تكاد تحنّ إلى زمنٍ آخر من الطغاة. ماذا تقول في طغاة دفعوا البعض في الإعلام السعودي للدعوة إلى العودة إلى عهد الاستعمار؟ كان الرئيس السوري الأسبق، أمين الحافظ، ظريفاً على الأقل، وقد وضع خطّة في الستينيات لتحرير فلسطين في أيّام فقط، كان يقولها ويضحك. وكان الحافظ يحفظ عدداً هائلاً من القصائد العربيّة القديمة، وله في كل مناسبة قصيدة. الملك الحسن الثاني كان خطيباً مفوّهاً، يقرأ في التراث الإسلامي كما يقرأ بعض الكتابات اللينينيّة التي يستشهد بها.
التهريج والانحناء سمتان من سمات طغاتنا منذ وصول السادات إلى السلطة، إن لم يكن قبل. لكن القذّافي كان أكثر إيلاماً، ربّما لأنه روّج لنفسه على أساس أنه ثوري ووحدوي ومُنظّر. وأنفق القائد ملايين على نشر صوره وملصقاته وعلى عبادة الغير له. عانى الطاغية القذّافي، مثله مثل الطاغية صدّام حسين، من عقدة عبد الناصر وأنفقا مليارات لتقليده. يمكن القول إنّ جيل الطغاة العرب، جمهوريّين وملكيّين، منذ حقبة السبعينيات، يعاني من عقدة جمال عبد الناصر. هناك بعض الطغاة، مثل الملك السعودي أو أمير الكويت، ممن لا يحلم بأن يقلّد عبد الناصر بسبب الجهل والصعوبة في النطق. لكن صدّام والقذّافي ظنّا أنّ أموال النفظ تستطيع أن تعوّض لهما عن غياب المواهب وغياب الكاريزما وهي لا تُشترى (يُسأل في ذلك آل الحريري). أنفق الاثنان ملايين من الدولارات على شراء المطبوعات العربيّة منذ السبعينيات من أجل التأثير على الرأي العام العربي. لم يكتف صدّام والقذّافي بالحكم المُطلق في بلديْهما، بل أرادا أن ينطلقا نحو حكم مطلق على نطاق العالم العربي. وقد يكون تقارب الطموح بين صدّام والقذّافي سبباً وراء النفور بين الطاغتيْن. القذّافي وصدّام أرادا أن يكسبا حبّ الجماهير، رغم طغيانهما وغرورهما البشع.
فُجع القذّافي مُبكّراً بوفاة جمال عبد الناصر. كان يريد أن يطيعه في الحكم، فوجد نفسه من دون المُرشد القومي. لكن القذّافي قرّر مُبكّراً أن يخلف عبد الناصر وخصوصاً أنّ مسيرة السادات عكست مسيرة سلفه. القذّافي يشبه صدّام حسين في جانب آخر من شخصيّته. الطاغية شخصيّة بشعة في المطلق: لكن أكثرها بشاعة ذاك الطاغية الذي يريد أن يصبح مُثقّفاً ومُفكّراً وروائيّاً. وضع القذّافي ما ظنّ أنّه نظريّة «ثالثة»، وهي عبارة عن ترّهات وهذيان لا يصدران عن عقل راجح. لكن مَن يُخالف أو يهزأ بأصحاب مليارات النفط؟ مَن يجرؤ على أن يصارح الحاكم بأمر الله؟ والقذّافي علِم أنّ صحافة لبنان (كانت) مركزيّة على صعيد العالم العربي، وأنّها ضروريّة لإنشاء زعامته القوميّة المُزمعة. ابتاع عدداً منها، فيما تقاسم صدّام وآل سعود ما بقي منها. القذّافي كان يفرض على من يريد أن يقابله من الناشرين، المُتلقّين لعطاياه، إجراء مقابلات «فكريّة» طويلة جدّاً، أي فرض حوار يدور حول «الكتاب الأخضر»، من دون إبداء علامات السأم القاتل. ساعات من الحوارات المملّة عن تفاصيل «الكتاب الأخضر» وعن تفسيرات عجائبيّة لكاتبها المشعوذ. كتب ومقالات عن «الكتاب الأخضر»، نال كاتبوها عطايا جزيلة. سألتُ الزميل محمود أيّوب، وهو بروفسور مادّة الفكر الديني في جامعة تمبل في فيلادلفيا، عن سبب تأليفه كتاباً بالإنكليزيّة في الثمانينيات بعنوان: «الإسلام والنظريّة العالميّة الثالثة: الفكر الديني لمعمّر القذّافي». ومَن يهتم بترّهات الرجل؟ سألتُه متعجّباً. أجابني بصدق أنّ السبب كان السخاء.
