تحظى المواجهة التي يخوضها الحكم في سوريا مع المجموعات المسلحة المتمردة بغطاء روسي واضح. تعتقد موسكو بأن الرئيس بشار الاسد مضطر لهذه المواجهة لأسباب عدة، من بينها تضييق هامش المناورة أمام خصومه الخارجيين. وإذا كان التركيز منصبّاً، الآن، في حمص، فإن ذلك لا يعني أن الخطط العسكرية تستثني بقية المناطق. المشكلة الرئيسية التي تواجه هذه المعركة ليست في قوة بعض المجموعات المسلحة فحسب، أو في تمتعها بدعم المواطنين على عكس مناطق أخرى كالزبداني أو بعض قرى ريف دمشق وحماه، بل تكمن في أن القيادة السورية تريد إنجاز المهمة بأقل الخسائر البشرية.
والمقصود بالخسائر، هنا، نوعان: الاول يتعلق بالمدنيين الذين تصيبهم مثل هذه الحروب من دون تمييز بين مواقفهم، علماً بأن جرائم المجموعات المسلحة، وعلى عكس ما تبثه وسائل الاعلام العربية والدولية المنخرطة في معركة إسقاط النظام، تسبّبت في مقتل عدد كبير من المدنيين، الى جانب العسكريين، وارتكبت فظائع، ومارست سلطة بديلة حيث أتيحت لها السيطرة بالسلاح، وفرضت ابتعاداً كاملاً لقوى الدولة من شرطة سير ومخافر ومراكز أمنية وإدارات رسمية. كما مارست قمعاً دموياً على من يخالف قراراتها، سواء بالإقفال العام ساعة تقرر ذلك، أو بالمساهمة في «بيت مال الثورة» على ما يقول رجل دين بارز في منطقة إدلب زاره مواطنون يسألونه إذا كان «الشرع يفرض عليهم دفع أموال للمجموعات المسلحة»، وطلبوا منه «المساعدة على عدم استبدال فساد أجهزة الامن الرسمية بجرائم واضحة من جانب مجموعات بات وجود العناصر غير السورية فيها يتزايد يوماً بعد آخر».
الجانب الآخر من الازمة يكمن في طريقة التعامل مع المسلحين، إذ تشير المعلومات الأمنية الى أن نحو 30 في المئة من هؤلاء يحاربون النظام من منطلق عقائدي ويظهرون استعداداً للقتال حتى الموت، ومعهم من يدعمهم من الأهالي. وفي المقابل، فإن 70 في المئة ممن انخرطوا في عملية التسلح بعدما غادروا ساحات التظاهر، غير مدربين وغير منظمين، وبين أركان النظام من يعتقد أن «الحماسة قد تكون وراء حملهم للسلاح»، وأن الأفضل «حثّهم، من خلال أهاليهم أو عبر وسطاء، على تسليم أنفسهم والاسلحة، للإفادة من قانون عفو عام سيصدر بمجرد استتباب الأمن».
لذلك، كما يوضح معنيون، فإن جانباً من العمليات العسكرية لا يعتمد أسلوب الهجوم الشامل. يقرّ هؤلاء بأن القوات النظامية شنّت حملة قاسية في ريف دمشق، لأن «من الصعب منح أي كان فرصة الإمساك بالارض القريبة من العاصمة»، إلا أنه في مناطق حمص وإدلب، يعتمد الجيش أساليب مغايرة، أبرزها تجميع معلومات أمنية وتنفيذ عمليات أمنية ــــ عسكرية لتدمير بنى يعمل المسلحون على تعزيزها، أو توجيه ضربات مفاجئة الى تجمعاتهم، تعمد القوات المسلحة بعدها الى الانسحاب، مع تعديل طفيف في نقاط تموضعها، ما يعني أن عمليات «القضم» للأحياء الصغيرة هي السمة الغالبة على المعالجة العسكرية في هذه المناطق. وتترافق هذه العمليات مع مفاوضات، تدور بالواسطة، أدت ــــ في أكثر من منطقة ــــ الى استسلام عشرات المسلحين، سواء من خلال أهاليهم أو وجهاء عشائرهم، أو عبر عمليات أمنية بقيت بعيدة عن الاعلام.
وباعتبار أن الضغط الاعلامي المعادي للنظام في سوريا لا يهتم بأي جانب مهني أو إنساني في طريقة التغطية، ولا يعمل على التدقيق، أو التواصل مع الناس على الارض للحصول على معلومات دقيقة، فإن القيادة العسكرية والأمنية لا تزال تمتنع عن التعامل مع الإعلام بوصفه سلاحاً قوياً في المعركة. وهذا ما ينعكس احتجاجات يعبّر عنها إعلاميون قريبون من النظام، أو داعمون له، يطالبون الحكم بأن يكشف لهم قدراً من المعلومات يتيح مواجهة الآلة الاعلامية على الجانب الآخر. ومع ذلك، فان ما يتيسر من معلومات يظهر احتجاج بعض القطع العسكرية على «مستوى جديد من الضوابط» المفروضة. ويتحدث البعض عن أن هذه الضوابط هي حصيلة تشاور سوري ــــ روسي ــــ إيراني، يقوم على مبدأ أن الرئيس الاسد، الذي يعمل على إعادة بسط سلطة الدولة، لا يمكنه أن يثبت حكمه من جديد، وأمامه عدد هائل من العائلات الثكلى.
يعتقد الروس بأنهم يوفرون ما يفترض من دعم لمحاصرة محاولات الخارج اللجوء الى تدخل سياسي أو غير سياسي ضد سوريا. أكثر من ذلك، يتهم دبلوماسيون غربيون في دبي، موسكو، بتوفير دعم معلوماتي للسلطات السورية عن تحركات المسلحين. لكن روسيا التي لا تعلّق على الامر، وتركز الآن على سبل تحقيق الحكم نجاحات على الارض، تحصر التظاهر السلمي في مناطق ودوائر لا يخشاها النظام فعلياً، ما يتيح خوض المعركة السياسية بطريقة أفضل، خصوصاً أن موسكو باتت على اقتناع بضرورة إنجاز العملية الاصلاحية سريعاً، وتأليف حكومة جديدة بمعزل عن مشاركة معارضين فيها. ففي روسيا، كما في إيران، من يعتقد بأن إنجاز الاصلاحات سيترك آثاراً يلمسها المواطن وتؤثر في موقفه من الحراك ومن معارضي الخارج، أو من مسألة الاستقرار التي تثير اهتمام غالبية السوريين اليوم.
في المقابل، يبدو أن الفريق المعادي للنظام في سوريا يقترب من لعبة الروليت الروسية. فالفشل في تحقيق نتائج من خلال كل وسائل الضغط الاعلامية والسياسية والدبلوماسية، وحتى التحرش على الارض، يدفع في اتجاه خيارات قاسية، من بينها احتمال المغامرة بعمل عسكري أو أمني كبير، سواء ضد الجيش أو ضد أركان في النظام، الامر الذي استدعى رسائل روسية وإيرانية الى الاطراف كافة، ولا سيما تركيا وفرنسا ودول عربية. وبعض هذه الرسائل وُجّه ميدانياً، بنحو ظاهر أو غير ظاهر. كما ان المقاربة التي قدمها الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بشأن الازمة السورية، في خطابه الاخير، تشير ضمناً الى موقف لطرف بارز في مواجهة العمل الذي تقوم به قوى 14 آذار على الارض دعماً لمعارضي الاسد، خصوصاً الفريق المسلح منهم.



ماذا يُدبّر للحدود السورية اللبنانية؟

عملت أجهزة أمنية لبنانية من مختلف الوزارات، قبل مدة، على جمع معلومات عمّا يجري على الحدود. صحيح أن التنسيق ليس قائماً بين هذه الأجهزة على نحو كامل، إذ إن فرع المعلومات لا يتشارك معلوماته مع مديرية استخبارات الجيش أو مع الأمن العام، إلا أن المحصلة التي تجمعت لدى الجيش اللبناني ولدى بعض السلطة السياسية كافية لدق جرس الانذار، حيال تحوّل بقع على الحدود الشرقية والشمالية الى مراكز عسكرية ومخيمات تدريب، يقع قسم كبير منها في مناطق جردية (شرقي بلدة عرسال) أو بعض المناطق المفتوحة أو داخل قرى في عكار حيث يتمتع «إسلاميّو تيار المستقبل» بنفوذ قوي. وتشير التقارير الى تداخل بين عمليات التهريب وعمل المجموعات المسلحة. وثمة من يجول ويصول جامعاً لأنواع مختلفة من الاسلحة والذخائر قبل بيعها لمجموعات مسلحة، يتبيّن يوماً بعد آخر أنها مزوّدة بأموال ضخمة، وهي فرزت عدداً من عناصرها ممن يعيشون في بيروت والمدن لشراء أنواع مختلفة من أجهزة الاتصال وكاميرات التصوير.
لكن الواضح أن دمشق حصلت على نسخ من بعض هذه التقارير، قبل أن تعمد الى مطابقتها مع المعلومات المجمعة لديها، وتضعها في ملف واحد أرسلته الى المسؤولين اللبنانيين. وهي عملية جرت إما بواسطة السفير السوري في بيروت علي عبد الكريم أو عبر الامين العام للمجلس الاعلى اللبناني ــــ السوري نصري خوري. وقد شملت الرسائل الرؤساء الثلاثة والوزراء المعنيين، الى جانب قيادات عسكرية وأمنية. وأُرفقت بطلب رسمي سوري من لبنان للقيام بإجراءات التزاماً بالاتفاقيات التي تلزمه عدم تحويل أراضيه الى ممر لأعمال عنفية أو غير شرعية ضد الاراضي السورية.
وبما أن قائد الجيش العماد جان قهوجي فشل في الحصول على غطاء رسمي واضح وشامل يتيح له القيام بعمليات عسكرية وأمنية واسعة، فقد لجأ إلى بدائل من النوع الذي يثير الذعر في أوساط المجموعات المسلحة، لكنه لا يحل مشكلة الطلبات السورية، علماً بأن المعلومات تشير إلى أن عدم توفير الغطاء سببه خشية بعض أهل الحكم من تحول الامر الى مواجهات بين الجيش وبين مجموعات لبنانية تناصر المسلحين السوريين. وقد سرّب رسميون كلاماً خطيراً الى قيادات عسكرية مفاده أن تترك معالجة هذا الأمر للجيش السوري نفسه. وقد تبيّن لاحقاً أن «المشغّل» العربي والدولي للهجمة السياسية ــــ العسكرية على سوريا، يأمل أن ينزلق الجيش السوري الى عملية عسكرية على الحدود مع لبنان، تضطره في لحظة معينة الى الدخول، ولو لمئات الأمتار أو عدة كيلومترات داخل الاراضي اللبنانية. وهو ما سيبرر أوسع عملية دبلوماسية تستهدف إصدار قرارات دولية بتوسيع مهمات القوات الدولية العاملة في الجنوب لتشمل الحدود الشرقية والشمالية. وعندها سنكون أمام ملف آخر.