قبل أيام من زيارة الملك السعودي عبد الله بين عبد العزيز للبنان في تموز عام 2010، وقف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري على شرفة «بيت الوسط»، وإلى جانبه وزير الثقافة السابق سليم وردة. التفت الحريري إلى وردة وخاطبه قائلاً: «من المقرر أن أستضيف جلالة الملك عبد الله على هذه الشرفة». ثم أشار بإصبعه باتجاه العقار الرقم 1370 في منطقة وادي أبو جميل، وطلب من الوزير أن تنظفه مديرية الآثار من الأعشاب البرية والأشجار التي نمت بسرعة قياسية، وغطّت ميدان سباق بيروت الروماني الثاني المكتشف في لبنان، بعد ميدان صور، والخامس في الشرق بعد ميادين القيصرية في فلسطين وجرش في الأردن وبصرى الشام في سوريا وصور في لبنان.
ويصنف هذا الميدان الروماني بأنه الأضخم، وترتفع مدرّجاته لعدة أمتار، وتمتد حلبة السباق فيه إلى أكثر من 90 متراً، ولا يزال يتوسطها الحائط الفاصل الذي كان يدور من حوله المتبارون.
عملية التنظيف كانت دونها عقبات عدة، استدعت الحصول على أذونات من رئاسة مجلس الوزراء الذي أحال الفريق المعني في وزارة الثقافة على شركة سوليدير التي ترفض منذ أن انتهت أعمال الحفر في الموقع السماح لموظفي مديرية الآثار بالدخول إليه، تماماً كما تفعل في جميع الحفريات الأثرية التي تقع ضمن نطاقها العقاري.
قصة الصراع بين وزارة الثقافة وسوليدير على مصير المكتشفات الأثرية في هذا العقار لم تنته، رغم قرار وزير الثقافة الأسبق تمام سلام إدخال العقار المذكور على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية في آب عام 2009، وذلك بعد حملة إعلامية شارك فيها أثريون ومهتمون بالحفاظ على تاريخ بيروت. إلا أن سوليدير والشركة المالكة للعقار، «بيروت ترايد»، لم تعترفا بقرار وزارة الثقافة، ولا تزالان تنتهجان سياسة المماطلة في الموافقة على قرار وزارة الثقافة بالحفاظ على ميدان سباق الخيل في موقع اكتشافه، نظراً إلى أهميته الأثرية والتاريخية والمعمارية، على أن يصار إلى تأهيل هذا الموقع وإبرازه وجعله معلماً سياحياً على غرار المعالم الأخرى المحافظ عليها في وسط مدينة بيروت.
إلا أن ما لم تستطع سوليدير تحقيقه في عهد الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري، يبدو أنها نجحت في تحقيقه في عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية، وتحديداً بموافقة من وزير الثقافة غابي ليّون.
وبعد أن جالت «الأخبار» في مشروع تفكيك المرفأ الفينيقي في العقار المملوك من قبل شركة «فينوس» والقريب من فندق فينيسيا (راجع الأخبار العدد ١٥٤٣ الجمعة ٢١تشرين الأول ٢٠١١)، بيّنت وثائق جديدة جرى تسريبها أن الوزير ليون خاطب شركة «بيروت ترايد ش. م. ل.» معلناً موافقته على اقتراح الشركة دمج المكتشفات الأثرية في العقار رقم ١٣٧٠ من منطقة ميناء الحصن العقارية في المشروع المنوي بناؤه في العقار المذكور.
وبناءً على هذه المراسلة وافقت وزارة الثقافة على «دمج كامل الجزء الجنوبي من الآثار في البناء المنوي إنشاؤه، وذلك بإبقائها في مكانها، والموافقة على تفكيك وإعادة تركيب أجزاء الشوطة الوسطية من ميدان سباق الخيل الروماني والأجزاء الشمالية منه ضمن هذا الميناء».
الوزير ليون دافع بشدة عن القرار، وقال في اتصال مع «الأخبار»: «ما قمنا به إنجاز مهم، وهو جاء ليصلح أخطاء شرط سوليدير التي خدعت أصحاب العقارات ولم تبلغهم بوجود آثار فيها قبل شرائها». ولفت إلى أن المديرية العامة للآثار ستشرف على مراحل المشروع كافة، التي تتضمن وضع التصاميم التنفيذية لجميع مراحل التوثيق والفك والتخزين وإعادة التركيب والتأهيل والعرض. وتابع: «خضنا مفاوضات شاقة مع الشركة المعنية بأعمال البناء امتدت لستة شهور، والرؤية المعمارية الجديدة التي قدمت لنا جاءت مراعية للطبيعة التاريخية المهمة للموقع، وجرت متابعة أدق التفاصيل، بما فيها نوعية الشبابيك في الطبقات العلوية لكي تكون متناغمة مع الموقع الأثري الذي سيعاد بناؤه بالكامل تحت البناء المنوي إنشاؤه».
