قبل عقدين انهارت الأنظمة في أوروبا الشرقية، حالما فقدت الغطاء الدولي الذي مثله لها المعسكر الاشتراكي. ويترنح الآن نظام إقليمي قريب من الغرب بعد أن تمزقت المظلة الدولية التي رعته مدة طويلة. صحيح أن أميركا التي تحتل العراق صارت جزءاً من المنطقة، لكنها مع ذلك أو ربما بسببه، فقدت مهارتها اللازمة للقيام بنقلة أخرى على رقعة شطرنج تضيق باطراد. فهي اليوم مشغولة بهمومها الخاصة: حماية ذاتها من تبعات أفعالها وإزالة الفوضى التي خلفتها، ولملمة ذيول نكساتها وتوقعاتها الخائبة، ولن يكون لديها متسع من الوقت أو الجهد للتفكير بشرق أوسط جديد، ولا لتعويض حلفائها في المنطقة عن نقص شرعياتهم السياسية والوطنية والتنموية، كما كانت تفعل دائماً.ومشكلة العالم العربي ليست في تضافر الاستبداد والتبعية والفشل فحسب، بل تكمن أيضاً في حلول نخب محل أخرى. فعلى مدى ربع قرن، كانت معاول عدة تهدم النخب الوطنية التي أسهمت في وضع الأفكار الأولى للدولة العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال. لم تكن مساهمات تلك النخب بناءة دائماً. فبعضها كان رافعة للاستبداد والعسكرة، وبعضها الآخر قلل من شأن الحرية في صياغة الانتماء الوطني والقومي، فاصلاً بينها وبين التحرير، وتبنى العديد منها رؤية للحداثة تتعارض من نظرة مجتمعاتها لنفسها. وحيث إنها لم تتكيف مع تبدل رياح الأزمنة خرجت من السباق، وأغرقت نفسها في تزمت إيديولوجي وتجارب سلطوية كان مصيرها الانحراف أو الفشل فازدادت تهميشاً. ومع ذلك كله لم تخسر تماماً شرعيتها القومية والوطنية وكانت لها مساهمات إيجابية في دفع أفكار التنمية والاستقلال والعدالة إلى الغرف المغلقة، كما احتفظت بعلاقة وطيدة بعض الشيء مع مجتمعاتها.
أما النخب البديلة فلم تولد من رحم وطني، بل نشأت في خضم التحولات التي شهدها العالم نهاية القرن الماضي، وفرض نفسه بقوة على دول العالم الثالث، وخصوصاً منها البلدان المكشوفة أكثر من غيرها أمام العولمة.
وبالأحرى هناك نخبتان بديلتان ومقاومتان للتغيير، واحدة في السلطة والثانية خارجها. مهمة هذه الأخيرة كانت إفساح المجال أمام التحولات الآتية من الخارج، وإعادة ضخ الأفكار وقواعد العمل الجديدة التي ينتجها النظام الدولي، فكان الترويج لنماذج متطرفة للتحرير الاقتصادي، والربط المبالغ فيه بين مشروع الحداثة وقوى السوق، وهناك من دعا إلى التريث بانتظار اكتمال أهلية المجتمعات على خوض مغامرة التقدم. وفي داخل هذه النخبة نشأت دوائر أصغر بنت آمالها على الخارج القادر بحسبها على ردم فجوة التأخر بأسرع مما تستطيعه القوى الداخلية.
هذه النخب اعتنت بالأفكار لا بالوقائع، وبالآراء لا بالتغيير، فأغلقت أبواب عالمها الافتراضي الخاص على نفسها، وفتحت نافذة صغيرة على باقي المجتمع، حتى تستطيع من خلالها توجيهه بالاتجاه الذي تراه صحيحاً، وتدريبه على المعايير الجديدة للعصر، من دون أن تتأثر هي نفسها بما يدور خارج الأبواب. لقد اختارت هذه النخب الترفع عن مجتمعاتها، ووجهت خطابها إما إلى مجهول وإما إلى سلطات عاتية. لكنها، وهي تزعم الليبرالية، خفضت مسائل الحرية والاستقلال والعدالة إلى أدنى رتبة، ونسيت نبض الشارع وفقدت مع مرور الوقت الحاسة التي تتيح لها رؤية ما يجول في أعماق الرأي العام. ولأنها اتبعت طرقاً هجينة في تفسير أحوال المجتمع وتأويل آمال الناس العاديين، وجدت نفسها خارج مسرح الفعل وبمنأى عن التحولات.
لقد وفر ذلك كله، حاضنة للأفكار الجذرية المعوقة، مثل ربط الإصلاح بالتحول الثقافي. والتنمية بتعديل نظام القيم، وفي كثير من الأحيان فضلت بعض النخب التحرير الاقتصادي على التحرر السياسي واتخذت جانب الحياد في مواجهة التسلط والتمييز، فكان سهلاً وقوعها في قبضة أصحاب الثروات، ولم يكن غريباً على بعضها الانحياز إلى الأنظمة أو الالتزام بمقتضيات التمويل الخارجي الذي يمارس دوراً مقيتاً في استتباع المجتمع المدني وتفكيكه.
الطرف الآخر في معادلة النخبة يمثله رجال أعمال السلطة، سواء الموجودون فيها أو المتحلقون حولها. ويملأ هؤلاء الفضاء السياسي للعديد من الأنظمة، ممسكين بزمام المبادرة، ومستفيدين من ترسخ ظاهرة الانتفاع وتمدد اقتصاد الشبكات. هذه النخبة غير معنية بالإفصاح عن كل نياتها ولا الكشف عن كامل أجندتها، بل تجد من مصلحتها توسيع دوائر الغموض وخلق فراغات مقصودة في منطق الدولة، وهذا ما يترجم عادة من خلال حث الحكومات على عدم «التورط» في تقديم التزامات اجتماعية واقتصادية دائمة، أو تقديم صورة متكاملة عن هوية النظام ورؤيتها المستقبلية له.
ويرتبط وجود النخب السلطوية بالفساد، ليس الفساد العادي بل ما يمكن تسميته بالفساد البنيوي، هذا الذي يلتصق بقواعد النظام، ويعد جزءاً لا يتجزأ من عملية وضع السياسات الأساسية (مثل بيع القطاع العام والانضمام إلى الاتفاقيات الدولية وتخصيص الاستثمارات العامة...)، فيما نتيجته إقصاء الغالبية العظمى من المواطنين عن عملية اتخاذ القرار.
في الميادين الحقيقية لا الافتراضية تجري الآن عملية تغيير، تتضمن هدماً وبناءً ومراجعات خلاقة. فالوعي الجماعي بدا أعلى من وعي النخبة في فهم اللحظة التاريخية وتحديد احتياجاتها، فتولى القيادة وتمكن بسهولة من تجاوز القوالب الذهنية الجامدة، منتزعاً دون تردد التفويض الشامل الذي حسبت بعض الأنظمة أنه باق بين يديها إلى الأبد من دون أدنى تعديل وبلا أي مقابل.

* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق