قصة كهرباء غزة

من النافذة المطلة على سنسول المرفأ الغزاوي الفقير، لا شيئ يرى في الليل إلا عامودي إنارة يتيمين يضيئان بالكاد تحتهما. من حين لآخر، حتى هذان الضوءان ينطفئان فتعمّ العتمة الخالصة. تنظر في الليل، فتسمع الامواج لكنك لا تر شيئاً. لا قمر في السماء والغيوم السوداء لا تني تفرغ حمولتها من الأمطار.

إمتلأت الآبار الجوفية وتفاءل الناس بموسم الزرع المقبل. وبرغم استمرار العاصفة، إلا أن الربيع بدأ يلوّح باكراً في البساتين القليلة التي شاهدناها، تنتشر أزاهيره الصفراء والبيضاء على الأرض المعشوشبة تحت شجر الزيتون والليمون الحامض. في المقاهي التي تلاحظ خلوّها من آفة الأراكيل..نسائياً فقط بأمر من الحكومة، تشّع أنوار النيون البيضاء، لا أعرف لم لا أحب النيون؟ ربما لأنه رغم بياضه الناصع خافت، كما لو كان نوراَ مغشوشاً. شيء يشبه"برق سحابة لم تمطر" كما تقول القصيدة.
وبياض النور يشير الى "مصدر الطاقة": ما نسميه نحن اللبنانيون العريقون في أزمة الكهرباء "يو بي اس". وهي بطاريات تشحن طالما ان التيار موجود، ثم يستعاض بها للإنارة حين تنقطع الكهرباء. ولكن، حتى شحن البطاريات بحاجة لمدة ما طويلة نسبيا من التيار احيانا غير متوفرة هنا. التناوب بين المولد وكهرباء الحكومة، و"اليو بي أس" لا زال يحل مشكلة النور الى حد ما. ولكن ماذا عن البرادات التي تحفظ فيها الاطعمة؟ ماذا عن قوة التيار المتغيرة والتي تحرق الآلات الكهربائية؟ يتعجب الغزيون من طرحي الأسئلة المناسبة بموضوع الكهرباء. ترتسم على وجوههم ابتسامة المتفاجيء من استباقي أحياناً اجوبتهم، قائلين :"صحيح تماما". أقول لهم أنه لدينا المشكلة ذاتها. للتعزية فقط.
مطاعم غزة أيضاً، قلقة من نفاذ الطاقة. يخبرنا أحمد، النادل الذي تخرج من الجامعة بدبلوم علاقات عامة، والذي سيبقى يعمل هنا الى أن يجد عملاً في الخارج، أن مخزونهم من الغاز ومن الفيول الذي يغزي المولدات الكهربائية لا يكفي لأكثر من اسبوع. ماذا سيفعلون بعدها؟ يقول انهم سيعودون الى "البابور اللي أخترعناه خلال العدوان.وقتها بنينا بابور ضخم ألو تلات عيون موصولين بأنبوب، وكنا نحط الكيروسين (الكاز) ونطبخ عليه". والكيروسين من أين يأتي؟ يقول من الأنفاق خاصة، ولكن بسعر السوق السوداء. وماذا عن الكهرباء؟ محتويات البرادات من لحوم وألبان وأجبان؟ يقول أنهم يحاولون الشراء على قدر حاجتهم اليومية. "بس أبصر شو رح نعمل بالحقيقة. مشكلة كبيرة".
وهي كذلك فعلا. في الأخبار يقولون ان المصريين تراجعوا عن إمداد غزة بمادة "السولار". قبلها بيوم، "أحبط" المصريون أيضاَ عملية تهريب للوقود من أنفاق غزة، التي تكاثرت كالفطر بعد الحصار. يضحكني تعبير "أحبطت". فالتوريد عبر الأنفاق، اي السوق السوداء، ينتفع منه الطرفان على جهتي الحدود بشكل يجعل من الاستعاضة عن ذلك بمصدر شرعي مجرد قطع رزق للجهتين كما يقول كثيرون هنا. منع ذلك يعني أيضاً، شيئا في السياسة..مصرياً. فرئيس مجلس الشعب سعد الكتاتني، يحاول جهده مساعدة "إخوانه" في غزة. لا بل ان مصدراً واسع الإطلاع على الملف أكّد ل"الأخبار" أن "مجلس الشعب" المصري أنتزع وعودا من وزارتي الكهرباء والبترول في مصر لتغذية غزة، لكن الوفاء بذلك لم يحصل. تبدو قضية فلسطين، مصريا، في مرحلة انتقالية بين توجه نظام مبارك، وتوجه عهد الإخوان.
