في عام 1976، مع انتخاب الراحل إلياس سركيس رئيساً للجمهورية، ساد اعتقاد بأن الحرب انتهت. دخلت قوات الردع العربية إلى لبنان، وعقد مؤتمر فاس الذي قرر مساعدات للبنان بقيمة 4 مليارات دولار لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. كلّف سركيس نائب حاكم مصرف لبنان، حينها، سليم الحص وضع تصور لطريقة صرف هذه الأموال. هكذا وضع الحص هيكلية مجلس الإنماء والإعمار الذي كان مقرراً أن يكون رئيسه، قبل أن يختاره سركيس رئيس حكومة. في عام 1977، حُلّت وزارة التصميم وأنشئ المجلس بموجب مرسوم اشتراعي رقم 5، وأنيطت به ثلاث مهمات رئيسية: وضع خطة لإعادة الإعمار والتنمية، وتحديد جدول زمني لها، وضمان تمويل المشاريع والإشراف على تنفيذها واستغلالها من طريق الإسهام في عملية إعادة تأهيل المؤسسات العامة لتمكينها من تحمل مسؤولية تنفيذ عدد من المشاريع تحت إشراف مجلس الوزراء. أعطي المجلس صلاحيات واسعة لجهة الخروج من الروتين الإداري وتعاونه مع القطاع الخاص؛ كذلك وُضع نظام مالي يسمح للمجلس بالصرف مع رقابة لاحقة، لا مسبقة. إلا أن المجلس انتقل إلى ساحة تجمع جميع القوى السياسية الفاعلة. الكل لديه حصة. الكل لديه مصلحة. الكل شريك في المحاصصات والتنفيعات.
من التخطيط إلى التنفيذ

انطلق المجلس في عمله. بدأ بوضع الخطط بالتنسيق مع الوزارات المعنية، وغالباً ما كانت هذه الخطط ذات تمويل خارجي. يشير مصدر مطلع إلى أن الإدارة العامة كانت مشلولة، فلجأ المجلس إلى خلق إدارات رديفة، منها بنك الإسكان، ووفّر لها التمويل. بدئ العمل بمشاريع ينفّذ المجلس جزءاً منها وتنفذ الجهات المعنية الجزء الآخر لتشجيع الإدارات على القيام بعملها. لكن بسبب التعقيدات التي كانت تعانيها الإدارات العامة، في مقابل تحرر المجلس من هذه التعقيدات، بدأ المجلس يأخذ شيئاً فشيئاً، من الناحية العملية، دور معظم الوزارات.
بعد انتهاء الحرب، تحول المجلس يداً تنفيذية لرئيس الحكومة. عام 1993، وضع خطة متكاملة تتعلق بإعادة الإعمار والإنماء تحت اسم «خطة أفق عام 2000». طاولت الخطة كل القطاعات، كالكهرباء والمياه والبنى التحتية وتأهيل المدارس وبناء أخرى جديدة. وتضمن كل قطاع ثلاث مراحل للنهوض به، وحُدِّدت فترة زمنية تمتد إلى ثلاث سنوات، وكلّف إعداد الخطة 5 ملايين دولار، وفق الرقم المعلن، لكن الدراسة أهملت حكومياً، ولم تعلن.
أقر المجلس في دراسة له عام 2005 تحت عنوان «نحو رؤية للتجهيزات وللخدمات العامة في أفق 10 إلى 15 سنة»، بأن «رؤى الإعمار لم تشهد إعادة نظر معمقة. لا بل اعتُمدت في مجالات عدة خيارات عززت الأوضاع التي أنتجتها الحرب تحت حجج وشعارات مختلفة، بدءاً من البراغماتية السياسية، وصولاً إلى البحث عن التوازن في الاعتمادات المخصصة. وبقيت الدراسات القطاعية تمثل حالة استثنائية. وحين وُضع مثل هذه الدراسات (مخطط النقل بين عام 1993 وعام 1994، على سبيل المثال، أو خطة تجميع المدارس) لم يتخذ أي قرار حكومي بصددها، لا سلباً ولا إيجاباً، فبقيت من دون تأثير على لائحة المشاريع الموجودة سابقاً».
