في هذه الأيام، متابعة ما يجري في تونس، والحزب الحاكم الإسلامي المعتدل، النهضة، يبدو كأنّه فيلم مضجر، تتم مشاهدته للمرة الثانية. يتحدث قائد النهضة، راشد الغنوشي، وكأنّ حزبه كان وراء الربيع العربي، لا في تونس فقط، بل في العالم العربي بأكمله، إلى جانب اعتباره أنّهم المثال الوحيد الناجح عن الانتقال الى الديموقراطية. إذا أضفت هذا الخطاب إلى تصريحات الحزب السابقة التي تقول «كنّا أكثر من عانى خلال نظام بن علي، لا اليساريّين»، أتذكر سنوات حزب «العدالة والتنمية» التركي الأولى في الحكم. لا عجب أنّ حزب «النهضة» كان يكرر دائماً أنّه سيعتمد «النموذج التركي» حين ترشح للانتخابات. من الواضح أنّه استعار «مارد الخطاب» الذي شلّ المعارضة التركية لفترة طويلة، عبر تصريحات بين العامة وأوساط المثقفين. مارد الخطاب ذاك، كما نعرف جميعنا في تركيا، لا يخدم أهداف أسياده فقط، بل يشرعن بشكل آلي، كل سياسة ضد الديموقراطية، المساواة الاجتماعية، وأحياناً ضد المنطق العام. مشاركتي في طاولة مستديرة حول الربيع العربي في باريس، جعلتني أفكر كيف أنّ هناك ضرورة لتحذير الثوار التونسيين والمصريين حيال عجائب المارد ذاك. حين وصل حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم في تركيا، بدأ باستخدام خطاب المقموعين، في كلّ مناسبة. فقد حفل تاريخ تركيا الحديث باستهداف للمتدينين من قبل النخبة، كذلك اعتقل رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بسبب إلقائه قصيدة دينية، اعتبرت مسّاً بعلمانيّة الدولة.
لقد شاهدنا عبر الوقت كيف يصبح المقموعون قامعين. كلما سئل رئيس الوزراء عن السجناء السياسيين، كان يتحدث عن فترة سجنه، كي يفهم الجميع أنّ كل من لم يسانده خلال فترة اعتقاله، لا يحق له الحديث عن الموضوع اليوم. كلما تناولت المعارضة مسألة الحريات الفردية المتناقصة، كان هو وحلفاؤه يتحدثون عن أيام تقييد حريات الناس في العبادة. وكلما تحدث الناس بطريقة نقدية عن الحقوق الاجتماعية التي أصبحت خاصة بالأعمال الخيرية الدينية، استخدم الخطاب السخيف بأنّ العدالة تأتي من الدين. في الأيام الأولى، كانت المعارضة، وخصوصاً العلمانية، التي تبدو حداثية ومتشبهة بالغرب، تصاب بالذهول كلما أطلق تصريحاً يتطرق فيه الى الدين. كما يستنتج المرء، فإنّ أي نقاش بين العلمانيين والمتدينين، في دولة يشكل المسلمون السنّة أغلبية فيها، هو نقاش ميت، لا يخرج منه على قيد الحياة سوى الأغلبية الدينية. وهذا ما حصل. لم تتعرض المعارضة التي بنت خطابها على العلمانية للسحق فقط على يد مارد الخطاب الأردوغاني، لكنّها كانت عرضة للسخرية والإذلال. كان المارد ذكياً كفاية ليستخدم الله والديموقراطية على نحو مترابط. هذا ما يجب أن يتنبّه له التونسيون والمصريون جيداً.
اليوم، التونسيون الذين ناضلوا من أجل الديموقرطية، والمصريون الذين شكلوا كلاً واحداً في ميدان التحرير، مصدومون من لجوء حزبي «النهضة» و«الحرية والعدالة»، الى الحديث عن الشريعة.
في تونس، حيث صدم الناس من حديث الغنوشي عن إغلاق الحانات واعتبار الشريعة مصدراً للدستور الجديد، أرى الشباب الشجعان يقفون وسط طريق السياسة السريعة، كإيل أو غزال تسلط عليه أضواء السيارة في وسط الطريق، على نحو مفاجئ.
أتذكر تلك الوجوه من تركيا قبل عشر سنوات. مثل نظرائهم في تركيا، هم مشلولون بما لا يسمح لهم بالانخراط في العملية السياسية الحالية. ففي دولة محافظة، أغلب سكانها مسلمون، من شبه المستحيل بناء خطاب لا يجعل المعارضة تبدو كالمتحدث باسم الشيطان في نظر المواطن العادي.
يجب على المرء أن يعترف بأنّه في الدول التي يغلب على سكانها مؤمنون بالإسلام، من الصعوبة بمكان النقاش مع حكومة إسلامية تبدو حديثة، وملتزمة بالنيو ـــ ليبرالية.
الخطورة لا تتأتى من الأحزاب التي تعلن أو توحي بأنّها أحزاب إلهية، إلا حين تعلن أنّها تمثل الديموقراطية. في تركيا، يعني ذلك أنّه إذا كنت ضد حزب «العدالة والتنمية» فأنت مع الانقلابات العسكرية وتدخّل الجيش في السياسة. في تونس، حيث من المتوقع أن يحصل الأمر نفسه قريباً، إذا كنت ضد حزب «النهضة» فأنت تساند النظام القديم. في مصر، أظن أنّ المارد سيخترع قريباً ما يناسب المتطلّبات المحلية، بشكل أو بآخر.
هناك خيار واحد لكسر الحائط الذي يبنيه مارد الخطاب، وهو تأسيس معارضة وفق قضية الحقوق الاجتماعية.
ملاحظة هامة أخرى هنا، تتعلق بأنّ العدالة والتنمية لم يكن بالضرورة يريد للجيل الجديد أن يكون متديناً، لكن مطيعاً.
الاعتماد على هذه الاستراتيجية لا يجعل منك أقل وحدة في العالم بكل تأكيد. السياسات الأوروبية والأميركية التي صنفت تلك الدول باعتبارها ديموقراطيات إسلامية معتدلة، مع ختم «صالح للشرق»، لن ترغب في معارضة تعتمد على العدالة الاجتماعية. من خبرتي الشخصية، أعتقد أنّ الغربيين الذين يشيدون بالديموقراطية في تلك الدول، يخافون حين يسمعون عبارة «عدالة اجتماعية». كل من كان يصفق في الإعلام الدولي لأنّ شباب ميدان التحرير كانوا «بلا إيديولوجية»، لا يرغبون في الاعتراف بأنّ خطاباً مماثلاً قد استمر بعد حملات «النضال ضد الشيوعية» التي أطلقت في ستينيات القرن الماضي. لكن اعتماد المعارضة على الحقوق الاجتماعية، والمساواة الاجتماعية، على الأقل، سيجعل مارد الخطاب يبدو كإيل عالق أمام سيارة، بدل المعارضة، على سبيل التغيير.
* محلّلة سياسيّة تركيّة (المقال مترجم عن موقع «الأخبار» الانكليزي «english.al-akhbar.com»، ترجمة ديما شريف)