لا تخفي الأوساط الدبلوماسية الروسية القريبة من وزارة خارجية موسكو ارتياحها لمجريات مجلس الأمن حيال الأزمة السورية. حتى إنها تحاول، بحياء ومن دون مفاخرة، تأكيد انتصار إدارة بلادها في تلك الحلبة، وصولاً إلى القول بأن هذه المسألة باتت خلفها، منذ جلسة الثلاثاء الماضي: لا شيء مهماً يحصل في نيويورك، ولا يمكن هذه الهيئة الدولية أن تكون الإطار الصالح لمقاربة الوضع في دمشق والحلول الممكنة له. وحين تواجهها بالسؤال عن الكلام الإعلامي الكثير على مفاوضات بين موسكو من جهة، وباريس وواشنطن من جهة أخرى، إزاء مشروع القرار المغربي المقدم «ضد» سوريا، تسارع الأوساط الدبلوماسية الروسية إلى التأكيد أن هذا التفاوض قائم، وسيستمر. أصلاً هي موسكو نفسها من تقدم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن نفسه منذ تشرين الأول الماضي. وبالتالي، لا غرابة في الحديث عن ذلك. لكن الهدف الفعلي والممكن والجدي في مكان آخر. أين؟ لا تتردد الأوساط الدبلوماسية الروسية في رفع العنوان الوحيد الذي تراه صالحاً للحل: نحن دعونا السوريين إلى عملية تفاوضية في موسكو. وهذا ما نراه الخطوة الجدية الأولى نحو أي حل مطلوب. قبل أن تضيف: قلنا بوضوح إن العنف يجب أن يتوقف من الطرفين. وأن ينتقل الطرفان للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وإن هذه المفاوضات يجب أن تتوصل إلى إصلاح النظام في سوريا، من ضمن برنامج واضح ومفصل، وفي إطار جدول زمني محدد لتنفيذه. ونحن نؤمن بأن موسكو قادرة على أن تؤدي الدور الأمثل لسياق من هذا النوع. لكن من هما الطرفان المدعوان إلى حوار كهذا؟ تسارع الأوساط الموسكوبية إلى الجزم: طبعاً السلطات السورية الرسمية التي يرأسها الرئيس بشار الأسد من جهة، والمعارضة السورية من جهة أخرى. والمسألة بالنسبة إلينا بسيطة. ألم تزعم مبادرة قطر وشركائها أن الحوار ممكن بين المعارضة السورية ونائب الرئيس السوري فاروق الشرع؟ حسناً، نحن نقول للمعارضة نفسها، قد يكون الشرع نفسه هو ممثل السلطات السورية في الحوار الذي ندعوكم إليه. حتى إذا كنتم تفضلون محاوراً آخر نضمن لكم محاولة الوصول إلى ذلك المحاور. تريدون وليد المعلم؟ نسعى إلى ذلك. لكن الأساس أن تدركوا أن الحوار هو مع الرئيس الأسد، لأنه هو المسؤول، وهو وحده القادر على الوصول إلى الحل وتنفيذه. لكن لماذا تعتبر موسكو ذلك وتصر عليه؟ تجيب الأوساط الروسية: صحيح أن لدينا مصالح كثيرة في هذا المجال، كنا قدد عددناها لكم وشرحناها بنحو مفصل سابقاً (راجع هذه الزاوية من «الأخبار» عدد 29 تشرين الثاني 2012)، لكن لدينا سبب آخر موضوعي، هو السبب المرتبط بالشرعية الفعلية والشعبية لبشار الأسد. اسمع هذا السر: نحن نعرف أن جهات قطرية رسمية كلفت شركة إحصاء واستطلاع بريطانية القيام بأوسع عملية استطلاع داخل سوريا بشأن الموقف من بشار الأسد. ونعرف تماماً أن النتائج النهائية أظهرت أن 55 في المئة من السوريين يؤيدون الرئيس الأسد، ويؤيدون أن ينفذ هو البرنامج الإصلاحي المطلوب. إلى متى يعود تاريخ هذا الاستطلاع؟ إلى 17 كانون الثاني الماضي لا غير، ومن قبل جهة لا تمت إلى الأسد بأي ودّ. لا بل كان مطلوباً منها تجريده من شعبيته، ما يعني أن النتيجة الحقيقية أعلى من تلك. وبالتالي فالرجل لا يزال يملك شرعيتين واضحتين: رسمية وشعبية، ولا لبس فيهما. حتى إن نتائج هذا الاستطلاع كان من المفترض أن تظهر في إحدى كبريات الصحف البريطانية، وفق طلب إجرائه منذ البداية. غير أن ظهور تلك النتائج تحديداً، جعل الطرف الممول للاستطلاع يرفض نشرها ويهدد بحجب التمويل إذا نشرت... المهم، لكل هذه الأسباب نقول إن الرئيس الأسد هو الطرف الأول في الحوار الذي ندعو إليه، أياً كان من سيمثله عملياً فيه. يبقى الطرف الثاني الذي ندعوه. نحن بكل بساطة سمعنا كلام ألان جوبيه عن أن ما يسمى «المجلس الوطني السوري» هو الممثل الشرعي والوحيد للمعارضة السورية. فوجهنا الدعوة إليه. لكن برهان غليون أعلن رفضها فوراً. علماً بأننا نعرف تماماً وضع «المجلس»، ونعرف الخلافات الكبيرة القائمة داخله، بينه وبين سهير الأتاسي (وثمة جانب شخصي لهذه المسألة!) وبين بسمة قضماني. كذلك فإننا نعرف قدراته التمثيلية على الأرض السورية. لا بل أكثر من ذلك، نعرف أن هناك من يفكر بعد انتهاء ولاية غليون رئيساً للمجلس، في الإتيان بسوري مسيحي أرثوذكسي رئيساً له. ونحن ندرك معنى تلك الغمزة، وندرك سطحيتها. أصلاً الأمر نفسه حاولوه يوم الثلاثاء الماضي في نيويورك، حين ضم وفد المجلس نفسه إلى الأمم المتحدة شخصين مسيحيين، قُدم أحدهما على أنه رئيس ما سُمي الاتحاد الأشوري العالمي ومركزه واشنطن، وقدم الآخر على أنه ممثل الاتحاد نفسه في أوروبا ومركزه بروكسل. نفهم مغزى هذه الغمزات، لكننا نعرف تماماً أن لا معنى لها. فالكنائس الوطنية السورية على علاقة يومية بكنيستنا الروسية الوطنية، ونعرف حقيقة توجهات ناسها وجماعاتها. لذلك، لا يعنينا كل ما يحصل على هذا الصعيد. لكن كما قلنا، أردنا أن نظهر لفرنسا تحديداً، التزامنا رأيها عند دعوة «المجلس الوطني». الآن تبلغنا رفضه، هكذا بات ممكناً لنا أن نوجه الدعوة إلى المعارضة الأخرى، ممثلة بهيئة التنسيق. ولا تنسوا أن لدينا في صفوف هذه أكثر من «رفيق قديم». فهم أصدقاء لنا منذ عقود، نعرف وطنيتهم وصدقهم وعمق ديموقراطيتهم وصلابة معارضتهم للحكم في سوريا. نعم، لا نخفي القول إننا نسعى إلى مقاربة هيئة التنسيق ودعوتها مجدداً إلى موسكو ومحاولة القيام بشيء ما على هذا الصعيد. رغم إدراكنا أن ضغوطاً كبيرة تمارس عليها لمنعها من القيام بأي خطوة حوارية، منذ زيارة السفير الأميركي في دمشق لحسن عبد العظيم في مكتبه هناك.
لكن في هذا الوقت ثمة تطورات عسكرية عنفية على الأرض، فهل يمكن موسكو أن تفكر مثلاً بمقاربة ما يسمى «الجيش السوري الحر»؟ قطعاً لا، تردّ الأوساط الدبلوماسية الموسكوبية فوراً. فنحن نعرف تماماً واقع هذا «المكون». إنه بضعة آلاف من الهاربين من الجيش النظامي، يجري نفخهم عبر استيراد «مجاهدي الثورة الليبية» من طرابلس الغرب إلى داخل الأراضي السورية. ونعرف من يقوم بهذه العملية بالتفصيل. ونعرف أكثر من ذلك، أن المستقدمين ليسوا سوى مجموعات من «بلطجية» الفوضى الليبية وعصاباتها، فضلاً عن أكثر المتطرفين الإسلاميين قسوة وإرهاباً. وهم ممن باتت ليبيا تنوء تحت فوضاهم، فوُجد هناك من قرر نقلهم إلى سوريا، ليصيب عصفورين بحجر واحد: إراحة ليبيا وإنهاك سوريا. لذلك، لا يمكن أن نتوجه إلى هؤلاء في دعوتنا. لكن ماذا إذا تطورت الأوضاع الأمنية وحقق هذا الطرف تقدماً ميدانياً آخر على الأرض السورية؟ يجزم الروس بأن هذا مستحيل. نحن نعرف أن السلطات السورية ستحسم الأمر. بعد الحسم قد تستمر بعض الجيوب لفترات طويلة، لكن ذلك لن يحول دون حسم الوضع رسمياً. نحن عشنا هذا السياق تماماً. ففي الاتحاد السوفياتي، بعد نهاية الحرب الثانية وهزيمة هتلر وحلفائه، ظلت لدينا على الأراضي السوفياتية نفسها، جيوب عسكرية نازية وفاشية تقوم بعمليات تخريبية حتى عام 1953. لذلك، مثل هذه المناوشات لا يجب إعطاؤها أكثر من حجمها وحقيقتها.
نحن نعتقد ونقول إن سوريا لا يمكن أن تسقط بالعنف، ولا بالحصار الاقتصادي، ولا طبعاً تحت أي تدخل خارجي أعلنا بوضوح أننا نرفضه وسنقاومه... فلم يبق إلا الحوار، ومع الرئيس بشار الأسد، ونحن جاهدون لتحقيقه. كل الباقي وقت ضائع، يجدر بالمعنيين اختصاره، ضناً بعذابات الشعب السوري وتضحياته، إذا كان ثمة من يهتم فعلاً بهذا الشعب.



ميدفيديف هاتفياً وبوتين استراتيجياً

على عكس الانطباع السائد حول العلاقات بين موسكو ودمشق، تؤكد الأوساط الدبلوماسية الروسية أن العلاقة الشخصية بين الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف والرئيس السوري بشار الأسد، أوثق بكثير من العلاقة بين الأخير ورئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين. حتى إن ميدفيديف لا يتوقف عن الترداد أمام معاونيه وأمام زواره الرسميين أنه يثق بالرئيس الأسد، وأنه يمحضه كل ثقته. وهو سُمع أكثر من مرة يقول صراحة: خيارنا مع هذا الرجل. على عكس ما يوحيه بعض التصريحات الإعلامية لصديقه الشخصي وموفده الرئاسي إلى أفريقيا، ميخائيل مارغيلوف، الذي يشغل أيضاً مركز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الاتحاد الروسي. وللدلالة على ذلك، تؤكد الأوساط نفسها أن ميدفيديف حرص طوال الأشهر الماضية على الاتصال هاتفياً بالأسد مرات عدة، لإبلاغه الدعم وإبقاء التواصل الشخصي المباشر. وفي المقابل، فرئيس وزراء روسيا الحالي فلاديمير بوتين، لم يجر طوال الأزمة السورية أي اتصال هاتفي بالأسد، ومع ذلك فالانطباع الدولي قائم على أنه هو الداعم الأول والأكبر للرئيس السوري في الكرملين. وتفسر الأوساط الروسية هذه المفارقة بأن عالم السياسة الدولية والدبلوماسية الكونية يعرف بوتين على أنه رجل القراءة الجيو ــــ استراتيجية لروسيا الكبرى. وبالتالي فلا بد أنه هو من يخطط للانخراط الروسي في هذه المعركة الممتدة من ساحل المتوسط إلى أطراف المحيط الهندي، والتي تبدو سوريا فيها كأنها حجر وسط العقد. هكذا تخلص الأوساط نفسها إلى تفسير تلك المفارقة بين الرجال الثلاثة، بأن ميدفيديف مع الأسد دائماً على «الخط الهاتفي»، وبوتين معه دائماً على «الخط الاستراتيجي».