هذا الواقع لا ينكره رئيس دائرة التنفيذ والمعلوماتية في المجلس إبراهيم شحرور. «للمجلس أدوار أساسية ثلاثة: تخطيط، تمويل، تنفيذ. إلا أن دوره الأخير غلب الدورين الأولين». لهذا المنحى أسبابه، فقد رفض مجلس الوزراء خططاً تقدم بها المجلس «مثل خطة أفق 2000، وخطة النقل ومشروع تجميع المدارس، وبعض الخطط تأخر كثيراً قبل إقراره مثل المخطط التوجيهي للأراضي اللبنانية». يقدم شحرور مثالاً آخر؛ إذ إن خطة المدارس التي كانت تهدف إلى إنشاء مدرسة واحدة لعدد من القرى رفضت لأسباب مناطقية. «فكل نائب وكل فريق سياسي يريد مدرسة لمنطقته». هكذا ضاعت الخطط في حضرة السياسة، وأصبح المجلس (الذي كان من المفترض أن يؤدي من ضمن مهامه دور وزارة التخطيط) مجلساً أعرج.

المحاصصات في التوظيف

هيكلية المجلس القيادية تتألف من رئيس، مجلس إدارة ومكتب المجلس (أو مكتب الرئيس). تقول المصادر إن لمعظم هؤلاء ارتباطات سياسية. البعض موجود كـ«برستيج»، والبعض يستفيد من استملاكات سوليدير لتحقيق أرباح هائلة من بيع الأسهم وشرائها! الرئيس هو حالياً نبيل الجسر الذي يحظى قانوناً بصلاحية تمثيل الدولة في توقيع اتفاقيات التمويل الخارجي (يلفت المصدر، في هذا الإطار، إلى أنه لا صلاحية لدى الوزراء لتوقيع المشاريع). ويحق لرئيس المجلس صرف 80 ألف دولار سنوياً على المشاريع من دون الرجوع إلى أحد.
وبنظرة إلى تركيبة المجلس، تتضح معالم المحاصصة التي تتحكم به. فالجسر هو شقيق النائب في تيار المستقبل سمير الجسر. وكان الرئيس رفيق الحريري قد رشحه لتولي رئاسة المجلس بين عامي 1995 و1999. وفي عام 2005 عيّنه الرئيس فؤاد السنيورة مستشاراً له، قبل أن يعيده الأخير إلى رئاسة المجلس. ويحتل منصب نائب الرئيس ياسر بري، شقيق رئيس مجلس النواب نبيه بري. فيما كان النائب الثاني للرئيس آلان قرداحي (توفي أخيراً) من حصة الرئيس إميل لحود. أما مفوض الحكومة لدى المجلس، وليد صافي، فهو حزبي منتسب إلى الحزب التقدمي الاشتراكي. وتنسحب المحاصصة على مكتب المجلس ومجلس الإدارة: غازي حداد (حصة ميشال المر)، ومالك العياص (الحصة الدرزية أرسلان ـــــ جنبلاط)، ويحيى السنكري (عديل الرئيس السابق عمر كرامي).
يتألف المجلس من ست إدارات: التخطيط، التمويل، المشاريع، المالية، الشؤون القانونية، والإدارة، والثلاث الأولى هي الأهم بين الإدارات الست. ومنذ إنشائه وحتى 2008، كان التوظيف في المجلس يخضع لكوتا المحاصصة نفسها، ولا يمكن أن يتم إلا بـ«الواسطة»، رواتب الموظفين تبدأ من 900 ألف ليرة (للحراس الجدد) لترتفع بين رؤساء الدوائر والأقسام إلى 10 ملايين ليرة، ويضم المجلس نحو 200 موظف ضمن الملاك، إضافة إلى نحو 300 متعاقد على المشاريع، ومتعاقدين عبر شركات توظيف.