دعم القذّافي إنشاء مراكز أبحاث (وبعضها أصدر كتباً ودراسات قيّمة، مثل معهد الإنماء العربي في بيروت)، على أن تأخذ كتابه على محمل الجدّ. وأقام القذّافي علاقات وطيدة مع التنظيمات اللبنانيّة والفلسطينيّة ــ القوميّة واليساريّة على حدّ سواء. كان يستسيغ كثيراً الجلسات «الفكريّة» والسياسيّة مع جورج حاوي ومحسن إبراهيم، وكان الاثنان ينجحان في مداعبة غروره وفي تصنّع الاهتمام بنظريّاته. كان كلّ واحد من الأمناء العامّين للتنظيمات المذكورة يتلقّى ما يقارب المئة ألف دولار شهريّاً ليتصرّف بها كما يشاء، لا كما تشاء الثورات. والخطيئة الكُبرى كانت في حرب القذّافي في تشاد: عندما طالب القذّافي مُتلقّي عطاياه في الساحتيْن اللبنانيّة والفلسطينيّة بإرسال مُقاتلين «متطوّعين»: لبّى الدعوة إنعام رعد (قد يكون أسوأ من تزعّم الحزب القومي في تاريخه) ووليد جنبلاط وجورج حاوي وأحمد جبريل. أيّ أنّ هؤلاء وافقوا على تحويل مُقاتلين مُنخرطين (نظريّاً على الأقل) طوعاً في حرب أهليّة بأفق وطني تغييري، إلى مرتزقة في خدمة الطاغية الليبي وحروبه العبثيّة. يُسأل من بقي على قيد الحياة من هؤلاء الأمناء العامين عن تلك التجربة القبيحة. يُسأل هؤلاء عن تفسيرهم لأهالي من قضى من مقاتلي الحركة الوطنيّة في حرب القذّافي في تشاد. لكن القذّافي كان أقل غباءً مما تتصوّر (وتتصوّرين): توصّل بعد حرب 1982 (التي دعا فيها زعماء المقاومة إلى الانتحار ــ هل هناك من يذكّره بالنصيحة وهو مُحاصر في قلعته في باب العزيزيّة؟) إلى اقتناع بأنّه فشل فشلاً ذريعاً في شراء زعامة على مستوى عربي. علِم أنّه مكروه ممّن يسمع خطابه، وأنّ شخصيّته لم تجذب إليها غير المتملّقين العرب، ومن يبحث عن ربح سريع (من دون عزّة ولا كرامة). تبرّم العقيد بالعرب وقضاياهم. شعر أنّ العالم العربي، أو شعبه، خذله لأنّه لم يتخذه قائداً له. تقلّب بين الانعزال والدعوة إلى الأفريقيّة. قد يكون غرور القذّافي هو الذي قضى عليه. بدّد مليارات على طموحات لا تتناسب مع محدوديّة دوره، ومع انعدام الجاذبيّة في شخصيّته (مثله مثل صدّام حسين في ذلك).
