لا ينسى ذلك اليوم في أيّار 1978. كان فتىً يافعاً لكن حاملاً أحلاماً أكبر من قامته بكثير. كانت الحرب الأهليّة مستعرة، وكان النازي الصغير قد بدأ بالصعود الذريع. لم تكن الحرب كما كانت عليه في الثمانينيات: طوائف وزعران وأوغاد يتقاتلون في كل شارع وزقاق. لا، كان هؤلاء موجودين لكن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة شكّلتا انطلاقة شبه مثاليّة في حرب 1975 76. عام 1978 كان صعباً. اليسار عانى التدخّل العسكري السوري الذي أنقذ اليمين اللبناني الإسرائيلي من هزيمة محقّقة. والفساد والبيرواقراطيّة وحروب الاستخبارات بدأت بتبخير الأحلام. لكن هذه قصة رفيق شهيد ورفيقه الشاهد

أسعد أبو خليل*
تبقى مشاهد في مخيّلته. صور لتدريبات ميليشيا كتائب إسرائيل في لبنان. صور دوريّة عن تفجير لمواقع ومكاتب فلسطينيّة في لبنان. الحرب الأهليّة بدأت قبل أن تبدأ رسميّاً. المؤامرة لم تكن غامضة المعالم. فريق لبنان وكّلته إسرائيل لإشعال الحرب. كان صغيراً ويُراقب. لحظ أن صعود الثورة الفلسطينيّة تزامن مع صحيات مشبوهة لأحزاب يمينيّة لبنانيّة. قرأ خطباً خبيثة وتصريحات (اعترف لويس الحاج بأنه كان يشذبها ــــ «النهار» دوماً في خدمة الكتائب) تبث سموماً وفتناً في محطات مفصليّة.
لم يستطع أن يبقى صامتاً. كان يقرأ ما يصله من أعداد لمجلّة «الهدف» وكانت تترك تأثيرها العميق فيه. يذكر أنه كان يتناقش في سن الرابعة عشرة مع صديق لنايف حواتمة حول الدولة الفلسطينيّة المسخ في الضفة والقطاع. كان ذلك أول طلاق فكري بينهما مع أن يساريّته جذبته في سن مبكّرة. كانت «الهدف» تحمل شعارات ساحرة: ثورة وتغيير وكفاح مسلّح وحرب الشعب. أما هو، فقد شاءت الطبقة التي وُلد فيها أن تقبعه مع محظيّين ومحظيّات من نخبة البورجوازيّة في مدرسة بورجوازيّة نخبويّة لا تعلّم إلا مهارت التأقلم مع أميركا. ما كانت فلسطين والثورة تجذبانهم أبداً هناك، إلا قلّة. على العكس: كان دائماً يصرخ فيهم وفي سرّه: هؤلاء لم تطأ أقدامهم (وأقدامهن) المرفّهة أرض مخيّم فلسطيني. يذكر غداة اجتياح إسرائيل في 1978، وهو كان يدعو لإضراب، أن رأى ابنة سليم اللوزي وهي تقهقه. شتمها أمام الناس وشتم أباها. يذكر ذلك اليوم لأنه طلّق فيه تلك المدرسة. كان مسؤولوه يأتون ليأخذوه من الصفوف. قلّة في صفوف سبقته كانت تذهب إلى مخيّم تل الزعتر وتحفر خنادق وتعود إلى الحياة العاديّة. لكن ذلك كان قبل نشوب الحرب، أو قبل أن يشنّ حزب الكتائب وحلفاؤه بالنيابة عن إسرائيل الحرب الأهليّة. فلتتوقّف المزاعم عن نشوب الحرب بالصدفة، وكأن بركاناً تفجّر لأسباب كيمائيّة.
