مثّل دور الجيش في الأزمة التي تعصف بالنظام السوري، منذ سنة، أكثر من لغز محيّر بمقدار ما بدا وصفه سهلاً ومبسّطاً، وهو أنه جيش هذا النظام الذي يمنع تهاويه وسقوط الرئيس أو إرغامه على التنحّي. لم ينخرط في الأزمة إلا متأخراً. في الأشهر الأولى، استعان الرئيس بشّار الأسد لمواجهة حركة الاحتجاجات المتصاعدة بالشرطة وأبعَدَ الجيش، فأطلقت النار على المتظاهرين وفاقمت المشكلة مع تنامي وتيرة النقمة عليها، واجتذابها ردود فعل عربية ودولية سلبية حيال سقوط أبرياء قتلى. سحب الأسد الشرطة من الشارع، وأحلّ محلها قوات حفظ النظام بعد إخضاع فرق منها لتدريب سريع مع تعليمات تقضي بعدم إطلاق النار إلا دفاعاً عن النفس.
بمرور أشهر، دخل جزء من المعارضة، وأخصّها الإخوان المسلمون والتيّارات السلفية، في نزاع مسلح مع النظام، ونجح في السيطرة الكاملة على قرى ومدن، بعضها أساسي، حمل الأسد على الاستعانة بالجيش، وصولاً إلى قراره الشهر الماضي تكليفه حسماً عسكرياً لتقويض بنى متينة كان المسلحون قد نجحوا في إقامتها في حمص، وخصوصاً بابا عمرو، وفي إدلب وحماه والزبداني. وقبل أيام أنهى الجيش جولة رئيسية من الحسم هي استعادته الكاملة، في غضون شهر، الزبداني وحمص وإدلب. في بابا عمرو، قدّر النظام المسلحين بثلاثة آلاف، وفي إدلب بأكثر من خمسة آلاف.
بذلك وضع الرئيس السوري مجدّداً المبادرة في يده، بإحراز نجاح في معارك عسكرية ضارية بأثمان فادحة طاولت المعارضة المسلحة، ولم ينجُ منها السكان رغم سعي الجيش ـــــ على أبواب اقتحام حمص وإدلب ـــــ إلى إخلائهما من الأهالي لشنّ حملة أقرب إلى إعدام جماعي لمسلحي الإخوان المسلمين والتيّارات السلفية والجيش السوري الحرّ والميليشيات الأخرى.
على امتداد الأشهر المنصرمة، راهن العرب والغرب، المناوئان للأسد، على دور كبير للجيش من بين احتمالات شتى تساقطت تباعاً، كالمنطقة العسكرية العازلة المفتوحة في درعا وجسر الشغور وتلكلخ ودير الزور، والمنطقة العسكرية العازلة المغلقة كحماه وحمص، والتدخّل العسكري الغربي الخارجي، وإرسال قوات عربية تارة وعربية ـــــ دولية طوراً. وكذلك الرهان على الجيش السوري الحرّ، فظهر قائده العقيد رياض الأسعد طربوشاً وهمياً لاسم بلا مسمّى، عاجزاً عن إحداث انشقاق جوهري في الجيش. بل لم يعدُ عديد الجيش السوري الحرّ سوى النسبة الأقل بين سائر الميليشيات الأوفر عدداً والأكثر تنظيماً والأفضل تسلّحاً وتمويلاً. وبقي ثمّة احتمال وحيد بحظوظ ضئيلة، هو انقلاب الجيش على الرئيس. فلم يقع.
في حصيلة ذلك كلّه، استعان الأسد بالجيش وكسب جولة مهمة في الحسم العسكري الأخير، من غير أن ينجح بعد ـــــ وقد لا ينجح قبل مرور وقت طويل ومنهك ـــــ في حسم المواجهة الأمنية مع معارضيه المسلحين.
توقع العرب والغرب أحد دورين للجيش السوري: انشقاق كبير في صفوفه يقلب موازين القوى لمصلحة المعارضة بشقيها المسالم والمسلح، أو إقدامه على انقلاب عسكري يطيح الرئيس لإخراج البلاد من مأزق العزلتين العربية والدولية وتمادي الانهيار وإنقاذ ما تبقى من الدولة. نظر العرب والغرب إلى النموذج المصري الذي حمل الجيش على التخلي عن الرئيس حسني مبارك وإرغامه على التنحّي، نظراً إلى أهمية المؤسسة العسكرية وموقعها في معادلة السلطة في مصر: يأتي الرئيس من صفوفها، ولا يُنصّب رئيساً إلا مَن يدعمه الجيش الذي يضطلع بدور مواز للسلطات السياسية، وقادر على حسم النزاع على السلطة، وفي وسعه كذلك فرض شروطه على الرئيس. لم تعرف مصر رئيساً من خارج الجيش. ولم يستطع الرئيس أنور السادات حسم صراع القوى مع الاستخبارات عام 1971 إلا بفضل الجيش. ولم يخلفه مبارك إلا بإرادة الجيش الذي خلعه قبل أكثر من سنة.
خَدَعَ النموذج الليبي العرب والغرب عندما انقسم الجيش بسرعة قياسية، وأوهمهما النموذج المصري بسهولة إطاحة رئيس الجمهورية.
كلاهما لا يصلح في سبيل نموذج سوري.
ليست الحال هذه مع الجيش السوري لأسباب شتى، أبرزها:
1 ـــــ كونه جيشاً عقائدياً وجيش حزب البعث الذي تلقى، منذ وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة عام 1971، تربية عقائدية صارمة جعلته جيش النظام أولاً وآخراً. كان كذلك منذ أن وصل البعث إلى الحكم عام 1963. إلا أنه لم يمسِ جيشاً نظيفاً من صراع القوى بين الأحزاب وكذلك بين الضبّاط الذي راح يُولّد انقلابات تلو أخرى حتى عام 1969، إلا مع تسلّم الأسد الأب السلطة وسيطرته الكاملة على الحزب والجيش وإخلائهما تماماً من معارضيه.
2 ـــــ أمسك الأسد الأب بالجيش بقبضة من حديد. لا يصل إلى مراتب عليا في هرميته إلا الضبّاط العلويون. ولا يرقى سواهم إلا الضباط البعثيون مسيحيون وسنّة. من خارج هاتين الفئتين لا حظوظ للضبّاط بترقية متقدّمة. بالتأكيد لا يدخل الكلية العسكرية ضبّاط من أحزاب مناوئة للبعث، كالإخوان المسلمين أو سواهم. تلعب الواسطة دوراً محدوداً في تزكية ضبّاط رماديين قريبين إلى البعث. لكن ليس أقل من ذلك. أحكم الرئيس السيطرة على إدارات المؤسسة العسكرية، في الأجهزة المتعدّدة للاستخبارات وفي الجيش النظامي.
الأمر نفسه انتقل إلى نجله الرئيس الحالي. لا تتحرّك كتيبة دبابات أو تمر في دمشق، أو من حولها، من دون إذن مسبق من الاستخبارات العسكرية، كي يحمي النظام نفسه من انقلابات تطيحه. فلا تتكرّر سوابق عقود الأربعينات والخمسينات حتى الستينات. تخرج الدبابات والمصفحات فجأة، فيصبح الرئيس في السجن أو القبر.
3 ـــــ رغم أن إقرار دستور جديد أتى، عام 1973، في مرحلة لاحقة من تسلّم الأسد الأب الحكم، إلا أن الجيش أضحى القوة المركزية المعنية بتنفيذ المادة الثامنة من الدستور التي تجعل من حزب البعث قائداً للدولة والأمة. والحريّ أن الجيش ـــــ لا المؤسسات الدستورية والوطنية ـــــ هو الأقدر على وضع هذه المادة موضع التطبيق الفعلي.
4 ـــــ رغم أن الاضطرابات الأخيرة أظهرت حزب البعث ضعيفاً، متراجعاً تحت وطأة الاحتجاجات التي دعت إلى إخراجه من الحياة السياسية بعدما أطبق عليها قرابة نصف قرن، إلا أن تغلغله في الجيش والأجهزة الأمنية والمنظمات الشبابية والجامعات والنقابات عكس انطباعاً مغايراً. لم يكن كرتونياً سوى في تظاهرات الشارع بعدما كثرت أقاويل عن انكفاء الحزب عن تنظيم تظاهرات مشابهة لتلك التي قادتها المعارضة السلمية. عُزي الأمر إلى نصائح لقادته المحليين في المدن بالإحجام عن ذلك تفادياً لظهور الشعب الموالي للرئيس منقسماً بين بعثيين وغير بعثيين.
في خلاصة التظاهرات الموالية الحاشدة، بدت هذه كأنها حزب الرئيس الذي يتسع أكثر من حزب النظام. بالتأكيد لم يكن الجيش ولا الأجهزة الأمنية ولا الحزب بعيدين عن تنظيم تلك التظاهرات، والإيعاز إلى المؤيدين للنظام من موظفي القطاعين العام والخاص والجامعات والمدارس والعسكريين بالنزول إلى الشارع.
كانت الذروة في 7 شباط المنصرم، عندما دعا النظام إلى تظاهرة جمعت مئات الألوف ترحيباً بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في دمشق. كانت إحدى أبرز دعايات دعم النظام والوقوف إلى جانب الجيش رفع شعارات التخويف من عسكرة المعارضة والتفجيرات الانتحارية.
5 ـــــ لم تخفَ على الأسد ثغر أساسية، منذ الأيام الأولى لحركة الاحتجاجات، تمثلت في عدم التنسيق الجدّي بين الأجهزة الأمنية في ما بينها، وبينها وبين الجيش، وعدم اختبار النظام ـــــ لأول مرة في تاريخ سوريا ـــــ حرباً توشك أن تكون أهلية. تارة يواجه الجيش حرب عصابات من شارع إلى آخر، وطوراً يشتبك مع مسلحين مدرّبين ومزوّدين وسائل اتصال متطورة وأسلحة فاعلة في حروب صغيرة، عدا عن تبادل الاتهامات في التقصير وتحميل وزر الأخطاء والمسؤوليات.
بعد أشهر، على أبواب انخراط الجيش في المواجهة المسلحة والحسم العسكري، استعاد النظام تماسك العلاقة بين الأجهزة والجيش، وتنظيم التنسيق وتعزيزه في ظلّ بقاء القرار بيد الرئيس وحده: عودة تبادل المعلومات وتقاسم الأدوار تبعاً للمهمات ووطأتها. تستعير الأجهزة جنوداً من الألوية لتنفيذ هجوم، أو تنيط بالقوات النظامية تنفيذه. في حالات أخرى أكثر تعميماً، يهاجم الجيش المسلحين بآلياته ودباباته ويقوّض بناهم وينهي وجودهم المنظم، تدخل بعده الأجهزة الأمنية لـ«تنظيف» ما تبقى من هؤلاء وشنّ حملات دهم واعتقالات.