«أنذرهم بأغلال وسعير، بقنابل تفجّر ويوم عسير. يوم لا ينهون ولا يأمرون، ولا يُطلقون فيهربون. ويلٌ يومئذٍ للظالمين». أمين الريحاني

يرى العربي (والعربيّة) نفسه في ما يجري في تونس وفي مصر وفي كلّ مكان تنطلق فيه الحناجر والسواعد العربيّة الغاضبة. ليس الغضب هو المُفاجئ، بل السكون. ليس الاحتجاج هو الخطب، بل لزوم المنزل. تعبّر الحركات السياسيّة الصاخبة عن خلجات وتطلّعات أجيال مختلفة (مُتعاقبة) من الشعب العربي المنكوب. الجيل الذي عاصر هزيمة 1967، ضاق ذرعاً بالهزائم والوعود وبيانات النصر الفارغة وما بعدها.

والجيل الذي عاصر اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 ــ عندما وقف النظام العربي الرسمي إما مؤيّداً أو مُتفرّجاً ــ كفر بكل الأنظمة وبات لا يميّز بينها، على أساس مُمانِع أو مُطأطئ. أما الجيل العربي الجديد الذي يقود حاليّاً عمليّة التغيير دون تدخّل من الأجيال المُتثاقلة، فهمّه تنشّق الحريّة (في الهواء الطلق وعلى الإنترنت) والعيش بكرامة والتعلّم من أخطاء أجيال الماضي الكئيب.
كاد الشعب العربي أن يصل إلى مرحلة اليأس. كاد أن ينعى نفسَه، أو هكذا قيل. من يلومه (أو تلومه أو تلومها)؟ تراكمٌ من هزائم وإحباطات وحروب وغزوات وتخاذل وقمع ومجازر وخطبٍ تدفعك دفعاً للنوم. لم يبق نظام عربي على قيد الحياة دون إراقة دماء الأبرياء كي يستقرّ حكم السلالة ويدوم. مَن كان في جيلي، مَن كان في سن السابعة عام 1967، حفرت خطبة الهزيمة لعبد الناصر في عقله ونفسه حفراً وجروحاً لا تندمل. يذكرُ مَن مِن هذا الجيل الكبار حوله وهو صغير غارقين في بحرٍ من الدموع، ويذكر أيضاً السخرية المرّة التي صاحبت رؤية العرب للإعلام الرسمي الكاذب. وتوالت الهزائم وتوالت الإحباطات، إلى أن تسنّى للولايات المتحدة الإطباق على النظام العربي الإقليمي عبر تحالف وثيق مع السعوديّة والنظام المصري بعد وفاة جمال عبد الناصر. هنا، تحوّل النظام المصري إلى صلب السياسة الأميركيّة في منطقتنا، وبات الحفاظ على النظام المصري ثاني الأولويّات الاستراتيجّية للإمبراطور الأميركي (هذا يفسّر الخداع اللفظي الصادر عن إدارة أوباما). المعادلة هذه ليست بالضرورة من بنات أفكار هنري كيسنجر: هي فكرة صهيونيّة سبَقته، لكنّه أرساها في أرض الواقع عبر دبلوماسيّة ما بعد هزيمة 1973 (لم يخض حسني مبارك حرباً لم تنتهِ بهزيمة الجيش المصري ــ لنكفّ عن ترداد الأكذوبة)، ثم عاد جيمي كارتر (من الغباء أن يروّج أي عربي وعربيّة لهذا الرجل بعد ما ارتكبت يداه من آثام ضدّنا) ليتوصّل إلى المعادلة الشرّيرة: إزالة التهديد المصري لإسرائيل مقابل 2.2 مليار دولار في السنة (تقلّص المبلغ عبر السنوات لأنّ رشوة نظام حسني وجمال مبارك كانت بخسة نسبيّاً). عرفت إسرائيل كيف ترتاح، وكيف تتفرّغ لاستفراد الشعب الفلسطيني: الملك فهد (لنا عودة له، قريباً) كان الطرف الآخر من المعادلة: ضمن حياد النظام العربي الرسمي إزاء ما ترتكبه إسرائيل من جرائم وغزوات واحتلالات. نعلم اليوم أنّ الملك فهد والملك حسين كانا الشريكيْن الصامتيْن (الجبانيْن) لأنور السادات، لا بل شجّعاه. تفلّتت إسرائيل من أي عقال، وأفرغت حممها على لبنان وفلسطين، وخصوصاً أنّ حافظ الأسد كان مشغولاً بالتوصّل الصعب لتحديد «زمان المعركة ومكانها»، اللذين مات ولم يتوصّل إلى تحديدهما (خليفته بشّار ينتظر «عودة» الأراضي المحتلّة).
الحدث المصري مهول بكل أبعاده. كان أعداء اليسار والقوميّة في العالم العربي ــ أي أبواق آل صباح وآل سعود وآل نهيان ــ يعيّرون الخطاب اليساري والقومي لكثرة ما ألقى على إسرائيل من لوم ومن اتّهام بمؤامرات قاتلة: صحيح أنّ الأنظمة العربيّة كانت ولا تزال تبحث عن «شمّاعة»، لكن شمّاعة إسرائيل تتحمّل الكثير الكثير، لا بل أكثر. هي عنصر تخريب وتهديم وإجرام في كل جوانب الحياة العربيّة دون استثناء. لم تترك نزاعاً أو تهديداً للأنظمة العربيّة إلّا تدخّلت فيه: من حرب اليمن إلى الحرب في ظفار، إلى حماية الملك الحسن الثاني من شعبه، إلى تحرّك جنوب السودان، إلى الزعامة القبليّة الكرديّة، إلى ميليشيات اليمين اللبناني، إلى حماية الملك حسين في أيلول الأسود، إلى التحالف الذي لم يعد خافياً مع دول الهوان الخليجي، إلى الحروب ضد العراق الخ. إنّ كلام الأدبيّات القديمة أنّه لن تقوم لنا قائمة بوجود الكيان الغاصب حقيقي ولا يحتاج إلى إثبات بعد اليوم. تريد إسرائيل من مبارك أن يحتفظ بعرشه حتى آخر مصري. لا يساورنّك شك: إنّ إسرائيل هي لوبي حسني مبارك في قلب واشنطن: هي أكثر حرصاً على نظامه من واشنطن.
من المبكّر تحليل خلفيّات الانتفاضة في مصر ومضاعفاتها (لنكفّ عن إطلاق الأوصاف السخيفة على «ثورات» وهي ليست ثورات ــ أو ليس بعد): تشاهد (وتشاهدين) التاريخ حيّاً على الهواء على قناة «الجزيرة» («العربيّة»، محطة صهر الملك فهد، انشغلت بملاحقة «البلطجيّة» الذين جعلتهم رندة أبو العزم عنوان انتفاضة الشعب المصري وكأنّهم ليسوا مرسلين من قبل نظام مبارك، لكن رياء إعلام مبارك والحريري وآل سعود افتضح بعد غزو «البلطجيّة» لساحة التحرير). في تحليل الانتفاضة المصريّة، هناك عوامل فاتت تقارير التنمية العربيّة التي سهت عن مواضيع الكرامة والعزّة التي تلهب صدر الشباب العربي، إضافة إلى مآسي القهر والجوع والبطالة. النزعات الاستشراقيّة تسرّبت إلى تلك التقارير، كما أنّ التقليد قضى باعتناق نظريّة «اتكاليّة» العرب واستكانتهم لتفسير كلّ شيء، مع الاعتماد على تحليل فائق التبسيط عن «الجبريّة» في الفكر الإسلامي (مع أنّ دراسة مُبكّرة لـ«منغومري وات» ردّت على شبهات المستشرقين التقليديّة). كان نظام حسني مبارك محظيّاً: ليس فقط من حيث تمتّعه برضى غربي مطلق، بل لكونه، خصوصاً في أعوامه الأخيرة، انتهج سياسة بسيطة ــ وقد وردت عنه في واحدة من وثائق «ويكيليكس»: إنّ الوصول إلى قلب الكونغرس الأميركي يمرّ عبر تل أبيب. قدّم حسني مبارك الشعب الفلسطيني في غزّة على طبق فقر وحصار لإسرائيل من أجل تسهيل خلافة جمال مبارك، ونجحت الخطّة. حاز جمال موافقة أميركيّة وقام بمهمّات سريّة في واشنطن، وزكّاه نتنياهو في الكونغرس. وكان، مثل والده قبله، حاكماً غير منتخب، فيما كان حسني مبارك ينتجع في شرم الشيخ ولا يتعاطى إلا بما يتعلّق بمصلحة إسرائيل، التي تعلو فوق كلّ مصلحة.
إنّ متابعة الأحداث في العالم العربي وحول العالم لا يمكن أن تعتمد فقط على المواقع الصحافيّة التقليديّة. أهملت الصحافة العربيّة والغربيّة على حدّ سواء قضيّة الشاب خالد سعيد، وهي قضيّة شغلت الشباب العربي، والمصري بصورة خاصّة، على مواقع «تويتر» و«فايسبوك» لأشهر. لم يعد العالم العربي يتحمّل مزيداً من الرياء والقمع والتسويف. ينسى من يعزّز تحليلاته الاستشراقيّة بكلام عنصري عن «العقل العربي» أنّ عدم سقوط الأنظمة العربيّة أواخر الثمانينيات بعد اندثار الأنظمة الشيوعيّة يعود إلى الحماية الحديديّة التي تمدّ بها الولايات المتحدة أنظمتها المُطيعة في العالم العربي. وليس صحيحاً أنّ العرب لم يقاوموا الطغيان على امتداده: قد يكونون أصيبوا في أواخر السبعينيات أو الثمانينيات بالإعياء والإحباط والعدميّة. ما عادوا يؤمنون (ويؤمنّ) بالقدرة على التغيير، كما أنّ وتيرة القمع والتعذيب زادت، ما شكل رادعاً للقيام بـ«نشاط جماعي» نحو التغيير الجذري. وأدّت انطلاقة القنوات الفضائيّة (المُموّلة من قبل آل سعود في معظمها) إلى إلهاء الشباب العربي بالرياضة و«فن» يفرضه ذوق الوليد بن طلال، وقضايا ثانويّة تستقيها المحطّات العربيّة من صحافة «التابلويد» الغربيّة. لكن نبض الشباب العربي كان بعيداً عن الرصد، إلا لمن يتابع استطلاعات الرأي العام العربي. الاستطلاعات من المغرب إلى السعوديّة تؤكّد أنّ الأنظمة في وادٍ، وشعوبها في وادٍ آخر. قد تكون سقوف التوقّعات العربيّة الشعبيّة تدنّت، قد تكون الشعوب تحمّلت من طغاتها فوق ما تطيق. لكن الغضبة الحاليّة تعبّر عن حالة من الضيق تراكمت.
واضح أنّ الأنظمة العربيّة أصيبت بالذعر، كلّها. وهي كلّها تتمتّع بدعم في بقائها من أميركا وإسرائيل. حتى النظام السوري، فإنّ إسرائيل وأميركا تفضّلان بقاءه على غيابه، لأنّ الجبهة هادئة ولأنّ إسرائيل تستطيع أن تقصف وتضرب في عمق سوريا، وأن تغتال وتفجّر دون ردّ أو رادع. لكن غضبة الشعوب هي الأقوى عندما تتفجّر: الأفكار في أيدي الملايين تتحوّل إلى قوّة ماديّة كما قال كارل ماركس. سارعت الأنظمة العربيّة إلى محاولة جزعة لإنقاذ النفس: إعلانات عن عطاءات مفاجئة وتسريحات لوزراء وحكومات وخطب تتحدّث عن الفقراء للمرّة الأولى. حسني مبارك تحدّث عن العمّال والفلاحين مع أنّه بنى جمهوريّته (وماكينة خلافة جمال) على أساس زمرة من أصحاب المليارات. فجأة بشّرنا علي عبد الله صالح أنّه لن يترشّح مرّة أخرى. إنّ الهلع الذي أصاب الأنظمة العربيّة ظهر في إسرائيل أيضاً. أخطأ نظام العدوّ في عدم اللجوء إلى التقيّة هذا الأسبوع، وخطأه هذا سيفيد في تعبئة قويّة ضد إسرائيل في مصر وخارج مصر. أسبوع واحد من الاهتزاز في النظام المصري أعطى دروساً بليغة للشعب العربي عن درجة التدخّل الإسرائيلي في حياته الخاصّة. لم يعد ضلوع إسرائيل في حماية الطغاة العرب اتهاماً يرد في بيانات كانت تُوزّع في شوارع ضيّقة. كشفت إسرائيل أكثر من أي مرّة منذ إنشاء الكيان عن حقيقة تحالفها، لا مع الأنظمة فقط، بل مع تشكيلة كاملة من الطغيان العربي السائد. نفهم اليوم أكثر من أي يوم مضى سبب التخاذل العربي الرسمي في قضيّة فلسطين: مسألة بيع وشراء هي. والضلوع الأميركي في حماية تشكلية الطغيان العربي ليس نابعاً فقط من أوامر اللوبي الإسرائيلي، بل أيضاً من المصالح السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة لإمبراطوريّة ترتاح في تعاملها الفوقي مع ملوك ورؤساء عرب ينحنون أمام أي مسؤول أميركي فور ظهوره.
أما الولايات المتحدة فقد نبشت خيار «عمليّة أجاكس» (التي أقصت حكم محمّد مصدق ونصّبت شاه إيران ــ راجع كتاب «كلّ رجال الشاه» المُعتمد على وثائق حكوميّة أميركيّة) من أجل تثبيت الطاغي في مكانه. وفي عمليّة «أجاكس»، لِمن نسي، جنّد عميل الـ«سي. آي. إي» عدداً من «بلطجيّة» إيران وأوغادها، تماماً مثلما فعل حسني مبارك. لم تكن قرارات مبارك ولا حتى خطبه من صنعه وإخراجه وتنقيحه. الخطاب الأميركي لم يتعلّم من تجارب الاستعمار السحيق، ولكن متى يتّعظ الاستعمار؟ يُطرد عنوة، ويخرج مُتبرّماً من وقاحة الشعب المُستعمَر الذي لم يقدِّر له استعمارَه.
وفرضيّة غباء العرب هي هي: كما كانت أيّام الاستعمار الفرنسي والبريطاني. تتحدّث هيلاري كلينتون عن ضرورة «الإصلاح» وكأنّنا لا نعلم مغازي تلك الكلمات القبيحة. ألم تسبغ إدارة بوش وأوباما المديح على الحكم السعودي لـ«إصلاحاته»؟ الكلمة الكوديّة هي بديل من كلمة تنبذها أميركا في تعاطيها مع العرب: كلمة ديموقراطيّة تخيف المُستعمر الأميركي وإسرائيل على حدّ سواء. وأوباما تحدّث في الأيام الأولى عن ضرورة تغيير ما، لكن كلمة «انتخابات حرّة» لم ترد على شفتيه بعد. يتحدّثون عن مسيرة تغيير، كي يأخذ مبارك راحته وكي يتسنّى لأميركا تنصيب نظام بديل يضمن استمرار الالتزام بالغالية: أي اتفاقيّة السلام بين مصر وإسرائيل، التي تسمح أميركا من أجلها بإبادة شعب مصر بحاله. لكن رئيسة لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس النوّاب (وهي من أكثر كارهي العرب تعصّباً في الحلبة السياسيّة الأميركيّة وعرّابة لكل تحالف بين أميركا وفرقاء في لبنان، وهذه الليكوديّة تبنّت 14 آذار كما تبنّت الجنرال عون من قبله)، إلينا روس ــ ليتينن، كانت أكثر صراحة إذ قالت: «على الولايات المتحدة التعلّم من أخطاء سابقة وأن تدعم تلك المسيرة التي تضم فقط هؤلاء المرشحين الذين تتوافر فيهم مقاييس زعماء الدول المسؤولة، أي المرشّحين الذين يدينون علناً الإرهاب ويحترمون حكم القانون ويعترفون بارتباطات مصر الدوليّة بما فيها التزامات عدم انتشار الأسلحة واتفاق السلام بينها وبين الدولة اليهوديّة في إسرائيل، والذين يضمنون الأمن والسلام لجيرانهم». فيلدَوِّن الشعب العربي تلك الأوامر بحذافيرها لأنّ أميركا تختار بيننا من يلائمها في حكمِها لنا، وهي تقرّر بالنيابة عنّا ولا حول لنا إلا الطأطأة على طريقة حكّام العرب. كم هي غالية إسرائيل، وكم اتضح أنّ أميركا تضحّي من دون وجل بملايين العرب من أجل إسرائيل، لا بل لا يمانع صهاينة الكونغرس في زجّ العرب في أفران لو تطلّب احتلال إسرائيل ذلك.
ثار الشعب العربي في مصر، فأصيبت إسرائيل بالهلع. حتى «إليوت أبرامز»، الذي لا يزال يتلقّى صناديق النبيذ الفاخر من صديقه وليد جنبلاط حسبما قال قبل أشهر، أقرّ بحالة الهلع التي أصابت إسرائيل وطلب شيئاً من التروّي. وبعد تفكير، لم يطل الأمر بأوباما كي يحزم أمره. وقد دعا عدداً من عتاة الصهاينة لينضمّوا إلى عتاة الصهاينة الآخرين الذين يتولّون الملف الشرق أوسطي في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجيّة (أي الثنائي فيلتمان وشابيرو) وقرّر أن تباشر أميركا ومن ورائها إسرائيل إطلاق الثورة المضادة. إسرائيل سمحت للمرّة الأولى للنظام في مصر بأن يحرّك جنوده في سيناء (ربما لحماية حسني مبارك في مخبئه في شرم الشيخ). أما النظام الأميركي، فقد رتّب أمر خلافة عمر سليمان على عجل. يثور شعب بكامله ضد الطاغية، فيعد الطاغية بالتغيير ويعيّن مدير الاستخبارات العامّة خليفة له. كانت أميركا تصرّ على أنّ التغيير في أوروبا الشرقيّة يجب أن يبدأ وينتهي بانتخابات حرّة لا إكراه فيها. أما مع الحليف مبارك، فكلمة السرّ هي «الإصلاح»، أي يمكنه أن يفعل ما يشاء. ينسى المسؤولون الأميركيّون أنّ الشعب العربي يذكر أن أميركا أسبغت المديح، في عهديْ أوباما وبوش، على مبارك، وأنّ الأخير كان محجّة ضروريّة في كل المهمات السريّة لمبعوثي الحروب الأميركيّة. لم ندرك أنّ الحفاظ على النظام المصري الفاسد كان بمثابة شريان للحياة لإسرائيل، وهذا خبر سارّ إذ إنّه يساهم في فهم كيفيّة تقويض دعائم الكيان الغاصب.
ولكن لا بدّ من كلمة عن مثقّفي النفاق من أدعياء الليبراليّة الوهابيّة. لا أتحدّث عن أبواق آل سعود فقط، هؤلاء الذين يتصنّعون تمييزاً بين الديكتاتوريّات العربيّة ودول الخليج ــ وكأنّها ممالك فاضلة. لكن هناك ضرورة للحديث عن مثقّفي بلاط آل سعود وآل الحريري وآل نهيان. هؤلاء هم أيتام حسني مبارك. هؤلاء لا يحقّ لهم كتابة كلمة في موضوع نظام حسني مبارك، بعدما أطنبوا في مديح حكمته وخليفته. مقالة في موقع «ناو حريري» بدأت بمصر في العنوان، وإذا بها دعوة للديموقراطيّة في سوريا وإيران (أتى الأمر من هاني حمّود للعودة إلى انتقاد النظام السوري، والكتّاب المُرتهنون لا يتجشّأون إلا بأمر). ولم تخجل حفنة من كتّاب آل سعود وآل الحريري من تدبيج بيان تأييد مُنافق للشعب المصري وكأنّ الشعب لا يذكر لهم مديحهم لمبارك، وزادوا في الوقاحة عبر الزعم أنّ مهرجان الطائفيّة البشع في 14 آذار هو مَن ألهم انتفاضتيْ تونس ومصر. «فشروا». الشعب في مصر وتونس لا يتظاهر بأمر من شيخ أو أمير نفطي ولا يهتف بحياة أصحاب المليارات. وجيزيل خوري التي كانت تكرّس برامجها عن مصر من أجل الترويج للطاغية مبارك ولسياساته، وعظت الشعب المصري ودعته إلى التمثّل بثورة «الأرز» السلميّة، حسب قولها. بقي لها أن تدعو الشعب المصري إلى ملاحقة العمّال السوريّين في مصر وطعنهم وإلى تعذيب العاملات الآسيويّات وقتلهنّ. العروبة في معيار فؤاد السنيورة وباقي جمهرة مُقرن في لبنان باتت صنواً للتحالف مع حسني مُبارك. هؤلاء هم أيتام حسني مبارك. نشرة «المستقبل» عنونت عن اعتداء «بلطجيّة» مبارك على المتظاهرين بأنّها «مواجهات». ولا ننسى أنّ آل الحريري حاولوا من خلال الشركات الأمنيّة اللجوء إلى أسلوب البلطجيّة، ولكن مَن يواجه إسرائيل لا يخاف بلطجيّة آل الحريري، فكان الإذلال الشهير يوم 7 أيّار.
هناك دلائل مُقلقة لإسرائيل. كفلت ردع كلّ الأنظمة العربيّة دون استثناء ونجحت حتى في وقف الخطاب العدائي (وكان السلاح الوحيد لأنظمة ما بعد 1948) ضدّها. لكن الحبل يضيق حول عنق دولة الكيان الغاصب رغم حصولها على كل أنواع أسلحة الدمار الشامل. نظام الطغيان العربي الرسمي يتضعضع وإن استطاع في أجزاء منه أن يستمر. غضبة الشعب العربي وصلت إلى العالم مدويّة. لم ينس الشعب العربي قضاياه. يحاول ليبراليّو آل سعود أن يجزموا (لطمأنة أنفسهم) أنّ لا مضامين سياسيّة خارجيّة لانتفاضة الشعب المصري، مع أنّ الهتافات ضد أميركا وإسرائيل وصلت إلى أسماع الصحافة الغربيّة، كما أنّ سفير إسرائيل السابق في مصر اعترف بأنّه ليس هناك مَن يؤيّد السلام مع إسرائيل في مصر إلا الزمرة المُحيطة بمبارك. هؤلاء أيتام مبارك وأيتام اتفاقات السلام مع إسرائيل. عندما ترى الليبراليّة المُتحالفة لسنوات مع طغيان مُبارك تشعر بالغثيان كلّما وردت كلمة ديموقراطيّة على لسان واحد من هؤلاء في إعلام الحريري وآل سعود، تشعر بأنّ عليهم على أقل تقدير التزام الصمت حتى إشعار آخر. أما جهاد الخازن، فينتظر موت الطاغية ليسرّ للقراء بكرهه له، بعد أن يكون قد كتب المدائح الطويلة فيه.
إنّ إعلانات موت الشعب العربي، وتبشيرات فؤاد عجمي على مرّ السنوات حول اندثار الهويّة العربيّة، تتناقض مع المشاهد الحيّة على قناة «الجزيرة». لكن حقيقة أهواء الشعب العربي ومشاعره تخيف إسرائيل وأميركا و... أيتام الطغاة العرب. سنكتشف أنّ العلاقة بين استمرار إسرائيل والطغيان العربي هي علاقة جدليّة.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)