ولكن أغرب ما في تجربة القذّافي البشعة سيكون إقامة ما سمّاه «الجماهيريّة». وجهله باللغة والتاريخ والسياسة جعله يصرّ على مصطلح «الجماهيريّة»، مع أنّ «الجمهوريّة» هي من الجذر نفسه. ماذا تفعل بالعناد عندما يتزاوج مع الجهل (كما كانت الحالة مع جورج بوش)؟ ظنّ أنّه أكبر وأعمق من كلّ المفكّرين في العالم، وأقنع نفسه وأقنعه من حَولِه، محسن إبراهيم وجورج حاوي وعبد الرحيم مراد وإبراهيم قليلات وغيرهم الكثيرون من المتملّقين، وبينهم مثقّفون ومثقّفات، أنّه توصّل إلى اجتراح نظريّة تتخطّى النظريّات السائدة في العلاقات الدوليّة وفي علم السياسة. أطلق الكذبة وصدّقها، أو أرادنا أن نصدّق أنّه صدّقها: قال إنّه لا يحكم في ليبيا، وإنّ لا منصب رسميّاً له. لم يخجل القذّافي، فيما ليبيا تتملّص من قبضته، أن يحتفل بذكرى إعلان «سلطة الشعب». الشعب يحكم، في ليببا، لا ينفك يردّد. ولكن، ما هذه النياشين المزركشة على صدره، ولماذا جال في الأرض يتحدّث باسم الشعب الليبي برمّته، وأحياناً باسم الشعب العربي؟ إذا لم يكن يحتلّ منصباً رسميّاً في ليبيا، فما هو حكم مواقع أولاده؟ ومن الذي (أو التي) يرصد المليارات لساعدي وخميس ومعتصم وسيف الإسلام وهنيبعل وغيرهم من جوقة الحاكم العائليّة؟ وهذا الذي لا يحكم، أمر بدفع المليارات لعائلات ضحايا تفجير «بان آم 104» لإرضاء أميركا وإسرائيل.
القذّافي كان في سنواته الأولى وحدويّاً متعصّباً، لا يدخل في وحدة إلا يدخل في غيرها، قبل أن يخرج من الأولى، أو الثانية لا فرق. ومن الممكن القول إنّه قد يكون أضرّ بهدف الوحدة العربيّة مثلما أضرّ به حزب البعث، وساهم في الانقسامات العربيّة والقبليّة الليبيّة مثله مثل حزب البعث الذي ــ بعيداً عن شعارات الوحدة ــ أسهم في تعزيز الانشطارات الطائفيّة والجهويّة في كل مجتمع حكمه. القذّافي كان يحاول أن يصبح عنواناً للرفض العربي وللثورة، لكن تهريجه وخطبه السمجة التي لم تشدّ مستمعاً ــ ولا حتى في أعضاء الوفود الرسميّة التي تصاحبه في القمم والمؤتمرات ــ جعلت من شعاراته، مهما كانت، مدار هزل. إنّ نمط القذّافي في الحكم لا يمكن أن يتكرّر بسب فشله الذريع.
نُكب العالم العربي بعدد وافر من الطغاة في أشكال وعناوين وملابس وألقاب مختلفة. الكثير منهم لا يظهرون رجاحة عقل أو توازناً، لكن القذّافي يبزّهم جميعاً في التهريج (لو كان صائب عريقات حاكماً لاستحقّ مرتبة مماثلة). لم يكتف بالقمع، بل أراد القمع على شاكلة أفلام السبعينيات الساخرة من الطغاة. سيُكتب الكثير عن حكم العقيد وعن غرابة أطواره وعن عاداته. ماذا تقول عن طاغية يطلب الحكمة من مريم نور (كما كان السيئ الذكر، رفيق الحريري، يطلب الحكمة منها)؟ ماذا تقول عن طاغية رفع شعارات ضد إسرائيل، ثم استدار ليستجدي الرضى الإسرائيلي على حكمه؟ ماذا تقول عن رئيس يتلقّى الإهانات من حليفه الأميركي الجديد في «ويكيليكس» ولا يجرؤ على أن يعترض؟ تحالف مع أميركا وظنّ أنّها ستقابل انصياعه وولاءه وانحناءه بتقدير وتكريم، لكن زيارته إلى نيويورك في العام الماضي صاحبتها إهانة له ولعائلته. فوجئ العقيد، كما جاء في «ويكيليكس»، عقب التقدير الأميركي له بعدما استدار. ماذا يتوقّع القذّافي؟ حتى الطغاة الذين تمرّسوا لعقود في طاعة أميركا لم يجدوا التكريم والاحترام من الإمبراطور المُتعجرف.
