أسبوع قبل انقضاء سنة على الاضطرابات التي تعصف بنظام الرئيس بشّار الأسد، تبدو سوريا في مهبّ أحد خيارين: تسوية دولية لإعادة الاستقرار إليها في ظلّ نظام جديد بعدما قوّضت الاضطرابات نظام حزب البعث نهائياً، أو دخول البلاد في استنزاف طويل لا يقتصر على أشهر.
يبرّر هذين الخيارين استمرار تفاقم الأزمة، المربوطة إلى حصانين يشدّانها في اتجاهين متعاكسين:
أحدهما عقبة رئيسية تحوط التسوية الدولية المحتملة هي حصولها في ظلّ الأسد كما تطلب موسكو، أو بمعزل عنه كما تشترط واشنطن والغرب والعرب دونما التخلي بالضرورة عن النظام نفسه في مرحلة انتقالية.
والآخر تحوّل كل من النظام والمعارضة أمراً واقعاً في الشارع، في معادلة الصراع الداخلي، على نحو يعجز فيه أحدهما عن شطب الآخر منها.
وهكذا تنشط التحرّكات الديبلوماسية، المستقلة كما في نطاق الأمم المتحدة، نحو سوريا في موازاة التنديد بالعنف الذي يستخدمه النظام، فيما يلوذ الأسد بالمظلة الروسية ـــ الصينية في مجلس الأمن، ويتفرّج على انقسام الجامعة العربية حيال تسليح المعارضة والاعتراف بالمجلس الوطني، ويندفع أكثر في تصفية المعارضة المسلحة وهو يقدّم أطباق الإصلاح.
آخذاً بغموض يرشّح الأزمة السورية لمزيد من الاستنزاف الداخلي، يتعامل النظام مع الوقائع الجديدة وفق معطيات أبرزها:
1 ـــ أكثر من أي وقت مضى، بات الرئيس السوري اليوم أكثر اقتناعاً بتسوية سياسية مع معارضيه، بعدما كان رفضها سابقاً، وقلّل ـــ في الأشهر الأولى من الأحداث ـــ أهمية الاحتجاجات ضد نظامه واختصرها بمسلحين يقوّضون الاستقرار وينفذون خطط الغرب، ولم تكن البلاد قد دخلت آنذاك في دوّامة العنف المدمّر المتبادل.
أبرز مؤشرات رفضه التسوية مع معارضيه، كَمَنَ في إحجامه عن اتخاذ خطوات ملموسة وإجرائية على صعيد الإصلاح، مكتفياً بالحديث تكراراً عن رزمة مشاريع، وإحجامه عن تحقيقها في ظلّ العنف والتظاهر. على أن نصائح حليفه الروسي حملته على تجاوز هذا الموقف. وقّع مشروع الدستور الجديد في عزّ الحملة العسكرية على حمص وريف دمشق، ودعا إلى استفتاء عام عليه في ظلّ الظروف نفسها، وتعهّد بتأليف حكومة تقاسمه معارضة الداخل مقاعدها.
والواضح أن الأسد يُظهر الاقتراب من التسوية، كلما ابتعد معارضوه عن انتزاع موقف دولي بالتدخّل العسكري الخارجي أو فرض منطقة أمنية عازلة أو تسليح الجيش السوري الحرّ. وهو بذلك يستفيد من أخطاء خصومه وإخفاق تحرّكهم في الخارج، أكثر منه نجاح أداء معاونيه.
2 ـــ قرن الرئيس السوري موافقته على التسوية باستعادة سلطته على المناطق والقرى التي نجحت المعارضة المسلحة، وأخصّها الإخوان المسلمون والتيّارات السلفية، في انتزاعها منه. وكادت تطبق على دمشق، وتربط وسط سوريا بساحلها الغربي. إلا أن سيطرته على بابا عمرو، بعد الزبداني في ريف دمشق، مثّلت مؤشراً أساسياً إلى التوقيت الذي بات النظام يعتقد بأنه أصبح ملائماً أكثر من أي وقت مضى: بعد إخفاق المجلس الوطني في الخارج، يُفكك المعارضة المسلحة، ويتهيّأ لحوار داخلي جديد تحت سقف الرئيس وفي ظلّ أحكام الدستور الجديد، معوّلاً على الموقفين الروسي والصيني في دعم هذه الخطة.
حمله ذلك على اعتماد سياسة الأرض المحروقة التي توسلها الجيش، متأثراً بتجربة الجيش السوفياتي وقد تربّى الجيش السوري على أسلحته وعتاده ومفاهيمه في خوض الحروب، في مواجهة المعارضة المسلحة بغية القضاء عليها. لا يخرج من معركة عسكرية إلا وقد محا تماماً كل وجود مناوئ له على أرضها، دونما الالتفات إلى حجم الأضرار والأخطاء والارتكابات والضحايا.
والواقع أن أكثر من مسؤول سوري برّر وجهة النظر هذه ـــ وهو يجزم باستخدامه هذه القاعدة بثقة ـــ في معرض الحديث عن الخطر الذي تمثله التيّارات السلفية وتنظيم «القاعدة» والإخوان المسلمون على النظام والبلاد، شأن ما تشهده مصر واليمن اليوم، ومن قبلهما العراق.
3 ـــ منح تماسك الجيش وأجهزته الأمنية الرئيس السوري الفرصة الذهبية لحماية نظامه من الانهيار. فلم تفضِ حالات الانشقاق إلى تداعي المؤسسة العسكرية، ولا آل تصاعد النبرة المذهبية إلى تشققها على أثر حوادث واعتداءات دموية متبادلة بين العلويين والسنّة في أكثر من منطقة، ولا اقتصار الفرار من الجيش على ضبّاط وعسكريين سنّة أوحى بقرب انهيار الجيش. مع ذلك أظهرت حدّة الصدامات والعنف الذي رافق العمليات العسكرية، وخصوصاً أكثرها ضراوة في مدن سنّية كحماة وحمص ودرعا وإدلب وريف دمشق ودير الزور، تماسك الجيش.
عُزي الأمر إلى سببين على الأقل:
أوّلهما، أن الأسد لم يستخدم في المواجهات إلا قسماً من الجيش، وحرص على إبقاء القسم الأكبر منه في الثكن لتفادي نشره في الشوارع وتأثره بالصدامات وأعمال العنف والانتقام، وإيقاظ النعرات المذهبية، وخصوصاً في صفوف الغالبية السنّية فيه. ما إن يُخرج لواء إلى ساحة الحرب حتى يُعيد آخر إلى الثكنة. كان يختبر التماسك بتكليف ضبّاط سنّة قمع الانشقاق والمسلحين في المدن والقرى السنّية.
ثانيهما، متانة الأجهزة الأمنية وولاؤها للرئيس، وعلى رأسها ضبّاط سنّة كبار لم يعصَ أي منهم على النظام، ولا خطر له الانقلاب، ولا فرّ والتحق بالانشقاق، بل نفذوا المهمات المنوطة بهم، بما في ذلك ما سيق إليهم من اتهامات بالعنف والقسوة.
ولعلّ جردة صغيرة بالأجهزة الأمنية السورية وقادتها السنّة، تكشف صلابة الولاء الذي استمد منه الأسد قوة الدفاع عن نظامه وحماية الجيش من الانهيار، وأبرزهم رئيس الأركان العامة فهد جاسم الفريج، ورئيس المخابرات العامة علي المملوك، ورئيس الأمن السياسي ديب زيتوني، ورئيس الفرع العسكري لريف دمشق رستم غزالة، ورئيس فرع فلسطين محمد مخلوف، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام الإختيار، ووزير الداخلية محمد الشعار، ورئيس خلية الأزمة في القيادة القطرية لحزب البعث حسن توركماني (حامل الملف التركي)، إلى الأركان السياسيين السنّة كنائب الرئيس فاروق الشرع ووزير الخارجية وليد المعلم.