1- إلى أي مدى يزدهر المذهب الذي تنادي به، والقائل بضرورة احترام المهندسين المعماريين مسؤوليتهم الاجتماعية الاقتصاديّة؟
أؤمن بأنّ الجيل الشاب الذي يأتي من بعدنا هو واعد. وأريد أن أؤمن بأنّ من الممكن الأمل بانبعاث هذا التوجّه في هذا الوقت، وهو أمر ممكن في لبنان، وإلّا لكنت يئست منذ زمن. فنتيجة العمل الذي تمّ في مرحلة ما بعد الحرب كانت كارثية. ومن المحزن أن نرى ذلك فعلياً خلال التنقّل في شوارع بيروت، وملاحظة تدهور نوعية الهندسة المعماريّة، وهو واضح جداً.

وليس بالضرورة أن تكون مهندساً لتلحظ الانحدار الذي حدث. فالمهندسون المعماريون كانوا في قمّتهم في عقد الستينيات، ومن ثمّ تباطأ الزخم في السبيعينيات لندخل إلى المرحلة السوداء في الثمانينيّات في تاريخ الهندسة، ليس فقط في لبنان بل عالمياً. المشكلة هي أنّ عدم خروج لبنان من النمط هو كارثي فعلاً. ومن المثير للاهتمام ملاحظة كيف انتشر المذهب البلاستيكي، الذي ولّد إفلاساً مكتوباً على كلّ مبنى شيّد منذ الثمانينيّات.

2- هل يمكننا القول إنّنا وصلنا إلى حضيض ذلك الإفلاس الثقافي ببدء «مشروع سوليدير» في مرحلة ما بعد الحرب؟

إنّ وضع الحرب في إطار زمني، أي منذ 13 نيسان 1975 حتّى توقيع اتفاق الطائف، هو خطأ جسيم وتبسيط فاجر وخطير للتاريخ. لا يمكنك الدخول في مرحلة ما بعد الحرب إلّا عندما تكون قد هضمت ماضيك وتوصّلت إلى نوع من التوافق حول التاريخ. وبرأيي لم يكن هناك مرحلة ما بعد الحرب، بل مرحلة نكران منذ بداية التسعينيّات. لذا فإنّ بيروت لم يُعد بناؤها لأنّه بكل بساطة لم يكن هناك إعادة بناء لأمّة.
«سوليدير» هي حدث، ليست حادثاً، في أجندة سياسيّة. وكنت دائماً معروفاً بأنني مُعادٍ لسوليدير، لكن لا يجدر بنا تبسيط الأمر. فمن الأهميّة بمكان النظر إلى الأمور بحسّ نقدي وعدم تصنيفها «أسود» أو «أبيض». أنتقد كثيراً مفهوم التركّز لأنّه يعزل المكان حرفياً ويمكننا رسم حدوده بكلّ بساطة. ورغم أنّ الشركة أنشئت بموجب قانون تبقى شركة خاصّة لها رأسمال.
سياسياً، كان هناك غياب الدولة وتحوّل ما كان يُعرف بوسط البلد إلى مشروع عقاري، الذي للمناسبة كان الأكبر في حينه عالمياً، أمّا من وجهة نظر مدنية وتصميمية، فهناك جانب مثير للاهتمام لم يكن له مثيل في التاريخ: تحويل ملكية الأرض، وهي الشكل الأكثر ثباتاً للملكية، إلى أسهم، وهو النوع الأكثر هشاشة من الملكية. وهذه الإحداثيّات هي في أسس مفهوم «سوليدير». عندما كنت تنظر إلى سوليدير في التسعينيّات كنت تتساءل: إلى أي مدى يُمكن أن يكون ما تفعله ديناميكياً؟ غير أنّ الأمر كان مخيّباً للآمال، فقد جرى التغاضي عن ديناميّات بناء المدينة ورُكّز فقط على انعكاسها في المستقبل غير المنظور.
أنا أشدّد كثيراً على مفهوم الحاضر الذي يجري تجاهله في المنطقة. «مدينة عريقة للمستقبل» كان شعار «سوليدير»، لكن الحاضر فيه غير موجود. وهذا أمر مقلق بنظري لأنّه يعكس عدم قدرة على العيش في الحاضر وكتابة تاريخك الخاص. وهنا أعود إلى فكرة مرحلة ما بعد الحرب، وهي عدم إمكان العيش في الحاضر. وهذا لا يُترجم فقط في سوليدير، بل على امتداد لبنان والمنطقة عموماً، حيث لا علاقة للحداثة بالمضمون، وتستورد النماذج من الغرب على نحو أعمى، وللأمر تداعيات كارثيّة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً.


3-هل كسر حلقة التدهور الثقافي الموجود، التي لا تُنتج سوى ذاكرة جماعية مفتّتة بالظروف الحالية، متاح؟ أم نحن نحتاج قطعاً إلى ثورة؟

أؤمن بالعمل على مسارات بديلة، أنا غير موهوم بما تولّده الطبقة السياسيّة. وأعتقد أنّ ما يعرّف البيئة السياسيّة هو إحداثيّات تفرض علينا أن نُصبح سجناءها. لذا أنا هجرت هذه البيئة لأنّها لم تولّد سوى الكوارث، لا يُمكن أن تتغذّى إلّا من نفسها. المشاريع السياسيّة اليوم لا تحمل رسائل اجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة. وبالتالي ليس المهمّ ما تُنتجه الطبقات السياسيّة بقدر ما هو الفعل السياسي خارج ميادين السياسة.

4- هل بدأت الرؤية التي تطرحها تدخل إلى القالب أم لا تزال خارجه؟

إنّه سؤال محيّر. فأنا مهتمّ جداً في حدود المعقول والمتاح. ومهنتي تفرض عليّ الولوج إلى حقائق تكون في بعض الأحيان صعبة جداً. وأعتقد أن هذا الأمر مهم كثيراً لهذا الجزء من العالم، بمعنى أنّه في هذه المنطقة يجد المهندسون أنفسهم مرهونين للقطاع الخاص وحده، في ظلّ الغياب الكامل للانخراط المؤسّساتي في صناعة المساحات العامّة.
نحن المهندسين الشباب ليس لدينا إمكان الوصول إلى المباني العامّة الاستثنائيّة مثلما هي الحال عليه في أوروبا. لم أنخرط أبداً في مشاريع (تطوير) تابعة للقطاع العام خلال مهنتي، لا لأنّني لم أختر ذلك، بل بسبب غياب الدولة. فعموماً، ما يُحفظ من تاريخ الهندسة المعمارية المعاصرة هو بمعظمه أبنية عامّة.
وعندما عدت إلى بيروت وبدأت مسيرتي المهنيّة، في أوائل التسعينيّات، كان يتملّكني الأمل بالانكشاف والتجربة أو كسر القالب. لكن ذلك لم يحصل، وهكذا وجدت نفسي موجَّهاً صوب الواقع الذي يفرضه القطاع الخاص.

5- هل يمكننا القول إنّ تجربتك منذ عودتك إلى بلادك تقع في منتصف الطريق بين المقاومة والتكيّف؟

أستخدم تعبير المقاومة في كثير من الأحيان، وبالمعنى الحقيقي للكلمة. وأرى الهندسة فعلاً سياسياً، وأشدّد على ذلك، فنحن نتحمّل مسؤولية عامّة لأنّنا جميعنا لاعبون في رسم معالم المناطق. نعم كان هناك كثير من المقاومة للقوالب التي كانت موجودة، وتحديداً على صعيد المباني السكنيّة، حيث وضع المهندسون نماذج لم تتغيّر خلال الأعوام الأربعين الماضية.

6- هل سنرى في يوم ما «ترامواي» في بيروت مجدداً أو قطاراً إلى جانب البحر؟ هل يمكننا إعادة تصميم المدينة بهدف تطويرها؟

ليس لديّ أدنى فكرة، لكن أعتقد أن هناك أفكاراً جميلة جداً يمكن بلورتها في عالم أفضل ربما. لقد تخلّيت عن أي جهد مؤسّساتي، وأرى أن اللحظات البنّاءة التي شهدتها في الميدان الذي أعمل فيه لم تخرج من رحم السياسة، بل من أعمال تُنفّذ خارج الحلقات السياسيّة، سمِّها المجتمع المدني، أنا أسمّيها «الفعل في ميدانك الخاص من خلال خبرتك الخاصّة»... وهنا أحبّذ أن أكون واقعياً، ففي التسعينيّات آمنت بسذاجة بأن هناك مشروع إعادة إعمار، وبأنّني يمكن أن أكون جزءاً منه، غير أنّ ذلك لم يحدث أبداً.

7- بالطروحات التي تقدّمها، أيمكن تصنيفك مهندساً معمارياً اجتماعياً ــ اشتراكياً؟

لا أعرف ماذا أصبح تفسير مصطلح «اشتراكي»، فالأحزاب الاشتراكيّة تُفلس، انظر إلى فرنسا اليوم. هناك طبعاً مبادئ وأخلاقيّات ضرورية، لكن أنا شخص يعمل في القطاع الخاص! اخترت العمل في الوحل واختبار الصعوبة والمرارة في البيئة التي نعيش فيها، وهذه ليست حالة بيروت فقط.



اليأس من الحكومات

«هل لا تزال تؤمن بتصحيح سلوك الحكومات؟» يحاول برنار خوري أن يتجاوز يأسه، ويذكر أن تغييراً محتملاً قد يطرأ على البلاد. ففي نظره أن «البيئة التي نعيش فيها لا تسمح بالتوقّع على أسس منطقية... فنحن نصبو إلى أهداف معيّنة، لكننا نعيش في منطقة هشّة تعوق صياغة توقّعات واضحة».