مع الموقوف تحقيقاً ميدانياً سريعاً، علّه يتمكن من توقيف آخرين، «وهنا كان الخطأ الجسيم الذي ارتكبه عناصر الاستخبارات، فقد استدرجهم الموقوف إلى كمين من دون أن يدروا. أخبرهم أنهم إذا دهموا منزلاً معيّناً فإنهم سيقبضون على أحد أمراء تنظيم القاعدة. وقع عناصر الاستخبارات في الفخ. دهموا المنزل المذكور، فأطبق عليهم المسلّحون وانتزعوا منهم القرقوز الذي ألقى عليهم التحية متهكماً قبل أن يغادر. فيما جرّد المسلّحون عناصر الاستخبارات من أسلحتهم قبل أن يطردوهم».
اسم بارز آخر مرّ ذكره في هذه الجلسة. أحد أبرز المطلوبين، المتهم بالضلوع في عمليات إرهابية في سوريا ولبنان من بينها متفجرة البحصاص في طرابلس التي أودت بحياة أربعة عسكريين ومدنيين اثنين في أيلول عام 2008. المعلومات المستقاة من الحضور تقاطعت مع أخرى حصلت عليها «الأخبار» من سلفيين جهاديين تفيد بأن «الأخ»، المطلوب الأول لاستخبارات الجيش، غادر مخيم عين الحلوة قبل ثلاثة أشهر لمدة أسبوع، قبل أن يعود إلى منطقة الزيب في المخيم، حاملاً مبلغاً من المال سلّمه لقيادي فتحاوي مقابل توفير السلاح لعناصر من جند الشام وفتح الإسلام، ولتوفير منازل لاستقبال وافدين عرب في المخيم، جرى استئجارها بأسماء بعض مرافقي القيادي المذكور.
بعد ذلك غادر «الأخ» المخيم إلى قرية في البقاع الشمالي حيث استقر في خراجها لمدة ثلاثة أيام، ثم قطع الحدود اللبنانية ــــ السورية، واستقر لبعض الوقت في حيّ الخالدية في مدينة حمص. وهناك تواصل مع أفراد من تنظيم «القاعدة» في سوريا، ووفّروا له دخولاً آمناً إلى بلاد الرافدين، قبل أن يعود مع موفدَين اثنين من «القاعدة» إلى المخيم بغرض لم شمل بقايا فتح الإسلام وعناصر منشقة عن جند الشام والحركة الإسلامية المجاهدة وعصبة الأنصار.
تشير المعلومات أيضاً إلى وصول مجموعة سلفية جهادية تضم ستة سعوديين وثلاثة سوريين وفلسطينيّين اثنين عبر مطار بيروت والحدود اللبنانية ــــ السورية، وتزامن وصولهم مع عودة فلسطينيين جهاديين من العراق. وقد توزّع أفراد المجموعة على المخيمات الفلسطينية. ولفتت المصادر إلى نشاط متزايد لحركة سلفية دعوية في مخيم برج البراجنة، وإلى ملاحظة «وجوه غريبة» على أطراف المخيم، حيث ترددت أخبار عن حصول تدريبات على الأسلحة في الطبقة السفلية لأحد المباني في الحي المذكور.
في موضوع «القاعدة» يدور النقاش في لبنان حول كلمتي «الممر» و«المقر». فيما يبدو هذا التنظيم غير معني بكل هذه النقاشات. المعلومات المتقاطعة مع أكثر من مصدر، وفي أكثر من منطقة، تشير إلى أن «القاعدة» يشقّ طريقه بتصميم وأن الوقت ربما بات قريباً لاستيقاظ كل «الخلايا النائمة»... فقد «اشتاق المجاهدون إلى لذة الجهاد».



القبضة الأمنيّة للقاعدة

يسيطر المسلّحون على معظم المعابر غير الشرعية على الحدود اللبنانية مع سوريا. للوهلة الأولى، تعتقد أن هؤلاء مهرّبون. الانطباع لديك لا يلبث أن يتغيّر. يُخبرك أحدهم أن هؤلاء من «الإخوة المجاهدين». تعلم أن هناك نحو 150 مسلّحاً ينتشرون على الأراضي الوعرة الممتدة بين لبنان وسوريا. ينتمون إلى جنسيات مختلفة، أبرزها اللبنانية والسورية. يخبرك الرجل نفسه أن بينهم قرابة خمسين لبنانياً منخرطين في العمل الجهادي. الفكرة لا تزال غير واضحة في رأسك. فالتمييز بين المهربين والمقاتلين لا يزال صعباً، وماهية العلاقة مع المهرّبين ملتبسة. يتدخل أحد «الإخوة» ليشرح أن المجاهدين يستخدمون المهرّبين. يتحدث الأخ عن دفعات عينية ومالية تُفرض على المهرّبين. يذكر أنهم يأخذون منهم مازوتاً ومواد غذائية، ويتحدث عن مبالغ مالية يدفعها أولئك لإمرار شحناتهم. تسأله، «إذاً تأخذون منهم خوّة؟»، فيضحك قائلاً: «لا. ليست خوّات.. إنها تبرّعات». تسترسل مستفسراً إن رفض أحدهم الدفع، فيؤكد لك أن الجميع يلتزم بها عن طيب خاطر، وإذا رفض أحدهم فإنه سيُمنع تلقائياً من المرور في الاتجاهين. يخبرك أن المهرّبين يساعدونهم في نقل السلاح والمواد الغذائية والجرحى إلى القرى البقاعية والشمالية. يطول الحديث عن الأساليب المتّبعة للتهريب، فيدخل بعض «الإخوة» على خط الحديث، ويستذكر أحدهم كيف كان المهرّب في الماضي يدفع «رشى» للهجانة السورية لكي يمر وشحنته. أما اليوم، فيشير إلى أنها استُبدلت بالتبرعات التي تذهب لـ«دعم أهل السنّة والجماعة في ثورتهم على الطاغوت».



مجاهدون مغاربة وجزائريون

أكدت التحقيقات الأمنية أن معظم مقاتلي فتح الإسلام الذين شاركوا في معارك نهر البارد عام 2007 دخلوا من مناطق البقاع الشمالي والشمال اللبناني، وبالتحديد وادي خالد. ويروي المهرّب م. ع. من وادي خالد، والذي أوقف لسنوات عدة بتهمة إيواء عناصر من القاعدة، لـ « الأخبار» تفاصيل تهريب ثلاثة مقاتلين من تنظيم «القاعدة» عبر الحدود السورية إلى لبنان، من دون أن يكون، بداية، على علم بهويتهم الحقيقية. ويذكر المهرّب اللبناني أن مهرّباً سورياً طلب منه إيصال ثلاثة أشخاص من الجنسية المغربية مقابل 30 دولاراً على الشخص الواحد. طلب م . مزيداً من المال، فأجابه المهرّب السوري بأن هذا المبلغ هو كل ما في حوزتهم، أضف إلى أنه لن يخسر شيئاً فهم على طريقه، باعتبار أنه كان مكلفاً إيصال «نقلة مازوت». اقتنع المهرب وأركبهم معه، وعندما وصلوا إلى الوادي أخبروه بأن من يفترض أن يكونوا في استقبالهم لم يأتوا. فاستضافهم في منزله لمدة ثلاثة أيام قبل أن يغادروا بعدها من دون أن يسمع عنهم شيئاً. مرّت الأيام، ليستدعى بعد أكثر من سنة ويسجن بتهمة إيواء عناصر إرهابية.
حالة أخرى، رواها سلفي جهادي لـ «الأخبار » عن أحد المهرّبين الذي قرر في احدى المرّات احتجاز «مجاهدين من الجزائر» مقابل طلب الحصول على فدية. يذكر الراوي أن «الأخوة» تحركوا بسرعة لتدارك الأمر، فأرسلوا «مجموعة حررت الشابين، ولقّنت المهرّب درساً قاسياً».