ولا بأس من دخول "حرتقات" الإنقسام الفلسطيني بين سلطة رام الله وغزة على خط التوتر العالي برغم المصالحة التي تمشي بسرعة السلحفاة الى اجنب الأرنب الإسرائيلي. يكاد خيط الإنقسام الرفيع يخترق كافة شؤون وشجون الفلسطينيين. وما خطبة رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنيّة "الكهربائية" أمس الأول في مسجد مخيم الشاطيء، إلا إخراج للأزمة الى العلن ونوع من التبروء، من المسؤولية. فوضع القطاع لم يعد يحتمل. ومخزون الوقود لا يكفي لأكثر من أسبوع. حتى في الفندق قطع التيار لأكثر من ساعتين لإراحة المولد كون تيار الحكومة يصل اقل فأقل.
تطور آخر حصل أمس. فقد أعلنت مصر انها مستعدة لتموين القطاع بالوقود بالسعر الدولي. اي ان مصر ليست مستعدة لبيع الوقود بالسعر الداخلي المصري. قالها صراحة وزير الطاقة المصري لهنية، حسب هذا الأخير. تتذكر طوابير المنتظرين لقوارير الغاز في مصر نفسها والنقمة الشعبية على بيع الغاز لاسرائيل بأقل من السعر الداخلي. لكن حماس ليست إسرائيل. ومع ذلك..هناك مشكلة.
وأزمة الكهرباء تفاقمت بعد إيقاف سلطة الطاقة هنا للمولد الوحيد للكهرباء في غزة، كانت هناك اربعة مولدات قصفتها اسرائيل. واحد في طور التصليح وإثنان معطلان تماما نظرا لعدم وجود مستلزمات تصليحهما في القطاع المحاصر، والأخير الذي كان يعمل أوقف "بسبب عدم تأمين الاستمرارية في وصول مادة السولار"، اي الفيول، كما قال لنا المهندس أحمد أبو العمرين، مدير مركز معلومات الطاقة في وزارة الطاقة. ما قاله هنية في خطبته، كان أبو العمرين، الذين زرناه في مكتبه، قد قال لنا معظمه.
"يا ريتكم جيتونا البيت لأنو أولادي بيحبوا كتير اللهجة اللبنانية" يبادرنا الرجل ما أن ندخل مكتبه في الطابق الثاني من مبنى الوزارة، والذي كانت الكهرباء مقطوعة فيه حين وصولنا. ويضيف ضاحكاً "سمعوا واحد لبناني بيحكي وقالولي بابا ..بيحكوا زي مسلسل الغالبون" يقصد المسلسل على قناة "المنار". هل لا زالوا يتابعون المنار برغم "مغادرة" حماس سوريا؟.
"شو قصة الكهرباء؟". يتنهد الرجل المربوع الذي تتوسط جبينه "زبيبة"، ثم يبدأ بالشرح:"نحتاج الى 350 ميغاواط من الكهرباء، لكن المتوفر 220 فقط من 3مصادر: مصر وإسرائيل والمحطة المحلية للتوليد. هذه مشكلة الكهرباء منذ سنوات".إذاً؟ ما المستجد فيها؟ يجيب:"نفاذ إمدادات الوقود اللازم لتشغيل المحطة المحلية. لذا أوقفناها عن العمل. هذه المحطة تغذي ثلث إحتياجات القطاع. وايقافها فاقم العجز الأصلي الذي يصل الآن الى 65%. اي ان الكهرباء متوفرة فقط من مصدرين: اسرائيل ومصر. وهي لا تغطي الا 35%. ولذا نقوم ببرنامج تقنين 6ساعات تغذية يوميا ثم 12 ساعة قطع، ثم 6ساعات تغذية. أي 6ساعات كل 18 ساعة". وما سبب النقص؟ "نعتمد منذ أكثر من سنة على الوقود المصري، بعد توقف الإتحاد الأوروبي عن توفيره من الجهة الإسرائيلية (بسبب اعتباره حكومة حماس المنتخبة غير شرعية أخذ يحول اموالها منذ عام ،حسب هنية، الى سلطة رام الله). لكن هذا الوقود كله يصل عبر الأنفاق لأنه لا طريق رسمي للوقود المصري. وحتى هذا شحّ في الأيام الأخيرة بسبب الإجراءات الأمنية المشددة مصريا". لكن لماذا؟ والأصدقاء الإخوان هم في سدة السلطة؟ يجيب:" لا نعرف. المصريون أولى بالرد". ويتابع"كانت لنا إتصالات مكثّفة مع المسؤولين المصريين الشهر الماضي، وقام رئيس سلطة الطاقة في غزّة كنعان عبيد بزيارتين لمصر. عرضنا عليهم ضمان إمداد الوقود لغزة بالطرق الرسمية، لكن دون جدوى. كانت هناك وعود متكررة بضمان ذلك وهو ما لم يتحقق حتى الآن". ثم يقول:" المحطة إنطفأت مرتين بالأسبوعين اللي فاتوا، إعتمدنا لتشغيلها ثانية على كميات محدودة يتم تهريبها يوما بيوم عبر الأنفاق. شحّت الإمدادات فأطفأناها مرة أخرى. اليوم إذا لم يتم توريد كميات كافية وذات مغزى من الوقود، لن يمكن إعادة تشغيل المحطة. لأنها ستتضرر من الناحية الفنية اذا تكرر إطفاؤها وتشغيلها". وإن لم يؤمن ذلك؟ "سيزداد برنامج التقنين في ظل العاصفة والبرد وزيادة الإستهلاك. لذا نطالب الاشقاء، وتحديدا مصر القيام بدورها كاملا لإنقاذ القطاع من أزمة انسانية خانقة، خاصة اننا بحاجة للكهرباء لإيصال المياه للبيوت، كون نظام مياه غزة قائم على الآبار. ولتشغيل محطات الصرف الصحي والتحلية". ويضيف:" هذه الأزمة هي الحلقة الاخيرة المتبقية في الحصار على غزة، مما يحتم على مصر كسرها".

ماذا عن خيارات الطاقة البديلة؟ كان بإمكان هذا العاصفة ان توّلد طاقة كبيرة، ماذا عن شمس غزة الحارقة حيث الصيف صحراوي تقريبا؟يقول:"كلها تحتاج الى أجواء استثمار طبيعية حتى الدولة بحاجة لمانحين. إضافة الى انها من الناحية الفنية لا يمكن ان تعطي كمية كافية بالمقارنة مع ارتفاع تكلفة منشآتها".
ولكن، اليس هذا الإستثمار بالطاقة هو أولوية بالنسبة لإنفاق الحكومة؟ أن كان بالطاقة البديلة او بدفع الثمن الدولي من مصر ؟ يجيب "يعود للحكومة وضع أولوياتها".
لا يتأخر موضوع الإنقسام عن الظهور:" للأسف أيضاً، واجهتنا عراقيل بسبب سلطة رام الله التي قامت بإجراءات لعرقلة التفاهمات مع الجانب المصري لحل الأزمة". مثل ماذا؟" منع فنيي سلطة الطاقة الذين وجهت لهم دعوة رسمية للسفر الى مصر لإنضاج الخطوات التقنية لحل الأزمة، من السفر، في إجراء واضح لعرقلة الحل والمشاركة في التضييق على غزة، لتحقيق أهداف سياسية". أي؟ نسأله. يبتسم. لا تعليق. لكن الإستنتاج ليس صعباً. فالإنتخابات، لو طبقت بنود المصالحة، مقبلة، ولا احد يريد ان تزداد شعبية الفريق الآخر في الشارع.
