الى غزة

تخبّ بنا السيارة المنطلقة بسرعة خباً، فالإسفلت هنا، على الطريق الصحراوي الموصل الى معبر رفح، ليست مستوية تماما، والسائق مجدي، يقود وكأنه في سباق ما. مؤشر السرعة يصل الى 180كيلومتر بالساعة.

ربما يريد ان يلحق "طلبية"أخرى اليوم، فيضمن مائتي دولار من عمل يوم واحد. إنذار تجاوز السرعة لا ينفك يطنطن. احاول ان الهيه بالأسئلة وبالإعراب عن مخاوفي من مشاكل أمنية قد يقوم بها بدو سيناء، كما حذرني المركز الاعلامي في القاهرة، ناصحاً السفر بالأوتوبيس الدولي، ولو استغرق وقتا أطول. فإذ به يجيبني ببعض الحدة "أنا من بدو سينا"! ابتسم محرجة لكنه يردف"معاي مفيش مشاكل. عندنا لو صارت عليك مشكلة، تروحي الشيخ ما تروحيش الشرطة وهو يجبلك حقك ولو كان برقبة مين"! ربما كان الأفضل ان اقفل فمي وعيناي وانام قليلا.
تصطرع الأفكار في رأسي. كيف ستكون فلسطين؟ كما بدت من الجنوب بعد التحرير؟ اتذكر يومها كيف أختلطت مشاعر التأثر بالغضب لرؤية المستوطنات والجنود المدججين بالسلاح على بعد امتار. لكن في غزة، سأكون في قطاع خال من المحتلين. لن ار الا الفلسطينيين، اهل الارض. هل سيكون الدخول ميسرا؟ أفتح حقيبتي لأطمئن الى ان التصريح الذي وفره لي المركز الإعلامي المصري معي. أربًت عليه كما لو انني أطمئن نفسي. ستكون الامور ميسرة.
الجرائد المصرية تعجّ عجاً بأخبار "هجرة حماس من دمشق". صحف أخرى تؤكد، نقلاً عن صحف أردنية، نقلاً عن مصادر مطّلعة، ان خالد مشعل سيقيم في قطر وان قيادات اخرى ستتوزع على السودان ومصر وقطر. أخبار كثيرة أيضا عن مصالحة فتح وحماس، والتفاوض حول الحكومة والإنتخابات. أتذكر أن صديقا من حماس سألني" هل ستقبل رام الله تعيين شخص من حماس في دوائرها؟ ومن سيقبل من حماس تعيين فتحاوي عنده؟ الكلام ذاته يقوله مصطفى البرغوتي ل"المصري اليوم". يتهم القيادي الفلسطيني "بعض المستفيدين" من انشقاق حماس وفتح بمعارضة التقدم في المصالحة معتبرا ذلك أحد أهمّ معوقات التنفيذ الجدي لإتفاق القاهرة. أخبار المصالحة الفلسطينية "مبهمة". تصريحات المسؤولين من الجهتين تبدو "مدورة". تعرف بخبرتك أن الكلام المبهم يعني ان قائله يريد ان يربح الوقت. كأن الطرفين، وبعد قطيعة ميدانية لخمس سنوات، افترقت مصالحهما. كيف ستنجح المصالحة ان لم تكن في مصلحة الطرفين؟ الجواب بحاجة لبعض الوقت، رغم أن ظروف العالم العربي في ظل الثورات التي لا تزال مبهمة النهايات، تستعجله.
خمس ساعات تستغرق الطريق الى رفح بالتاكسي، اما الأوتوبيس فينطلق ليلاً ليكون الناس باكرا على المعبر. يحذرني الأصدقاء الغزيون من الوصول باكراً لأنه سيكون علي الإنتظار حتى يفتح المعبر العاشرة صباحاً. الطريق الى اليمين والى اليسار جرداء. من حين لآخر تلوح بعض البقع المائية وسط أراض تتناثر عليها أنواع من النباتات الشوكية. "دي الملاحات" يقول السائق. نقترب من قناة السويس. هنا الجغرافيا خليط من مياه مالحة وحلوة، من نيل وبحر أحمر وآخر ابيض متوسط. من صحراء ونفط وغاز وقصب وبرتقال.
"كوبري السلام"، الآن الطريق مستقيمة الى رفح، نلّف ثم نعتليه. السيارة تقفز أقل. تحتنا، تحت الجسر الذي يعلو الأرض حوالي مائة متر، تجري مياه زرقاء في مجرى ضيق كالنهر بإتجاه البحر المتوسط،الذي أطللنا عليه للتوّ الى يسارنا. ألوّح بإبتسامتي للبحر الأليف. ما أن نعبر فوق المجرى حتى يقول السائق"..أدينا يا ستي عبرنا القنال". يقصد قناة السويس.
العبور. تتذكر ان كل هذه المنطقة من هنا وحتى رفح كانت تحت الإحتلال الإسرائيلي. لافتة تشير الى "حقل الفيروز للغاز". الأرض الصحراوية حبلى بالثروات. لا تحتل اسرائيل ارضا عن عبث. تشبه الطريق الى رفح الطريق الى بغداد. تقلّ الأشجار والشجيرات والأشواك شيئاّ فشيئاّ. خطوط التوتر العالي الى يميننا. يشير اليها "أبو شهد"، اي السائق المكنّى باسم كبرى ابنتيه، والراغب بالزواج مرة أخرى لإنجاب صبي، قائلاً "هذي الكهربا رايحة للأردن". وأيها خط الغاز الذاهب الى الأردن و.. إسرائيل، والذي فُجر بعد الثورة مرات عدّة؟ يشير الى سور واطيء من الحجارة وسط رمال الصحراء، موازْ لسور آخر تماماً، بدا أنه يطمر تحته أيضا شيئاً ما:"هذا هو خط الغاز. بجانبه خط مياه النيل التي تصل الى رفح، لكن إحنا موش عايزينها لأن عندنا نظام الآبار". يقول الجملة الأخيرة بفخر وطني ما. يبدو ان المحبة مفقودة بين البدو واهل مصر، كما لاحظت في مرات سابقة. أسأله من الذي فجّر خط الغاز، فيجيب "أو النظام او الموساد!" وكيف ذلك؟ يجيب" ليقولوا انه من غيرهم مفيش أمن! والموساد علشان يلعبوا بالأمن". هكذا ببساطة.
الطريق يصبح صحراويا صرفا. يكتسب فجأة جمالا قلّ نظيره. جنّة صحراوية من النور والالوان الرائقة الممتدة الى ما لانهاية. الأفق، مقطوع كما بحد السكين الى لونين: أزرق السماء الصافية كما تراها من قمرة طائرة تحلق على علو شاهق، وأصفر الصحراء الذي لا تكسره الا ظلال الكثبان الرملية الواضحة الإنحناءات. لا رماديات هنا. لا تدرجات. تكاد عيناك تؤلمانك لشدة سطوع الألوان. تتذكر الرسامين الذين شاهدوا الشرق للمرة الأولى. تفهم ما الذي أشاروا اليه بقولهم انهم إكتشفوا الألوان فيه. ساعة ونصف من الرمال، ولا تملّ من النظر. وجهك ملتصق بزجاج السيارة وهي لا تزال تنهب الأرض نهباً. من بعيد بعض الإبل هنا وهناك. بعض أشجار النخيل أيضا. يقول السائق:" الآن أحس أني في بيتي..". تتذكر ما يتهم به بدوّ سيناء من محاولات إنفصالية. تسأله فيقول" والله ياريت".
"محافظة شمال سيناء ترحب بكم"، نقاط تفتيش الجيش أيضا. البحر المتوسط الى يسارنا يعاود الظهور. تظهر تأثيرات "بلاد الشام" في أسماء بعض القرى مضفية شيئا من بلادنا على الطبيعة هنا. فجأة تظهر شجرات الزيتون. قليلة ولكنها كافية. "عشش" واكواخ على جانبي الطريق تختلط تارة برمال الصحراء وتارة بقصب البساتين لأشخاص يبيعون منتجات المواسم التي تتلخص بشيئين: زيت الزيتون والبلح. اما ثروات الباطن التى يجلس الأهالي فوقها فلا يبدو ان الكثير ينالهم منها. نقترب من العريش التي لا تبعد الا 60كلم عن رفح. شركة النصر للملاحات، قرى الفيروز للغاز. "وصلنا نقطة الميدان " يقول السائق، وهي نقطة تفتيش الجيش في العريش. مرور سهل. "نادي الهجن". يقول "دليلي" ان سباق الهجن يجري هنا مرتين بالسنة "بشهر حزيران وشهر تموز" أتعجب لقوله ذلك على طريقتنا، وليس يوليو ويونيو كما المصريين، فيقول انه يستخدم التعبيرين "بس بحب اهل الشام اكتر". يخبرني ان سباق الهجن أصبح "آليا" السنة الماضية؟ وكيف ذلك؟ يشرح أنهم بدل استخدام الخيّالة (الجوكية) الذين يجب ان يكونوا خفيفي الوزن، إستعاضوا عنهم بآلة تثبت على ظهر الإبل ويجري التحكم فيها عن بعد كالكرباج!
"جامعة سيناء". هي الجامعة الوحيدة في المحافظة، وهي..خاصة. لم ليس هناك جامعات للدولة؟ غير مفهوم. المدارس بدورها متدنية المستوى كما اكد لي العديد من الاصدقاء. اما فرص العمل فهي قليلة جدا. تتفهم نقمة المواطنين.
كثافة في أعداد عناصر الشرطة بالعريش. يقول "أبو شهد" انهم هنا كثر ولكن لا وجود لهم "عندنا في رفح. عندنا في جيش بس ما بيتعاطاش معانا خالص". اما لماذا؟ فيقول" لأن رفح فيها سلاح كثير والشرطة ما تقدرش تسيطر عليها".
"مصنع المكرونة للجيش". تتذكر ان الجيش المصري له شركاته ومؤسساته التي تؤمّن موارده. بعد نقطة "الخروبة" للتفتيش، نصل الى حاجز قوات السلام الدولية. تكاد عناصر مشهد الحدود مع اسرائيل تكتمل. لا بل يخبرونا هنا عن السيول التي جاءت من الجهة الاسرائيلية السنة الماضية والتي أغرقت واديا صغيراً كان الناس قد جعلوا لهم فيه أكواخاَ زراعية متواضعة. تماما كما حصل في كفركلا. لا نرى اي جندي من قوات الأمم المتحدة التي كان يجب ان ترحل منذ وقت طويل كما قال احد الباعة هنا "بس مبارك خلاهم يمكن لأنو بيستفيد منهم". يضيف ان لهم بالقرب من هنا مطارا خاصا. يقول انهم لا يختلطون كثيراً: "أكلهم وشربهم من بلاد برة، لكن الأواعي ممكن يشتروها من هنا". اللهجة هنا فيها شيء من فلسطين وشيء من مصر. أحد جيرانه يصفهم لنا "همّ تقريبا سود البشرة، ولكن الرياس عليهم بيض". يا لهذا الوصف. ما قل ودل.
"012 مفيش شبكة هنا"، يؤكد لي السائق حين أحاول الإتصال بالمعبر لأخبرهم بقرب وصولي كما طلب الي المركز الإعلامي. ماذا نفعل؟ لا شيء نصل وندبر انفسنا. ولكن لم هذا الضعف بالشبكة هنا؟ شركة الموبينايل متهمة بالتعاطي مع اسرائيل. إسرائيل دائما. فتش عن إسرائيل.
مدينة الشيخ زويد ترحب بك. دبابة للجيش. لا احد يستوقفنا. كل في حاله. فجأة يقول السائق وهو يشير الى تلة بعيدة تبدو في الافق وقد اكتظت بالمباني: "أستاذة..شفتي خط البيوت هناك فوق التلة؟ هذي فلسطين". (يتبع)

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/29/2012 12:31:11 AM

المتألقة ضحى. أغبطك و كلي لهفة لتأخذينا معك إلى أهلنا و أرضنا و أملنا. أمانة الحب و القبلات و الوفاء و الكثير الكثير من الحسرة والآمل، أستودعها خصلات شعرك لتنثريها في رحلتك. دمت بمحبة و شغف.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/28/2012 10:58:18 PM

ما فينا نقول يا ريتنا كنا معك، لأنو وصفك للرحلة حسسنا انا مرافقينك بالرحلة، لدرجة إني شددت على جفوني لأخفف من قوةالضوء لساطع في سماء الصحراء وعلى كثبانها.وصف الطبيعة جميل ووصف البشر يحزن..ترجعيلنا بالسلامة هالة

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/28/2012 6:57:00 PM

".. هذا وقد رُصدت حركة المدعوّة ضحى شمس متسلّلةً إلى غزّة في طريقها لتشكيل خليّة إرهابيّة مدجّجة بالسلامات والأشواق إلى فلسطين الّتي "يصدف" أنّها لا تزال محتلّة!". هيفاء

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم