دمشق | النظرة من بعيد إلى دمشق وبعض ريفها تختلف تماماً عن التوغُّل بين ناسها والاستماع إلى وشوشاتهم وأحاديثهم وهمومهم الكثيرة. مشهد «الزوم أوت» يوحي بالهدوء. أما الزحمة التي تختلف درجتها بين حي وآخر وبين باب وآخر من الأبواب السبعة لدمشق (الادارية) حتى يومَي العطلة (الجمعة والسبت)، تجعل المراقب يشكّ بأنّ ما يحصل في البلاد قريب جداً من العاصمة.
لكن التنقُّل بتاكسيات الشام ومحاولة استنطاق سائقيها والتحرُّش بأهلها المتعبين سرعان ما يزيل الغشاوة، إذ إنّ حديثين لا ثالث لهما يهيمنان على سكان دمشق التي يمكن اعتبارها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، سوريا مصغَّرة، وخصوصاً بعدما زاد عدد قاطنيها مع موجات النزوح والهرب التي تشهدها أحياء دمشق وريفها:
سؤال تعجيزي أول: ما مصير «الأحداث» بلغة «المحايدين»، أو«الثورة» بمصطلحات المعارضين، و«الفتنة» بمفردات الموالين؟ سؤال تعجيزي ثانٍ: كيف سنعيش إلى أن ينتهي كل شيء، سواء كان ذلك بسقوط النظام أو بتمكنه من إنهاء الحراك، وخصوصاً في حال طالت الأحداث وتطورت أشهراً أو سنوات؟
بكلام آخر، حتى في حال ظلّ قلب دمشق بعيداً عن المعارك العسكرية وإطلاق النيران وسقوط القتلى، وحتى لو تمّت السيطرة بالكامل على شرارة التظاهرات، ولو خمدت نهائياً نشاطات المعارضة في حيّ الميدان الشاسع، حتى لو لم تتكرر التفجيرات الاجرامية التي ضربت منطقة كفرسوسة، كيف سيتمكن المواطن السوري من التعايش مع كارثة الغلاء والشح المالي وانقطاع الكهرباء وتوقف عجلة الاقتصاد في معظم القطاعات؟ كيف سيعيش الملايين الستة القاطنون في دمشق (معدل وسطي لكون العدد يختلف بين المساء والنهار) حتى ينتهي كل شيء؟ لا جواب طبعاً.
قليلة هي الأحياء الدمشقية التي لا يظهر أي أثر للأوضاع السورية الحالية فيها، لكنها موجودة بالفعل، على الأقل هكذا يظهر. منطقة باب توما وأحياء باب شرقي والقشلة مثلاً. هناك، الزحمة هي هي، تماماً مثلما كانت قبل 15 آذار. طبعاً، هذا من دون أن يمنع الوجود الأمني في ساعات الليل والفجر، الذي لم يكن الزائر ليلاحظه قبل بدء الأحداث. هو وجود لمسلحين تابعين لأحد الأجهزة الأمنية ولقوات حفظ النظام، لا الجيش، تحسباً لتظاهرة «طيّارة» تنطلق من لا مكان ويتفرق أعضاؤها بعد دقائق في أزقة «الباب».
لكن باب توما، ذات الغالبية المسيحية، وهو تقسيم ووصف يبدو أنه بات رائجاً و«طبيعياً» على كل لسان في هذه الأيام، لم يعد يشهد «تظاهرات طيارة» ولا «مسائيات» (تظاهرات معارضة مسائية) سبق أن شهدها في بعض المناسبات.
الهم الأمني إذاً شبه غائب بالنسبة إلى باب توما المستريح تحت وفوق حاراته القديمة جداً وبيوته الشامية التي تحوَّل معظمها إلى مطاعم. لكن الهم المعيشي أكثر من موجود في باب توما الموالي جداً. تسمع صراخاً أمامك فتظنّ لوهلة أنّ إشكالاً في طريقه لأن «يركب»، ليتبيّن فوراً أنه ردة فعل هستيرية من «مدمن» على شراب «المتّة»، بما أن العلبة الصغيرة لهذا الشراب الحيوي بالنسبة إلى السوريين بات سعرها بين 125 و150 ليرة سورية (نحو 3 آلاف ليرة لبنانية)، بعدما كان سعرها الأقصى بين 25 و30 ليرة (أقل من 500 ليرة لبنانية)، غضب ينتهي بـ«عمرا ما تنشرا».
و«المتّة» عيّنة عن الغلاء الذي وصل إلى ما بين 30 و100 في المئة، وأحياناً أكثر لعدد كبير من السلع الاستهلاكية والغذائية المستوردة، وبنسبة أقل بالنسبة إلى السلع المصنعة محلياً. هكذا، فإنّ الخسّة التي كاد يكون سعرها «مقيَّد بالجريدة» بـ 10 ليرات بأسوأ الأحوال، باتت أحياناً تُباع بـ 50 ليرة، وقِس على ذلك.
أهلاً بكم في ديار احتكار التجار الذين ينتظرون الأزمات ليخفوا بضائعهم لتزيد أسعارها، وهي الأسعار التي زادت بشكل هستيري لأسباب منطقية أساساً، منها العقوبات المفروضة على القطاع المالي السوري، ما يمنع تحويلات مالية كبيرة كانت تجري أصلاً مع شركات التزمت بالعقوبات وقطعت علاقاتها مع السوق السورية وملايينها الـ 23.
أما ارتفاع أسعار المحروقات، فيؤدي قسطه في زيادة أسعار كل شيء. وفيما أنتَ تحسد باب توما على وضعها الجيد نسبياً من نواحي زحمة أسواقها ومطاعمها مقارنةً مع مناطق دمشقية وغير دمشقية أخرى، تأتي المفاجأة غير السارة لتسرق حسدك: انقطعت الكهرباء. أهلاً بكم في اليوميات اللبنانية. لكن أزمة انقطاع الكهرباء في باب توما نصف مصيبة أيضاً، إذ إنها حتى الآن محصورة بنحو 3 ساعات يومياً، بعكس ما هو حاصل في مناطق أخرى من دمشق وريفها، حيث يتفاوت عدد ساعات التقنين بين منطقة وأخرى ما بين 12 ساعة انقطاع و15 ساعة أحياناً.
تقرّر بأن تدلّل نفسك قليلاً وأن تتنقل في دمشق وبين مناطق ريفها بالتاكسي وليس بالباصات، علّك «تتوفّق» بسائقين لا يبخلون عليك بالكلام حول «الثورة» أو «الأحداث» أو «الفتنة» والاستفتاء على الدستور، وستتوفق حتماً بالبعض منهم. بين باب توما وصحنايا في ريف دمشق مثلاً، نحو 25 دقيقة بالتاكسي. سائقك من جبل الزاوية، التي اكتشف اسمها كثر بعد وصول الحراك إليها وليس قبل. الشاب هادئ لا يحتدّ إلا عندما يصف لك مجازر وسرقات و«تشليح» ارتُكبت في منطقته من قبل مجرمين لا علاقة لهم بـ«الجيش الحر» ولا بالجيش النظامي. «لن أشارك في الاستفتاء على الدستور»، يقولها سائقنا، من دون أن يكشف عن سبب قراره، أكان التزاماً منه بقرار المعارضة مقاطعة الاستحقاق، أو لأنّ ضرورات الحياة لا تسمح له بـ«ترف» التوجه إلى أحد المراكز الانتخابية وممارسة «حقه وواجبه الوطني» مثلما لا تتعب من التذكير به آلاف اللافتات التي تحثّ على المشاركة في الاستفتاء لأنّه «دستور سوريا»، وهو شعار الحملة غير الموقَّعة من أي جهة. قد يكون هذا الرجل عيّنة عن فئة لا بأس بها من السوريين ممّن يفضلون «التقية» والاحتفاظ بتقويمهم لما يحصل، حتى تبيان مصير التطورات. حتى انّ عبارة جديدة تغزو سوق سائقي التاكسي عند سؤالهم عن رأيهم بالأحداث، فيكون على شاكلة «شايفها متل ما انت شايفها».
غير أن البعض على المقلب الآخر تماماً، ينتظرون كلمة منك لتكون «فشة خلقهم» بمستوى غضبهم، أكان ذلك ضد المعارضة أو ضد النظام، لكن دائماً بكلمات «مدروسة»، فهم غير مضطرين للوقوع في مشاكل مع الزبون ولا مع الأمن. كلمات تزيد الغموض عندك من نوع «الله محيّي الجيش». لك أن تختار بين «الجيش الحر» أو الجيش النظامي.
سائق آخر لا يجد حرجاً في الاعتراف بأنه يعمل على سيارته «تجاوزاً للقانون» فور إنهاء خدمته في جهاز الشرطة الذي تطوّع فيه قبل 10 سنوات، فـ«راتب الدولة ما بيكفي». السؤال عن الأحوال بات في التاكسي مرفقاً مع آخر لا يلقى استغراباً من السائق: من وين حضرتك؟ طبعاً الحشرية هنا ذات نية سيئة، فيطول الاسترسال عن نسب توزع المذاهب والطوائف بين «نحن» و«هم» في هذه المنطقة وتلك المحافظة. لبنان يغزو سوريا ... طائفياً، هلّلويا.



«الفعاليّات الشبابيّة»


الأحد هو يوم الاستفتاء على الدستور الجديد، «القديم» بالنسبة الى المعارضة، لذلك لا تستغرب وصول دعوة موقعة من «الفعاليات الشبابية بدمشق» إلى هاتفك الخلوي للمشاركة عند الساعة 11 صباحاً بمسيرة عند ساحة السبع بحرات، المكان المفضل لتجمعات الموالين.
تحاول الاستفسار عن هوية هذه «الفعاليات الشبابية بدمشق» لمحاولة الوصول إلى شبكة مفترضة من منظمات مجتمع مدني تتنشط تأييداً للنظام، لكن من دون نتيجة. تختلف الاجابات.
إنهم مجموعة من الأفراد الناشطين «المؤمنين بسوريا والرافضين للفتنة»، يقول موالون، من دون أن ينسوا الإشادة بهذه «الفعاليات» كونهم «يتحمّلون تكاليف حملاتهم من جيوبهم».
رواية تثير سخرية المعارضين، على قاعدة أن هذه «الفعاليات» ليست سوى منظمات حزب البعث الذي لم يعد «قائداً للمجتمع والدولة» بموجب الدستور الجديد، وآلة هائلة من البيروقراطية والموظفين الحكوميين الذين «يكبّدون الدولة تكاليف حملاتهم الإعلانية من ضرائب المواطنين».