ما لم يقله المهندس، سمعناه من الناس. هكذا، يشرح أحد المتابعين ممن رفضوا ذكر اسمائهم ل"الأخبار" ان للإنقسام الفلسطيني دور كبير في الأزمة. "منذ سنة، يقول، وقّعت حماس ورام الله إتفاقا لتمويل كلفة الكهرباء بحسم 170 شيكل (حوالي 40دولارا) من الراتب الأساسي لكل موظف في السلطة ترسل الى سلطة الطاقة ثمنا للوقود وكلفة خط كهرباء اسرائيل. قبل ثورة مصر، كان في بس اسرائيل والمولد المحلي، 120 ميغاواط كلا منهما، اي 240 ميغاواط وكانت كافية للإستهلاك". لكن سلطة الطاقة تقول انه غير كاف! ولا شك ان الإستهلاك زاد. يجيب :"أبدا. قصفت اسرائيل معامل ومصانع غزة ولم تعد لها قائمة بعد إختطاف (الجندي الاسرائيلي جلعاد)شاليط. اي ان الاستهلاك خفّ. ومع ذلك يا ستي. فلنقل انه اصبح 260 ميغاواط. بعد قصف المحطة صار التقنين 8 ساعات قطع وتغذية بالتناوب. اي نصف القيمة بالضبط. استمرينا هيك لغاية تصليح اول موّلد بعد سنة تقريبا، فأصبحنا 6 ساعات يوميا قطع وتغذية اي ربع القيمة. لكن بعد استلام حماس (27-2-2007) تغيّر الوضع. اوقف الإتحاد الاوروبي الدعم. فتزايدت الأزمة. وبدأوا إستخدامها بالسياسة. ولذلك ممنوع أن تحلّ"!. وكيف ذلك؟ يقول: "فلنعد الى الأرقام: مع التزايد الطبيعي للسكان فلنقل اصبح الاستهلاك 260 ميغاواط. 120 من اسرائيل و20 من مصر =140، اي اكثر من نصف الكمية. يجب إذا ان يكون برنامج التقنين 8ساعات بالتناوب زي ما كان بالاول. لكن بيلاحظ الإنسان أنو لازم دايماً تكون في أزمة "بالمصادفة " عندما تكون هناك طروحات سياسية للمصالحة". يمجّ سيكارته ثم يقول وهو ينفض رمادها على الأرض" إذا بدك الصراحة؟ ما حدا بدو يتصالح. كل واحد عندو دجاجة بتبيض ذهب. ليش يتركها؟". ولكن ألن تكون المصالحة في مصلحة "شعب" حماس لجهة رفع الحصار عن القطاع وحل أزمة الكهرباء مما سيكسبهم الإنتخابات؟ يقول :"حكومة حماس تعتبر منتخبة ولو كانت مقالة، أي لديها شرعية. فإذا جئنا لتشكيل حكومة وحدة من مستقلين كما تطرح المصالحة، سيخسرون ورقة الشرعية". إذا هناك تخوف من الإنتخابات لدى الجهتين؟ يؤكد زميل له الأمر :"الناس حتى الفتحاوية إنتخبوا حماس إحتجاجا على فساد فتح. لكن بعد 6 أو 7 سنوات من وجود حكومة إسلامية إكتشف الناس أن الفساد موجود، ولكن بشكل آخر. وبالتالي تدرك حماس أنها لن تفوز إلا بمقاعد أنصارها، وعملياً عناصرها. اي بحدود 30%". وفتح؟ يقول:"مع كل البروباغندا وشراء الأصوات من الجهتين لا يمكن ان يحصل كل منهما على أكثر من 30 %. يبقى اربعون بالمئة. الى اين تذهب هذه الأصوات؟ هذا هو السؤال. على الأرجح سيتوزعون بين التنظيمات الباقية، وربما كان ذلك أفضل. لأنهم عندها سيشكلون إجبارياً إئتلافات لتشكيل حكومة، وبالتالي سيراقبون بعضهم"، او سيعطلون بعضهم أقول في نفسي.
وما هي حظوظ العصيان المدني الذي دعا اليه د. ماهر الطاهر القيادي في الجبهة الشعبية منذ أيام هنا في مخيم البريج؟ يجيبنا:" صعب. النظرية نفسها: من سيقود هذا العصيان؟ فإدارة أي نضال بحاجة لقوة على الأرض. التنظيمات فقدت قوتها، والمؤسسات الاهلية لا قوة لها. هناك تنظيمان كبيرين، والباقي كله توابع ونقطة على السطر".
هل يجب ان ننسى إحتمال قيام إنتفاضة ثالثة كما "يتنبأ" البعض؟ يقول" لا أظن أن الأمر محتمل في غزة. ربما في الضفة". لكنه يستدرك" مش ضد إسرائيل، ضد حكومة فياض. فالوضع الأقتصادي يتدهور بسرعة كبيرة هناك". أكثر من غزة؟ يقول :"أكيد. غلاء المعيشة يتصاعد بشكل كبير والضرائب التي تفرضها حكومة فياض حاجة جنان". مثلاً؟ "مثلاً باكيت الدخان بغزة بدولار ونص، في الضفة 5 دولار! هيه نفسها اللي بتنباع بالضفة لكن الضرائب هناك ترفع سعرها بشكل جنوني. وعدّي: اللحوم والخضراوات..كله. حتى علبة الكوكا كولا اللي جاية من مصانع رام الله، ثمنها هناك 7شيكل( دولارين) وهنا 2 شيكل (نصف دولار تقريبا)". ثم يضيف "حتى صار في أغاني داير بيغنوها وبتقول: يا فياض رايح بينا وين؟". يضحك ثم يقول: "سمعتيها؟ أهي موجودة على اليوتيوب". (يتبع)

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم