بنت جبيل أكبر مدينة عربية على حدود فلسطين، بنت جبيل كانت ولا تزال أهم موقع متقدم في مواجهة الكيان الغاصب الإسرائيلي، وفي مواجهة العدوانية الإسرائيلية. تعرضت عام 1976 لقصف سوقها وحصلت مجزرة فيها، وقد تحوّلت بفعل مخطط إجرامي إسرائيلي إلى موقع تماسّ مع محاولة إسرائيل إنشاء حزام أمني أو دويلة سعد حداد. حينها كان أكثر الشباب اللبناني المتطوع يأتي الى بنت جبيل، سواء أكان للالتحاق بتنظيمات المقاومة الفلسطينية، أو للالتحاق بتشكيلات سياسية لبنانية. من بين هؤلاء المتطوعين جاء شاب صغير اسمه عماد مغنية. كان شاباً جميلاً صغير القامة ذا وجه طفولي، وكان قد جاء برفقة شاب من صيدا اسمه أبو سعيد، التحقا أواخر عام 1976 أو أوائل وربما منتصف عام 1977. تبنّيت عماد وأبو سعيد وقد كانا يناديان زوجتي أمي. وكان صوت عماد جميلاً ويغني لمارسيل خليفة، كان يغني أناشيد للثورة. فهذه كانت أول بداية معرفتي به وقد عشنا معا أشهراً في ذلك الموقع المتقدم من مقاومة العدوانية الإسرائيلية. كان جزءاً من مجموعة أخلاقية أساساً، مجموعة خاصة، مجموعة حالمة تقرأ. وعندما لم نكن في المواقع كنا نفكر في ماذا نفعل؟ أحياناً، نذهب للقيام بحملات تنظيف في حيّ لا أناس فيه، نكنس، ونحاول أن نخترع أيّ شيء. كان عماد غارقاً في حلم عميق، يفكر دائماً في شيء ويشرد.
توجه عماد إلى بنت جبيل عن سابق إصرار وتصميم لا من باب المغامرة. كان يحب أن يستمع دائماً إلى ما كان يدور حوله من أحاديث، فقد كان يأتي إلينا الكثير من الشباب اللبنانيين الذين يمثلون تنظيمات ويحملون مشروعاً للحركة الوطنية، مشروع السلطة الشعبية. ونحن في أجواء الحرب يتحدثون عن الشعارات والإصلاح السياسي وعن تغيير النظام في بلد يعيش حرباً أهلية. كنا، نسمع أكثر مما كنا نتكلم، وأنا أعترف بأن الذي مثلي ومثل عماد تعلم الفكر السياسي من الجدل. لم نكن ماوتسي تونغ ولم يكن لدينا وقت لقراءة كتب اليسار اللبناني. نحن قرأنا المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية من خلال السمع. كان الحاج عماد يرى أن كل شيء يبدأ من فلسطين وينتهي بفلسطين. عماد وغيره من الشباب يرون أنّ الطريق الى بيوتهم يمر من فلسطين، الطريق إلى أحلامهم، إلى كتبهم، إلى لغتهم، إلى قصائدهم، إلى موتهم يمر بفلسطين. بهده الصفة كان عماد يجلس في موقع استراتيجي على خط التماس تلفّه الجغرافيا مع فلسطين لا مع شيء آخر.
بعد الاحتلال الإسرائيلي سنة 78 بدأنا نتكوّن كمقاومة نفّذت عمليات عسكرية من عام 79 إلى سنة 81، مثل العملية الضخمة في دير ميماس وعملية حولا وبنت جبيل لدرجة أنه في سنة 81 كان قد وُضع اتفاق بين منظمة التحرير وإسرائيل بواسطة فيليب حبيب لوقف إطلاق النار، فعدّونا وقتها أننا نحن الذين نخرب وقف إطلاق النار، والسؤال كان من نحن؟
لم نكن مجموعة متناسقة ومتناسبة. كنا نضع بعض الأغراض في عدة قرى، ولم يكن لدينا تمويل حتى، وعندما جاء الاحتلال الإسرائيلي سنة 82 كنت أرى منذ ذلك الوقت عماد، سمعت أنه موجود في شتورا أو بر الياس وفهمت من أحد قادة المقاومة أنه أتى ليأخذ أغراضاً، وكانت الأغراض في تلك الفترة، أسلحة أو متفجرات ففهمت أن لديه مشروعاً.
بعد ذلك، صرت التقي عماد في فترات متباعدة... أصبحنا نلتقي صدفة، لاحقاً أصبح عماد في مكان يستطيع أن يراك وأنت لا تستطيع رؤيته. وهو يتابعك وأنت لا تستطيع متابعته. طبعاً، هو أخذ صفته كقائد للمقاومة وأنا أُقدّر ظروفه الأمنية وظروف حركته التي كانت تقتضي أن يبتعد عن أصدقائه الذين يحبونه.
من ثمّ، أصبح عماد شيئاً مخيفاً، والجيد أن تسمع عنه ولا تراه. وليس لهذا السبب لم أعد أراه لكنني لا أعرف أين هو، ونحن مجموعة بنت جبيل القديمة كان بعضنا يسأل عن بعض ونلتقي، لكن عماد ذهب الى مكان وأنا ذهبت الى مكان، وبعد سنة 84 ذهبت الى بيروت والتحقت بحركة أمل، وكان لدي علاقات شخصية بكثير من كوادر الحركة، وعملت في النهار في الإعلام، وفي الليل كنت أشتغل مقاومة على طريقتي. فصرنا نتلاقى أنا والحاج عماد صدفة في بيروت وفي سوريا، أو في إيران، هو كان يأتي عندما كان يسمع أن هناك وفداً لبنانياً. وأنا كنت سعيداً بأنني أراه، وكنت سعيداً بأننا أسهمنا في فترة سابقة في ألّا يختلف حزب الله وحركة أمل.
مرت على فلسطين من سنة 48 الى الآن ستون سنة، أي ستة أجيال ولدت، واستهلكت الكثير من الناس كشهداء أو نسيها أناس أو تجاهلوها، وكم استهلكت من أنظمة. وكم ستستهلك بعد؟ وأهم شيء أن عماد اخترع أحداً مختلفاً ليقاوم، وعمل شيئاً جديداً، ربّى أناساً لا يتراجعون عندما يتقدم العدو. كنا نعيش على القواعد السابقة، أي أن العمل المقاوم يتراجع الى الخلف عندما يتقدم العدو. كان عندما يقال إن إسرائيل آتية يتوه الناس، لكن تغيّر هذا الآن. اليوم، هناك أشكال جديدة للمقاومة استنبطها عماد، ويستدعي الأمر الآن أن نقول لأصدقائنا الفلسطينيين إنه يجب عليكم أن تجدوا طريقة. هذا الشاب الصغير من طيردبّا من جنوب لبنان الذي شرب من الليطاني خرجت منه هذه الاختراعات الكثيرة، وطبعاً ليس وحده، فهناك دعم من سوريا وإيران، لكنني أعتقد أن عماد كان يقول لكل الناس تعالوا واخترعوا مثلنا.
(بالتعاون مع اذاعة النور)