القاهرة | «العيال الجدعان»... كان التعبير الذي انتشر بين عدد من النشطاء في مديح الاشتراكيين الثوريين في شهر كانون الأول الماضي، مستندين إلى الثقافة المصرية التي تعلي من شأن «المجدعة» أو الشهامة، لا إلى التحليل السياسي؛ إذ اكتسبت معركة الإسلاميين، وخصوصاً الإخوان المسلمين، ومن خلفهم الدولة، ضد الاشتراكيين الثوريين «نكهة» أخلاقية، أكثر من النقاش السياسي أو الحقوقي.
فالاشتراكيون الثوريون، الذين تعرضوا من قبل لانتقادات عنيفة من قوى يسارية وليبرالية بسبب التضامن مع الجماعة الإسلامية، واجهوا نهاية العام المنصرم بلاغاً موجهاً إلى النائب العام تقدم به جمال تاج، المحامي العضو البارز في جماعة الإخوان المسلمين، يتهمهم فيه بالسعي إلى هدم الدولة، بعدما قال سامح نجيب، أحد أعضاء الاشتراكيين، إن الدولة القديمة لا بد من أن تسقط، وكذلك المجلس العسكري بعد أن يفقد الجنود الثقة في قياداتهم
وأخذت القريحة المصرية مجدداً تصوغ الصراع كمعركة بين «الإخوان» و«الاشتراكيين». واللافت أن المعركة حسمت تقريباً لمصلحة «الجدعان»؛ إذ أدت الإدانة الواسعة التي لاحقت الجماعة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحف، إلى تراجعها بسرعة عن الاتهام، في خطوة قلما اضطرت إليها. وأصدر ثلاثة من قيادييها، في مقدمتهم المرشد العام محمد بديع، بيانات تبرأوا فيها من بلاغ تاج، الذي تبرأت منه كذلك لجنة الحريات في نقابة المحامين، التي اتهمت الجماعة بمجاملة المجلس العسكري.
والانطباع بـ«المجدعة» الذي تركه الاشتراكيون الثوريون في الأذهان لم يكن نابعاً من موقفهم من الإخوان المسلمين أثناء سنوات القمع الطويلة ـــــ التي جسدها الوصف الرسمي لهم كجماعة «محظورة» ـــــ بعكس موقف اليسار الرسمي، إذا جاز التعبير، الذي جسده حزب «التجمع»، بعدما اتخذ مواقف متتالية موالية للدولة بحجة مواجهة خطر «الإخوان». فقد رسخ الاشتراكيون الثوريون صورتهم الذهنية كجنود كل الحروب، على أقصى يسار المجتمع المصري للحد الذي كانوا فيه أول من حذر من المجلس العسكري في اليوم نفسه لتنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى المجلس كـ«حامي الثورة»، فقط لأنه التزم الحياد بين الدولة والمتظاهرين. ويعرف عن الاشتراكيين الثوريين دفاعهم المحموم خلال العام الماضي عن الطبقة العاملة في مواجهة الحملات عليها، التي اتهمتها بالأنانية في مطالبها. كذلك تبرز مطبوعاتهم التي أخذت تشيع شيئاً فشيئاً والتي تتهم المجلس الحاكم صراحة بالمسؤولية المباشرة عن كل أحداث العنف والمذابح بعد الثورة.
وخاض الاشتراكيون الثوريون معاركهم الواحدة تلو الأخرى منذ نشأتهم، وهي معارك بدت أكبر من حجمهم وقتها. أواخر الثمانينيات، تراكمت الانطباعات عنهم «كجدعان» بين مناصريهم، وكـ«حمقى يفتقرون إلى الذكاء السياسي» بين شريحة واسعة من النخبة، وكخارجين عن القانون يسعون إلى قلب نظام الحكم، كما جاء في عريضة اتهام نيابة أمن الدولة لعدد من أعضائهم عام 2003.
ودشن الاشتراكيون الثوريون أنفسهم كتيار منظم خلال معركة الانتخابات النقابية العمالية في عام 1991، داعمين قيادات الإضرابات العمالية. وهي المعركة التي تسلل فيها أفراد من تيار الاشتراكيين الثوريين إلى داخل شركة الحديد والصلب في التبين، بمساعدة قيادات عمالية مناضلة، ووقفوا في الشركة رافعين صورة عبد الحي سيد حسن، شهيد اعتصام الصلب في آب 1989 بعد اقتحام قوات الأمن للشركة. أما في إضراب شركة كفر الدوار في 1994، فكانوا أول من وصل لتأييد العمال والتضامن معهم، بخلاف حلقات التضامن بين الطلاب مع العمال لكشف قمع الإضراب الذي وصل إلى إطلاق الرصاص ومحاولة حرق الشركة. وفي التسعينيات أيضاً، السنوات العجاف الطويلة التي عاشتها الحركة العمالية، كان الاشتراكيون الثوريون وحدهم مع عمال النصر للسيارات مخترقين الحواجز الأمنية، بخلاف التصاقهم بانتفاضة الفلاحين في 1997 ضد تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر. وهو العام نفسه الذي شهد أول هتاف ضد شخص مبارك من حنجرة كمال خليل، الأب الروحي للاشتراكية الثورية في مصر. لكن كل ما فات مات، كما يقال. فقد حلت الألفية الجديدة بفرص واسعة لحركتهم بعدما انطلقت الانتفاضة الفلسطينية ومن خلفها انتفاضة في مصر تضامناً معها. وقتها كانوا أحد مؤسسي حركات التضامن مع الانتفاضة. ووقتها كذلك بدا واضحاً موقفهم المستقل عن بقية القوى اليسارية والعلمانية بصورة عامة حيال المقاومة الإسلامية. ففيما ظلت تلك القوى تتحفظ عليها وتكيل لها الاتهامات، أعلنوا هم تأييدهم لها تحت شعار «مع الإسلاميين أحياناً... ضد الدولة دائماً». وهو موقف تأكد لاحقاً خلال حرب لبنان، وصولاً إلى الفاعليات التي اشتركوا في تنظيمها مع الإخوان المسلمين.
كذلك كانت تلك المجموعة الصغيرة وقتها، على رأس حركة مناهضة غزو العراق في 2003 التي أوصلت إلى احتلال عشرات الآلاف، للمرة الأولى في عهد مبارك، لميدان التحرير في 20 و 21 أيار. لكن انطلاق الانتفاضة العمالية، التي لم تضع أوزارها بعد إلى الآن، نهاية عام 2006 بدا مولداً جديداً لهم؛ إذ مكنتهم من مد جذورهم بعيداً في جوف الحركة العمالية للدرجة التي كانوا فيها أول من أطلق الدعوة للتعدد النقابي والنقابات المستقلة، بعدما قضوا ليالي صقيع كانون الثاني من العام اللاحق أمام مقر وزارة المال مع موظفي الضرائب العقارية المضربين. وهو الإضراب الذي انتهى بأول نقابة مستقلة في مصر ونواة الاتحاد العام المستقل للعمال بعد الثورة ليترسخ بذلك دور الاشتراكيين الثوريين الذين نشأوا في مطلع التسعينيات كتيار جذري واجه الدولة والنخبة واليسار الستاليني، واستمروا في ذلك إلى أن حلت الثورة لينمو دورهم باطّراد بعدما بدا للجميع أن طريقهم، الذي لطالما حذرهم الآخرون منه، وحده طريق ممهد ليسلكه الشعب.



لا يزالون يريدون «إسقاط النظام»


في كانون الأول من العام المنصرم، وفي أثناء الاعتصام الذي عرف إعلامياً بـ«القصر العيني»، اسم الشارع المتاخم لمبنى مجلس الوزارء الذي شهد اعتصام ضد تولي كمال الجنزوري الحكومة الحالية، تصدرت الأخبار عن الاشتراكيين الثوريين المواقع الإخبارية حتى أخذت تنافس أخبار الاعتصام نفسه، بعدما انتشر مقطع لسامح نجيب عضو الحركة خلال ندوة نظمتها الحركة، دعا فيها إلى إفقاد الثقة في قيادات الجيش بين الجنود وصغار الضباط، وهو ما فسر بأنه دعوة للتخريب وإسقاط الدولة. وجاء رد فعل الاشتراكيين لافتاً؛ إذ أصدروا بياناً بعنوان «نعم... نريد إسقاط دولة الاستبداد والفقر والتبعية».
وسرعان ما واجهوا بلاغات ضدهم للنائب العام. لكن بعيداً عن الفخاخ القانونية، صب الأمر في مصلحتهم وتضاعفت أعدادهم بعدما أكسبهم عداؤهم للسلطة ثقة أكثر المجموعات الثورية جذرية، الأمر الذي قد يبرر استهداف مجموعات من موالي المجلس العسكري سامح نجيب في تظاهرة ضد المجلس العسكري في الإسكندرية الجمعة الماضي. واعتدت عليه قبل أن تسلمه لمقر الحاكم العسكري هناك ليخضع لتحقيق على يد قائد القوات البحرية نفسه. وبعد الإفراج عنه اقتطع التلفزيون المصري من تصريحات أدلى بها ليبدو الأمر كأنه يشكر الجيش على إنقاذه من «البلطجية»، وهو ما نفاه نجيب لاحقاً.