تيقّن أنه لا يستطيع أن يبقى بعيداً. تيقّن أنه سيفكّ أسر مدرسته البورجوازيّة البشعة. كانت الطبقة والمدرسة تشدّان

كان ثوريّاً خجولاً أبعد ما يكون عن التشبيح وعن التباهي الذي خدم عملية تقويض سمعة الحركة الوطنية

باتجاه آخر كليّاً. ذات يوم في عام 1976، غسل شعره بما توافر من ماء شحيح وذهب إلى مكتب جريدة «الهدف» في كورنيش المزرعة. هاله غياب الإجراءات الأمنيّة مع أن العدو الإسرائيلي لم يتوقّف منذ الستينيات عن إرسال الطرود المفخّخة والصورايخ نحو المكتب. هناك كان غسان كنفاني يقضي الساعات الطوال في الإبداع. الإعلام الثوري كان إنجازاً لغسّان، قبل غيره. دخل المكتب من دون أن يسألوه الكثير من الأسئلة. ماذا تريد؟ قال لهم إنه يريد أن يقابل بسام أبو شريف لأمر خاص. طلبوا منه أن ينتظر. جلس على كرسي غير مريح وطفق ينظر في الوجوه. شعر بأنه ينتمي إلى طبقة لم ترسل مقاتلين للدفاع عن الثورة الفلسطينيّة. جاء صبي من بعلبك لا تزيد سنّه عن الثانية عشرة: حمل حقيبة ثياب صغيرة وقال إنه ترك عائلته ويريد أن ينضمّ إلى صفوف الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. لاحظ الرجل (أو الصبي هو الآخر) أن الصبي الآخر لم يلقَ ترحيباً يذكر أو اهتماماً. ترك عائلته وأتى ليلتحق بصفوف الثورة. قال في قرارة نفسه إن المشهد لا شكّ بأنه يتكرّر كل يوم لأن أحداً لم يعره أهميّة. ضايقه ذلك بعض الشيء. دارت عيناه في الغرفة: رأى رسوماً وملصقات ورأى غسان كنفاني بالألوان. شعر برهبة. شعر بخوف. شعر كأنه يقترب من اتخاذ قرار يغيّر مسرى حياته، إلى الأبد. طال انتظاره وسمع دقّات قلبه تتسارع. لعلّه خاف أن ينزع عنه رداءه الطبقي الواقي.



فُتح باب مكتب بسام أبو شريف وهمس في أذنه رفيق أن هناك من ينتظر ويريد أن يتحدّث إليه. دعاه كي يقترب. شرح له أنه أتى كي يساهم في الدفاع عن الثورة الفلسطينيّة ومن أجل قلب النظام الرأسمالي في لبنان. ماذا تفعل في الحياة؟ سأله أبو شريف. ذكر له اسم مدرسة بورجوازيّة نخبويّة يدرس فيها. تغيّرت أسارير أبو شريف وتحوّل تبرّمه الظاهر إلى اهتمام. أشار أبو شريف بيديه إلى الغرفة وفيها صف من المقاتلين، بمَن فيهم ذلك الصبي من بعلبك، وقال ما معناه: القتال ليس لكم. كاد أن يقول له إن القتال من مهمات هؤلاء الفقراء، وإننا نحن نتولّى التفكير. أصرّ عليه أن يعود من حيث أتى وأن يعود إلى مقاعد الدراسة لأن هناك ما هو أهم. انتهت المقابلة مع أبو شريف. خرج الصبي مسرعاً وكأن أبو شريف سهّل له مهمة التخاذل.
لم يعد يذكر كيف كان يفكّر في تلك اللحظة. شعر بأن الوجل من تغيير جذري في مسرى حياته لم يعد قائماً، بسبب عظة بسام أبو شريف. لكنه شعر بالحنق أيضاً. هذا عضو مكتب سياسي في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وكان اسمها يكفي كي يرسله في خيالات ثوريّة مبكّرة، وهو ينصحه بالتنعّم بفضائل البورجوازيّة. كان يبحث في الصحف منذ سن العاشرة عن صور لجورج حبش ولبيانات من الجبهة الشعبيّة. أيلول الأسود ونشاط وديع حدّاد شدّا عزيمته. كان صغيراً جدّاً في حرب 1967 لكنها تركت فيه كآبة (سياسيّة) أو شجناً ثورياً (لا شخصياً) مستديماً لم تزده السنون إلا عمقاً. يحاول أن يخفيه حيناً بالهزل السياسي أو بالمبالغة المصطنعة بالتفاؤل. لكن بسام أبو شريف لم يكن كما كان يتوقّعه. ثم ذلك الصبي من بعلبك. لماذا تُرك من دون اهتمام؟ ماذا حلّ بذلك الصبي من بعلبك؟ لم يكن هناك اهتمام بالصغار من الثوّار. رأى صبياً صغيراً سُمح له بالانخراط في دورة عسكريّة متقدّمة شارك هو فيها في جنوب لبنان. ورأى مرّة «ثائراً» متطفّلاً لم يثق به إطلاقاً في وضع شاذ مع ذلك الصبي. تذكّر يومها أنه قرأ أن تشي غيفارا لم يسمح لمن هو سنّه أقلّ من الثامنة عشرة بالانضمام للثورة.
مرّت سنة، وقرّر أن عليه أن يعود لكن من دون أن يتحدّث إلى بسام أبو شريف هذه المرّة. وكان أن عاد وأصرّ على أن يتحدّث إلى أي كان باستثناء بسام أبو شريف. صدف وجود «سمير أحمد» في المكتب، فأخذه الأخير على محمل الجدّ. أخذ معلومات عنه، أشار عليه بالحزب اللبناني الرديف للجبهة الشعبيّة وطلب منه الانتظار. ومرّت أيّام ثم أسابيع، قبل أن يستوقفه رجل في ملعب المدرسة. كانت تلك الفترة التي تلت التدخّل السوري العسكري في لبنان إلى جانب القوّات المُتحالفة مع إسرائيل. دسّ بين يديه رزمة من نشرة يوميّة ممنوعة بعنوان «الثورة مستمرّة» وفيها نقد لاذع للنظام السوري. لم يكن لديه خبرة في أمور الثورة أو التوزيع ولم يتلقّ تعليمات أو إرشادات. قام بتوزيعها ويذكر كم تلذّذ بالمهمة، وكم تلذّذ بشعور الخطر. ومرّت أسابيع قبل أن يُدعى إلى اجتماع.
هناك في الاجتماع الأوّل دخل في «خليّة» مع «إيهاب» لم يعرف اسمه الحقيقي. يذكر أن حذراً انتاب تعاطيهما في الاجتماع الأول: لكن الوضع تغيّر لأن الخليّة لم تضمّ إلا اثنيْن. وكان المسؤول «سامي» أقرب إلى «إيهاب»، وكانت الخلفيّة الطبقيّة والمدرسة البورجوازيّة السمجة التي كان هو يدرس فيها مصدر إزعاج وحتى حشرية لدى الثوّار. ماذا يفعل بيننا، كان لسان حالهم يقول. لكنه نجح في جذب عدد من أبناء البورجوازية وبناتها وترافق ذلك مع تبرّعات ماليّة سخيّة نسبيّاً لمصلحة الثورة. كان «إيهاب» يحاول أن يحثّه على ما كان يُسمّى «السلخ الطبقي». وعندما كان يأتي إلى الاجتماع متعطّراً كعادته منذ سن سبقت العاشرة، كان إيهاب يتبرّم ولا يخفي ضيقه. مرّة طلب البحث في أمر العطور بصورة رسميّة. لم يتوقّف عن التكرار. العطور أزعجته كثيراً. انتحى به جانباً ذات يوم. بدأ الحديث: «بالنسبة للعطور»، ثم أضاف كلاماً عن البورجوازيّة. لم يرقه الأمر، وأصر بحزم على أنه لن يغيّر عاداته ما دام يقوم بمهماته. لانَ إيهاب في موقفه، وخصوصاً أن عدداً من الرفاق غير البورجوازيّين كان يُصاب بعدوى الخيبة المُبكّرة التي انتشرت في الأحزاب السياسيّة اليساريّة (والقوميّة). هذا لا يعني أن شكوكاً قويّة لم تكن تنتابه، وخصوصاً أن رفيقاً سابقاً («ف») كان يبث الأفكار الفوضويّة (المُقنعة) في أذنيه بصورة شبه يوميّة. لكنه كان يريد أن يثبت لـ«سامي» و«إيهاب» (ولنفسه؟) أنه ليس مثقلاً بالطبقة التي ولد فيها (مع أنه اكتشف لاحقاً أن «إيهاب» نفسه هو أيضاً ولد للفئة ذاتها في الطبقة المتوسطة التي ولد هو فيها).
بدء الاجتياح الإسرائيلي عام 1978 كان حدثاً. منظمة التحرير تحت قيادة عرفات كانت، كعادتها، غير مستعدة. بيروقراطيّة فاسدة انتشرت في جنوب لبنان وسهّلت لصعود حركات طائفيّة معادية للقضيّة الفلسطينيّة، وسهّلت لنفاذ الدعاية الإسرائيليّة إلى أهل الجنوب. عاجل العراقي الماركسي هاشم علي محسن (الذي عانى ستالينيّة جامدة قبل أن يقضي سنواته الأخيرة أقرب إلى أداة في يد النظام السوري) مبكّراً إلى إعلان «جبهة المقاومة الوطنيّة لتحرير لبنان من الاحتلال والفاشيّة». اتصل محسن بالحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي لكن التنظيمَين لم يبديا اهتماماً، ربّما لأن العراقي الماركسي كان يتفرّغ لكتابة كراريس في نقد الحزبيْن الإصلاحيّين ونقضهما (مع أن الحزبيْن كانا يشاركان في مقاومة إسرائيل طبعاً). عندها تقرّر القيام بعمليّة تدشينيّة. يذكر الأجواء يومها ويذكر المزيج من التوتر والابتهاج والإثارة. فُتح باب التطويع. إيهاب كان من المبادرين. يذكر أنه بحث معه في الأمر. كان مرتاحاً. أما هو فلم يكن قد خضع إلا لدورة تدريبيّة أوّليّة تُعطى لزوّار الثورة، لا للرفاق المتفرّغين. لكنه تساءل في قرارة نفسه إذا ما كان يتردّد ويُراكم الأعذار. يذكر عندما رأى «إيهاب» في ليلة. كان مختلفاً. وكأن الرجل قد كبر عشرة أعوام في أسابيع. هل هو الانسلاخ الطبقي الذي يتحدّثون عنه؟ وغاب «إيهاب». لكن لم يطل غيابه. كم تمنّى بعدها لو طال غيابه.
يذكر تلك الليلة وكأنها البارحة. عندما اتصل به «سامي» في الليل قال له باقتضاب وجدّيّة ولكن بصبر رغم فداحة المصاب وكان «سامي» من أعزّ أصدقائه: «تعال إلى المكتب. إيهاب استشهد». «إيهاب؟» أجابه متسائلاً. لم يكن «سامي» يريد أن يطيل، كرّر الاستدعاء من دون أن يفقد صبره، وهو الذي لا يفوّت فرصة كي يفقد صبره. أما هو، فحار في أمره لدقائق فقط. فتش عن ملابسه في الليل على عجل. لم يرق الأمر لوالده فالحرب كانت جارية والربيع كان مثقلاً بأحداث جسام. حاول أن يثنيه عن عزمه، لكنه أجاب بجفاف. طبعاً كان يريد أن يثور ضد كل من حوله، لأنه علم أن «إيهاب» استشهد من دونه، وهو الذي كان رفيقه في «الحلقة» نفسها. كانا يقرآن الكراريس ذاتها ويخضعان لفحوص غير رسميّة في اللينينيّة، وكانا بعد الاجتماعات الطويلة يرتادان الدكّان نفسه في الفاكهاني لابتياع ساندويشات طويلة من أنواع شتّى من اللحوم غير المستساغة عند فئة من الناس: نخاعات على سلاسل على لسانات. لكن «إيهاب استشهد». لم يكن صديقاً لإيهاب، لكنه كان رفيقاً له. رفيقاً حقيقيّاً. وقد عقدا النيّة على المشاركة في دورة عسكريّة متقدّمة في الصيف.
يذكر تلك الليلة. أمسك بأوراق نعي للمرّة الأولى. لم يكن قد رأى اسم إياد نور الدين المدوّر، اسم «إيهاب»، من قبل. أمسك بعدد وافر من أوراق النعي. حمل سطلاً من الصمغ الصناعي الذي أعدّه رفيق متمرّس («سامي»)، وجال في الأحياء. كانت أول مرّة يشعر بالالتصاق الحرفي بالشهادة. لم يكن يدرك أن إلصاق تلك الأوراق والملصقات السيّئة وغير المتناسقة التي كان ذلك الحزب يتقن إنتاجها سيساعده في تقبّل فكرة رحيل رفيق شجاع أبى التردّد. أذكر رفيقاً سخر منه لأنه لم يتردّد. أيذكر بعضكم كم مرّ على تلك الأحزاب الثوريّة من متطفّلين؟ أيذكر بعضكم أفراداً لم تكن ارتباطاتهم خفيّة؟ أتذكرون «ثوّاراً» شاركوا في قتال إسرائيل لكنهم ضايقوا نسوة في القرى الجنوبيّة على طريق العودة أو ضربوا أخواتهم لأنهن ارتكبن فعل حب؟ ليست المرحلة حلوة كما يتصوّر من يراها من منظار الحنين. لكن «إيهاب» كان ثوريّاً خجولاً أبعد ما يكون عن «التشبيح» السائد والتباهي الذي أفادت منه عمليّة تقويض سمعة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة على يد أعدائها الداخليّين والإسرائيليّين.
لم يقل لرفاقه آنذاك إن فشل العمليّة التي كان «إيهاب» و«راجي» ينويان القيام بها ضايقه كثيراً. ليس من أجله هو، بل من أجل رفيقه. شعر أن إقدام رفيق كان يستحق نجاح العمليّة، أو التحضير الدقيق لها على أقل تقدير. وكثيراً ما كان يسأل عمن كان مولجاً بالتخطيط وعن الملابسات التقنيّة والتكتيكيّة. لام بعض المسؤولين. لام تسرّعاً ما. شعر أن هناك من كان يسابق الزمن لإعلان ميداني لجبهة المقاومة. طبعاً، المحاسبة لم تكن واردة في تلك الأحزاب. المحاسبة كانت، إذا ما جاءت، استنسابيّة وانتقائيّة أو سياسيّة لمصلحة هذا النظام أو ذاك. القوات الفرنسيّة المحتلّة في جنوب لبنان هي التي أطلقت الرصاص على رفيقه «إيهاب». لم ينس ذلك. مشهد قوات فرنسيّة يضايقه إلى اليوم، ولو على شاشة تلفزيون.
يذكر عندما زار منزل عائلة «إيهاب» للمرّة الأولى، ويذكر عندما زار مسؤول حزبي رفيق المنزل. كان ذلك المسؤول خلوقاً بعيداً عن تلك الأجواء الصاخبة والفاسدة التي رافقت صعود قيادات فلسطينيّة ولبنانيّة. خطب المسؤول أمام رفاق «إيهاب» الأقربين وأمام أفراد العائلة. وعد بأن الحزب سيقتص من القوات الفرنسيّة وأصدر كلاماً أثار في نفوس رفاقه حماسة. شعروا بأن القيادة ستعدّ العدة للانتقام لإيهاب ولرفاقه وللقضيّة. يعني الصفاقة كانت بشعة ومقزّزة: قوات الدولة التي استعمرت لبنان في الماضي تطلق الرصاص على مَن كان متجذراً في أرضه ومن كان

كلّما تذكّر إيهاب شعر بالذنب: ذنب مَن بقي حيّاً دفاعاً عن... نفسه

يساهم في تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي ومن أعوان إسرائيل. لم ينتقم الحزب لـ«إيهاب». كان الوعد كاذباً. لم يغفر هو لذلك المسؤول كذبته الكبيرة، وخصوصاً أن عدداً من المتجمّعين تطوّع للقيام بالمطلوب («ما المطلوب؟»). لم يعد ينظر للقيادة النظرة ذاتها، وعندما اكتشف أن القيادة تحتفظ لنفسها بمكتب خاص ومنفصل عن المقرّ العام، وأن خادماً يقوم على خدمة المكتب السياسي، بدأ التفكير باستقالته، وخصوصاً أن الكتابات المعادية للينينيّة (ولا سيما من قبل العفيف الأخضر الذي انتهى مُروّجاً للتطبيع مع إسرائيل وللقبول بالاستعمار الغربي باسم العلمانيّة) كانت تفعل فعلها فيه.
يذكر أيضاً، هو ورفاقه الماركسيّون المتعصّبون، عندما جلسوا مرغمين في منزل العائلة إلى جانب شيخ أتت به العائلة لتلاوة القرآن. تلا الشيخ ما تلا ثم أصرّ على التعبير عن وجهة نظره بالنسبة لمفهوم الشهادة. قال ما معناه إن الشهيد هو فقط من يموت دفاعاً عن حياض الدين. جنّ جنونه هو ورفاقه. صرخوا في ذلك الشيخ وأهانوه وشتموه وأصرّوا على طرده من منزل ليس لهم. يذكر أن العائلة تفهّمت موقف رفاق «إيهاب» مع أن المشهد حصل أمام أقارب العائلة وأصدقائها ممّن لا يقدّرون في الشباب الماركسي المتعصّب اندفاعته. يذكر هو أن والد إيهاب ابتسم للمرّة الأولى. تجمّع الرفاق وشعروا بنصر مؤقّت لماركس ضد الشيخ. كانت الأيّام هناك ثقيلة: لأوّل مرّة شعر بمعنى مزاوجة العزاء الخاص بالعزاء السياسي، ولكل منهما واجبات وشروط وطقوس.
لا يعلم لماذا كانت ذكرى «إيهاب» تؤثّر عليه أكثر عندما رحل هو بعيداً. كأن خياراته البورجوازيّة (الصغيرة) أشعرته بذنب أو بتقصير، أو لعلّها ذكّرته بأن «إيهاب» نبذ الطموحات البورجوازيّة الصغيرة. يذكر أن كتاب «مذكّرات بورجوازي صغير» مرّت في وعيه، ويذكر أن رسالة كتاب «وليلهام رايخ» «اسمع أيّها الصغير» لم تكن موجّهة فقط لأعدائهما. خطر له أخيراً أن يمرّ بمنزل العائلة أكثر من مرّة. لا يمرّ بمنطقة برج أبو حيدر دون أن يجول بناظريه بحثاً عن منزل متواضع (لا يختلف عن المنزل المتواضع الذي نشأ هو فيه) دفن فيه أملاً وأحلاماً. لا، سيزور منزل العائلة، وسيتفقّدهم. ربما سيفعل ذلك هذا الصيف. قرّر ذلك، حتى لو لم يذكروه وحتى لو لم تكن الزيارة ذات أثر. كيف لا؟ حضر أول اجتماع حزبي وناقش أوّل كرّاس حزبي وهو جالس بقربه. هو بمعنى آخر أوّل رفيق له. هذا هو المغزى: إيهاب رفيقه الأوّل وشهيده، مع أنه توقّف عن استعمال كلمة «شهيد» و«شهادة» ليس بسبب علماني بل لفساد الاستعمال السائد في لبنان وبذاءته. تغيّر معنى الرفيق بعد «إيهاب»، فقط لأنه اكتسب شجناً.
وعندما يتحدّث في مواضيع الثورة أمام القليل أو الكثير من الناس، غالباً ما يتذكّر «إيهاب». يشعره ذلك بالتواضع الجم. لا، يشعره ذلك بتقصير فظيع. لا، يشعره ذلك بذنب. ذنب من بقي على قيد الحياة دفاعاً عن... نفسه.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)