تتحكم السياسة في كل مفاصل عمل المجلس. فقد وظّف وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي أخاه غالب في مشروع يتعلق بالمياه في البقاع الغربي، من تمويل البنك الدولي الذي يمنح رواتب مرتفعة جداً نسبة إلى السوق اللبنانية. زياد المشنوق، شقيق النائب نهاد المشنوق يعمل رئيس دائرة في مديرية المالية. كذلك يعمل في المجلس فوزي أبو زيد، وهو من «هيئة دعم المقاومة الإسلامية»، وقصي شرف الدين ابن السيدة رباب الصدر وشقيق نائب حاكم مصرف لبنان رائد شرف الدين مسؤولاً عن صناديق التمويل. ومثّل المجلس مرات عدة ممراً للوصول إلى المناصب الوزارية؛ إذ انتقل كل من يوسف سلامة وإبراهيم شمس الدين من مجلس الإنماء والإعمار إلى القصر الحكومي.
لا يدخل شحرور في نفي هذه المعطيات أو تأكيدها. وهو يحسم المشهد بالقول إن «رئيس المجلس وأعضاء مجلس الإدارة يعينون مباشرة من مجلس الوزراء، وبالتالي فإن هذا التعيين بحد ذاته هو قرار سياسي، وتتداخل السياسة بالقرار، كأي إدارة لبنانية أخرى». إلا أنه يشدد على أن أي شخص، حتى ولو جاء وفق حصة سياسية معينة، فإنه فور دخوله إلى المجلس يصبح ملزماً بصلاحياته وعمله. أما بالنسبة إلى التوظيفات السياسية، «فمن غير المستغرب أن يكون هناك موظفون تابعون لجهات سياسية، أو أقارب لشخصيات. لبنان صغير. وهذا الواقع لا ينطبق إلا على قلة من الموظفين».

مناقصات مدروسة

آلية التحاصص المتبعة في مناقصات مجلس الإنماء والإعمار تتبع أساليب تجعل من الصعب اكتشافها إلا على من يعمل في المجلس. تشير المصادر إلى أن أي مشروع ينطلق قانوناً من المجلس مع اقتراح تمويل له، وتوافق الحكومة على المشروع والتمويل، علماً بأنه في أحيان كثيرة تكون للمموِّل «شروط خاصة». أما المتعهدون، فيُصنفون بحسب القطاع: أشغال، دراسات، توفير معدات... إضافة إلى تصنيف آخر، يقسمهم إلى 5 فئات: متعهدو مشاريع ما دون المليون دولار، ومتعهدو المليون إلى 5 ملايين، ومتعهدو الـ 5 إلى 10 ملايين دولار، ومتعهدو الـ 10 إلى 20 مليوناً، ومتعهدو ما فوق الـ 20 مليوناً.
يُدعى المتعهدون، وفق تصنيفهم، عبر الصحف المحلية، وأحياناً الأجنبية، إلى التقدم بطلبات المشاركة في المناقصات. قبل بدء المناقصة، بحسب مصدر واسع الاطلاع، يعمد بعض المتعهدين إلى تضمين طلباتهم معلومات غير صحيحة عن تنفيذهم مشاريع في بلدان أخرى، بالتواطؤ مع عاملين في سفارات دول في لبنان، فيما يستأجر آخرون آليات ومعدات ويقدمون أوراقهم على أساس أنها ملك شركاتهم.
يلفت المصدر إلى أن المناقصة تكون، عملياً وظاهرياً، شفافة جداً؛ إذ تمر بمراحل قانونية دقيقة. إلا أنه أحياناً يجري التلاعب بالنتائج قبل البدء بالمناقصة. فليس غريباً، مثلاً، أن تقرر إحدى الدول تمويل أحد مشاريع الشركة التي ينبغي أن تفوز بالمناقصة. لذا، يجري وضع دفتر الشروط بما ينطبق على الشركة المطلوب فوزها، وبذلك يتحوّل عدد من السفراء إلى مجرد «سماسرة». ويؤكد المصدر أن هذه العملية لا تنحصر بجدران مجلس الإنماء والإعمار؛ إذ عادة ما تكون نتائج مناقصات كهذه بمعرفة جهات سياسية عليا.
