سراييفو ــ ضحى شمس«تكبير»، يصيح الشاب ذو البياض السلافي، من على منبر نُصب على عجل أمام مسجد السوق في سراييفو، فيلبّي ألفا شخص، تلفّح بعضهم بأعلام تركية أو فلسطينية، نداءه صائحين بصوت واحد وعالٍ «الله اكبر». يرتعش قلبك لسماع لغتك الأم، العربية، ولو بصيغتها الدينية، في هذا المكان غير المتوقع، عابرة للقارات والحضارات على متن الإسلام. تختلط بشبان وشابات معظمهم غير ملتزمين، تجمّعوا ساخطين لأخبار المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق أسطول الحرية.

تعيد أحداث غزة البحرية فتح جروح سراييفو، أختها في الحصار والهجر الدولي. حوصرت سراييفو الجميلة، ذات القلب العثماني لأربع سنوات. وقبل غزة، اخترعت أنفاقها. «نفق الحياة» يسمّونه هنا. تقترب غزة بحصارها من الرقم القياسي لأختها البوسنية، التي اشتهرت بكونها عانت من أطول حصار في الزمن المعاصر. ولكن ما عدا الحصار والأنفاق، فإن سراييفو لا تشبه إلا بيروت. ليس أي بيروت، بل بيروت ما بعد الحرب الأهلية.
لهذا، كنا هنا. وفد لبناني اختلط فيه النواب بممثّلي الوزارات والقضاء، بمحامين وبأهالي المفقودين: لبّ القضية. الوفد جاء بدعوة من «فريدريتش ايبرت» و«المركز الدولي للعدالة الانتقالية» و«اللجنة الدولية لشؤون المفقودين».
الهدف؟ الاستفادة من التجربة البوسنية التي استطاعت بعد 15 عاماً من نهاية الحرب أن تعثر على 21 ألفاً من مفقوديها الثلاثين ألفاً، محددة هوية 13 ألف رفات، النسبة الأكبر منها عن طريق تحليل الحمض النووي. كل ما تسمعه، تراه أو يترجمه لك عاطف، المترجم البوسني اللطيف، يذكّرك بأدبيات الحرب الأهلية عندنا وما بعدها. كأننا نقرأ في قاموس مشترك رغم اختلاف اللغة: استغراب الطائفية، تأكيد براءة الذات الجماعية، التعايش التاريخي مع من أصبح «الآخر» وعدم تصديق انهياره. الشائعات، في ظل غموض مصير المفقودين، عن سجون سرية يُستعبد فيها المفقودون وتُجرى عليهم التجارب، تسييس الإنساني، الحنين إلى الوحدة، إلى العالم القديم، إلى ناصر يوغوسلافيا: جوزف بروز تيتو. أيقظ البوسنيون صورة موحدهم. الحنين إليه كتوق جارف إلى يوغوسلافيا سابقة، بريئة، مغسولة من خطايا الحرب.
عادت أكاليل الزهر تظهر على مرقد القائد السابق، الكرواتي المتزوج من صربية. وها هو يظهر في السوق العثمانية الطراز للمدينة القديمة، بصور مطبوعة على أغراض تذكارية لتشير إلى مزاج ناشئ. يؤكد لك حارس، سائق التاكسي الاشتراكي الهوى، هذه الملاحظة. «رجل كبير جداً» يقول بإنكليزية يعتذر عن تعثّره بمفرداتها طيلة الوقت. ربما كان فقط سؤاله «لماذا» الأكثر تكراراً من اعتذاره عن سوء تحدثه بالإنكليزية. «واي؟» يسأل باستمرار بعد كل وصف للأحقاد الناشئة بين القوميات المختلفة في بلاده: الكرواتية والصربية والبوسنية. يوافقه إحسان، العائد من صلاة الجمعة في مسجد «علي باشا» خارج المدينة القديمة. بالطبع، يجيب ياسمين بدوره. اسم ياسمين هنا للرجل، وداد أيضاً. أما مؤنث ياسمين؟ فبالطبع ياسمينة. لكنّ الحرب الأهلية وما تثيره قواميس مصطلحاتها في القلوب، تفترق عند خط النهاية عن بيروت. مرة أخرى تختلف سراييفو عن أخواتها العربيات، بفارق غير بسيط: تعطيك البلاد إحساساً بأن جرحها الجماعي في طور الشفاء. الوفد اللبناني، الذي كان يعيش بداية الزيارة كأنها واحدة من زيارات كثيرة يحضرها أعضاؤه في كل مكان، سرعان ما أحسّ أن الأمر مختلف هنا. وإن كنا نعيش ترداد سياسيينا لجمل من نوع «سنفعل» أو «ننوي أن نقوم بكذا»، كنوع من مماطلة عاجزين، أو غير راغبين في الفعل، فإنك هنا تفهم لماذا تبدو كذلك. ففي فدرالية البوسنة والهرسك، الناس، الرسميون خاصة والقضاء، بدأوا يفعلون حقاً. كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح نحو العدالة والمصالحة عبر الاعتراف والندم. الإرادة السياسية المحلية للحل متوافرة، وكذلك الدولية، أو ربما بسبب الإرادة الدولية. هنا في يوغوسلافيا السابقة، التي شرذمت بما يكفي لكي لا تعاود نهوضها كقوة دولية، سمح بالحد الأدنى الذي يحول دون عودتها، وهي في قلب أوروبا، إلى الحرب الأهلية. هكذا، صدر في 12 تشرين الأول من عام 2004 «قانون الأشخاص المفقودين» الذي يؤسس لمبادئ تساعد على تقفّي آثارهم وطريقة إدارة السجلات الرسمية وضمان الحقوق الاجتماعية والحق في المعرفة لأهاليهم ولسائر المواطنين. قانون أدى إلى جمع قاعدة بيانات من أهالي كل المفقودين (82 ألف عيّنة)، وتأسيس معهد فريد في العالم لتحديد هوية الضحايا بالحمض النووي في توزلا، كذلك سمح بإقامة نصب تذكاري في سربرنيتشا، الاسم المختصر لجريمة الحرب التي ارتكبها الصرب هناك بتصفيتهم أكثر من 8 آلاف بوسني وبوسنية تحت سمع وبصر ـــــ ويجزم البعض بتواطؤ ـــــ القوات الدولية المتمثلة بالكتيبة الهولندية وبعض القادة الدوليين أيامها.
غير مسموح بقاء مفقودين أو، بقدر المستطاع، مجرمي حرب من دون عدالة. هنا أيضاً تسمع أهالي المفقودين يشتكون من أن «مجرمي الحرب يرتعون بيننا، منهم من أصبح في الشرطة، ومنهم من يمرّ شامتاً لأننا لا نستطيع أن نفعل له شيئاً». كأنك في لبنان، ولكن مع قرار دولي بالمصالحة. فالبوسنة، كبقية دول يوغوسلافيا السابقة، تطلب القرب من الاتحاد الأوروبي (الأرجح عدم قبول دول فقيرة بعد أزمة اليونان). هنا قرار دولي باستئناف الحياة، عكس بيروت. تسأل نفسك سريعاً: ما فائدة المجيء إذاً؟ فجأة تفهم ما معنى جملة نسيت معناها لكثرة تكرارها: الاعتراف بخطايا الحرب هو طريق الخلاص والوصول إلى المصالحة. هنا، لسبب ما، سمح بذلك. كل شيء يسير إلى ما يحلم به أهالي المخطوفين عندنا منذ أكثر من 35 عاماً، وما نحلم به كمواطنين.
اللغة والإسلام
«ارتحال دار بقاء» هكذا كتب على النعي المعلّق على باب الجامع الجميل والصغير في باحة المدينة القديمة التي أسّسها الوالي العثماني عيسى بك إسحاقوفتش عام 1457. إلى المدينة القديمة، شيّد الوالي مبنى للصوفيين ومركزاً إدارياً سمّاه سرايا، ومنه جاءت تسمية سراييفو، كما يقول بعض المؤرخين. لكنّ الجامع الشهير فعلاً في المدينة هو مسجد وقف «غازي خسروف بيك». تنحني لتشرب من السبيل الذي لا يزال يجري منذ مئات السنين، منذ تأسس الجامع. يقال إن من يشرب منه يعود إلى سراييفو مرة أخرى حكماً. لكن ما هو ثابت أن سراييفو هي من أوائل المدن الأوروبية التي عرفت نظام شبكات مياه الشرب، التي أدخلها العثمانيون في عام 1461 ميلادية، وسبقت بذلك مدينة لندن التي أسست شبكتها في عام 1609 وفيينا في 1839 وموسكو 1878 وباريس 1682.
تقف أمام الجامع الجميل وتنظر من مشربياته إلى المصلّين في صحن الجامع. لا ميكروفونات هنا. لا مكبرات صوت عدوانية. مساجد خشبية مطرّزة الأهداب كما الدانتيل، كنائس متواضعة الحجم توحي بالطمأنينة. كأن أحجامها انعكاس لأديان مطمئنة لا تشعر بالتهديد. لا دور عبادة متورّمة بالسياسة كما في بلاد الحروب الأهلية الطائفية أو التطرف الديني. وعندما تعثر على مسجد ضخم وباطوني، سرعان ما يقال لك إنه جديد أنشئ بأموال السعودية.

كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح نحو العدالة والمصالحة عبر الاعتراف والندم

الانفصال عن الحرف العربي عام 1920 كان أليماً لمسلمي البوسنة خصوصاً

يفتخر سيد علي غوشيتش، مدير دار الوثائق التاريخية لسراييفو، بأن أثمن قطعة في أرشيفه هي «أمر نامة»، وهي وثيقة أصدرها غازي خسروف بك، الوالي العثماني، بحرية المعتقد لكل أهل سراييفو منذ خمسة قرون. اضطر المدير خلال الحرب إلى أن يخبّئ محتويات الأرشيف بعد حريق دار الاستشراق، الذي حوّل ألفي مخطوطة (بعضها باللغة العربية) إلى رماد عام 1992، في سراديب تحت الأرض، جنباً إلى جنب مع عائلته لخمسة أشهر.
الانفصال عن الحرف العربي والتحول إلى اللاتيني، الذي حصل في عام 1920، كان أليماً لمسلمي البوسنة خصوصاً، فالصرب والكروات كانوا يستخدمون الحرف اللاتيني حتى أيام السلطنة العثمانية.
وإضافة إلى الانفصال عن العربية، يروي صديق مؤرخ عن صدمتهم عند تحريم لبس الطربوش: «قبل ذلك كنا كلنا نشبه غوار الطوشي»، يقول وهو يضحك.
العربية هنا مرتبطة بالهوية الدينية، افتقدها البوسنيون المسلمون في الصراع الأخير لأنهم، كما يقول إحسان، «اكتشفوا» الإسلام حين اضطهدوا كمسلمين في الصراع الطائفي الأهلي المفتعل برأيه. يضحك حين يروي لنا حيرة المقاتلين الذين كانوا يدافعون عن المدينة. أرادوا تلاوة بعض الآيات قبل إطلاق النار، لكنهم لم يكونوا حقاً يعرفونها. فهم أولاد الشيوعية، أولاد تيتو. يسأل القائد العنصر: هل تعرف الفاتحة؟ فيرد عليه الجندي: رأيتها مرة! ثم يغرق في الضحك وهو يقول: «كانوا يتلون أي كلام بالعربية يعرفونه مخلوطاً بعضه ببعض، من نوع: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الله أكبر الرحمن الرحيم الفاتحة»، ثم يضحك حتى تكاد تسيل دموعه.


الوفد اللبناني

ضمّ الوفد اللبناني 15 مشاركاً من مختلف الهيئات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، منهم القضاة غادة عون وفوزي خميس والمدّعي العام جوزف معماري، النائبان غسان مخيبر وزياد القادري، والرائد زياد قائدبيه من وزارة الداخلية، ولينا كيليكيان من وزارة الشؤون الاجتماعية، وممثّلو هيئات حقوق الإنسان المعنية وداد حلواني وغازي عاد والمحامي نزار صاغية وسيفاك كيشيشيان عن جمعية أمم للتوثيق، إضافة إلى لين معلوف وبديعة بيضون ممثّلتا الهيئتين المنظّمتين للزيارة «المركز الدولي للعدالة الانتقالية» و«فريدريش ايبرت». وقد استغرقت الزيارة أربعة أيام، كان الهدف منها الاطلاع على التجارب الدولية والمقارنة في شأن إدارة وحل قضية ضحايا الاختفاء القسري في البلدان التي عانت من حروب أهلية