وبمعزل عن مدى صوابية قرار ليّون وعلميّته، إلا أنه يمثّل مخالفة قانونية لقرار وزير الثقافة الأسبق تمام سلام الرقم ٦٣ الذي صدر في ٢٦ آب ٢٠٠٩، والقاضي بإدخال كامل العقار رقم ١٣٧٠ في لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية.
وكان سلام قد خاطب شركة سوليدير في ٢٠ تشرين الثاني ٢٠٠٨ معلناً قرار وزارة الثقافة ــــ المديرية العامة للآثار الحفاظ على المعالم الأثرية في العقار ١٣٧٠ في موقع اكتشافها، بالنظر إلى أهميتها الأثرية والتاريخية والمعمارية، على أن يصار إلى تأهيل هذا الموقع وإبرازه وجعله معلماً سياحياً على غرار المعالم الأخرى المحافظ عليها في وسط مدينة بيروت.
ولم يكن خطاب سلام الأول من نوعه إلى سوليدير. فقد سبق للوزير السابق طارق متري أن أرسل كتاباً إلى الشركة يحمل المضمون نفسه في ١١ تموز ٢٠٠٨، ويؤكد فيه «المحافظة على الآثار في موقع اكتشافها، على أن يصار إلى تأهيل هذا الموقع وإبرازه وجعله معلماً سياحياً».
وكان المدير العام لشركة سوليدير منير دويدي قد خاطب المدير العام السابق للآثار فردريك الحسيني، في أيار عام 2008، لافتاً إلى ما توصل إليه الخبير في الآثار الهولندي هانس كورفرز، الذي اقترح نقل الآثار المكتشفة إلى الحديقة العامة المجاورة للعقار 1370 ميناء الحصن. والواقع أن هذا «الخبير» الهولندي الذي عمل في العديد من حفريات بيروت، بتمويل من سوليدير، أثار موجة من الشكوك بشأن تقاريره والخلاصات التي توصل إليها. ويتبيّن من سجل الحفريات التي أشرف عليها أنها جُرفت كلها لاحقاً، بتخريجات من قبيل «إعادة الدمج» و«التفكيك والتركيب» وغيرها من البدع التي لا تمتّ إلى علم الآثار بصلة، إلا في حال الحفريات الإنقاذية.
لكن مديرية الآثار حسمت أمرها في حينه، ورفضت اقتراح نقل ميدان سباق الخيل، وأوصت بالحفاظ على المكتشفات الأثرية في مكانها، ومن ثم العمل على إعداد مشروع لتأهيل الموقع.
في المقابل، يلفت الوزير ليون إلى أن قرار إدخال العقار في لائحة الجرد العام غير مجد إذا لم يُستتبع بقرار لمجلس الوزراء باستملاكه. ولكن لماذا لا تستملك الدولة اللبنانية ميدان سباق الخيل الروماني؟ يجيب ليون «هذا غير مطروح للنقاش. لدينا أولوية في التل الأثري الفينيقي الذي يقع إلى جانب مبنى جريدة النهار، وسوف أرفع إلى مجلس الوزراء طلب استملاك هذا الموقع لأنه لا يمكن التفريط بالمكتشفات الفينيقية الموجودة هناك، والتي تعود إلى حقبات ما قبل الميلاد».
إذاً، تحت شعار عدم قدرة الدولة على استملاك العقارات في سوليدير، يجري تسويق فكرة «تفكيك وإعادة تركيب الآثار»، بعد أن تترك الطبقات السفلية التي تحوي الآثارات مكشوفة أمام الجمهور، وليرتفع فوقها «برج الذهب»، وفق الوصف الذي بات يطلق على أسعار العقارات في الوسط التجاري لبيروت.
ويضيف ليون: «ما نقوم به إنجاز على الصعد كافة؛ من جهة يجري إقناع صاحب العقار بأهمية الحفاظ على المكتشفات الأثرية ضمن عقاره، ما يعطي العقار قيمة مضافة تزيد من سعره، ومن جهة ثانية يحافظ على هذه الآثار في مكانها».
لكن من يقرر أين نستملك، وأين نقبل بالدمج، وأين لا نقبل؟
أسئلة يحيلها ليون على اللجنة الاستشارية العلمية التي ألّفها وتضم الخبراء: سمير الشامي، ألبير نقاش وحسان سركيس. ويبدو من الواضح أن أعضاء هذه اللجنة قد قرروا في العديد من العقارات اتخاذ قرارات متناقضة مع القرارات التي اتخذتها لجنة علمية سابقة أُلّفت في عهد الوزير سليم وردة وتضم الخبراء: ليلى بدر، جنين عبد المسيح، ندين بانيوت وأنيس شعيا، إضافة إلى لور سلوم وأسعد سيف من مديرية الآثار. يرفض ليون التشكيك في اللجنة العلمية التي ألّفها، ويتّهم موظفين من داخل مديرية الآثار بالعمل سراً مع أخصامه السياسيين من أجل النيل من سمعته. ويختم بأنه أطلع الرئيس نجيب ميقاتي على قرار بخصوص ميدان سباق الخيل الروماني، وأن الأخير «بارك الخطوة».