ويشرح المصدر أنّ مناقصات المشاريع المصنفة تحت قيمة مليون دولار تجري بطريقة نظامية، وأن التناتش يدور حول تلك التي تفوق قيمتها هذا الرقم؛ إذ إن المتعهدين الكبار الذين يؤلفون ما يشبه «الكارتيل»، يتفقون لإمرار المناقصات في ما بينهم. ويلفت المصدر إلى أنه فيما لا يحق لأي متعهد أن يلتزم أكثر من 5 مشاريع، إلا أن عدداً من المحظيين لا يمكن أن تقل مشاريعهم عن الخمسة، وبالتالي، إذا ما انتهى أحد هؤلاء من مشروع، فمن المؤكد أنه سيفوز بالمناقصة اللاحقة لكي لا يقل عدد مشاريعه عن الحد الأقصى!
ويتوزع المتعهدون المحظيون والمدعومون سياسياً الذين يلقبون بـ«عابري القارات» على مختلف الأطراف السياسية. يتربع على عرش هؤلاء، جهاد العرب، الأقوى في لبنان، (حصة الرئيس سعد الحريري). ويبرز جنوباً المتعهد محمد دنش (حصة الرئيس نبيه بري)، وشمالاً شركة معوض وإده (حصة النائب سليمان فرنجية)، وشركة بدوي أزعور (يملكها والد وزير المال الأسبق جهاد أزعور)، وفي الشوف شركة الريس (حصة النائب وليد جنبلاط).
«عبور القارات» لا يقتصر على المتعهدين؛ إذ إن لشركات الدراسات الهندسية حصتها من الكعكة، ومنها شركة طالب للهندسة، شركة شاعر للهندسة، سبكتروم، وشركة آيس.
«نعم»، يقول شحرور، «يوجد الكثير من شركات التعهدات والمقاولات المقربة من سياسيين، كذلك توجد أخرى لا علاقة لها بهم». يستغرب القول إن بعض المناقصات تكون معروفة النتائج مسبقاً: «أكون ساذجاً إن قلت إن المتقدمين لا يتحدثون معاً قبل إجراء المناقصات، ولكن ما يهم المجلس هو الحصول على عروض جيدة بأسعار مناسبة». ويلفت إلى أن بعض الممولين الأجانب يشترطون تضمن دفتر الشروط أن تكون الشركات المتقدمة إلى المناقصات من جنسية الدولة الممولة، والحكومة اللبنانية توافق على هذا النوع من الدفاتر، «لكن لا معلومات لدي عن سفراء يشترطون فوز شركات محددة، فهذا يلحق الضرر بعملهم الدبلوماسي». أما بالنسبة إلى شركات الدراسات، فبحسب شحرور، «يوجد عدد من الشركات الكبرى التي فرضت نفسها في السوق، ولديها قدرة على إدارة مشاريع كبرى، وبالتالي يمكن أن تتسلم عدداً أكبر من المشاريع».
وبين الكلام الرسمي الصادر عن مجلس الإنماء والإعمار، وكلام المصادر الموزعة على كل القطاعات العاملة مع المجلس، تبقى صورة واحدة تدغدغ الأذهان، وتسيطر على المشهد: مجلس الإنماء والإعمار تحول هو نفسه إلى شركة تعهدات. شركة مهمتها توزيع المشاريع بأكثر الطرق «إنصافاً» على كل الأطراف السياسية. شركة تضبط إيقاع التحاصص المذهبي والمناطقي في بلد الخلافات الدائمة على الحصص. أما بالنسبة إلى التخطيط... فـ«لشو؟». الفوضى أُم استمرارية النظام.