أما الولايات المتحدة، فهي كعادتها، تحاول استغلال ما يجري في العالم العربي لمصلحة إسرائيل، أوّلاً، ولمصلحتها الإمبريالية ثانياً. تقف مشدوهة ومتوتّرة أمام ما يجري في العالم العربي (مع أنّ هناك في العالم العربي من يظنّ إثماً أنّ الانتفاضات العربيّة هي مؤامرة من الخارج. هل هناك مَن يصدّق علي عبد الله صالح؟) إسرائيل وأميركا تحاولان اللحاق بالتطورات، وهما تلهثان وتندبان حظهما. صحيح أنّ أميركا أرسلت وفداً عسكريّاً رفيعاً لطمأنة من بقي من الطغاة العرب، وصحيح أنّ أوباما قرّر، كما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن ينصر طاغية البحرين، مهما كان، لكن معالم الذعر الصهيوني بادية. يقول المؤرّخ الإسرائيلي بني موريس (لماذا لم تستضفه حركة 14 آذار في لبنان، وهي التي دعت قبل الانتخابات النيابيّة كوكبة من عتاة الصهاينة في الغرب من أمثال مايكل توتن ولي سميث وكريستوفر هيتشنز؟). في تعليقه على انتفاضات العالم العربي في مقالة في مجلّة «ناشيونال إنترست» ما يأتي: «إنّ التنبؤ هو دوماً مُجازف وسخيف، لكن ظنّي أنّه بعد أن يخمد الرماد (وهذا سيحدث في غضون شهر أو ثلاثة أشهر) سيرى المرء أنّ المصالح الغربيّة والإسرائيليّة في الشرق الأوسط قد تضرّرت بصورة قويّة، وأنّ المصالح المُعادية للغرب ولإسرائيل ستتدعّم بصورة قويّة». الحكم السعودي لم يغفر لأوباما خطيئة عدم الوقوف مع مبارك إلى النهاية (طلب بالنيابة عن مبارك السماح لقوّاته الأمنيّة والعسكريّة بقمع الانتفاضة المصريّة بالقوّة مهما كان) وليس ذلك حبّاً بمبارك، بقدر ما هو جسّ نبض الى درجة وقوف الراعي الأميركي إلى جانبه هو وجانب سائر الذكور في آل سعود. الحكم السعودي التزم الصمت الرسمي إزاء ما يحصل في ليبيا: فهو مُحرج لأنّه لا يحب القذّافي من جهة، لكنّه يكره إرادة الشعوب العربيّة أكثر بكثير. يرى أنّ ما يحصل لطغاة العرب سيصيب بشظاياه الحكم السعودي، حتى لو صمد النظام إزاء الأحداث الجارية. السعودية تعلم أنّ النظام العربي الرسمي، الذي تشكّل بإرادتها واستمرّ بدعم قويّ من إسرائيل، قد تضعضع.
أميركا تريد أن تحافظ على صدقيّتها (كحامية للطغاة) إزاء الطغاة العرب، إذ تريد أيضاً أن تتقرّب من الجمهور العربي الذي لاحظ أنّ أوباما لم يتفوّه بكلمة ليطالب مبارك بالتنحّي. سنحت الفرصة في ليبيا، وخصوصاً أنّ ليبيا، خلافاً لمصر وتونس، تختزن من النفظ ما يسيّل لعاب المُستعمر الغربي. أميركا لا تريد أن تخرج من «مولد» الانتفاضات العربيّة بلا... نفط. فجأة، عادت الولايات المتحدة وتذكّرت أنّ القذّافي، مثله مثل باقي حلفائها في المنطقة طاغية، يخرق حقوق الإنسان بانتظام. الدولة التي استسلم أمامها القذّافي في 2003، عادت واجترّت انتقادات كانت قد وضعتها على الرفّ بعدما أدخلت ليبيا في منظومتها الإقليميّة للطاعة والولاء. عندما استسلم القذّافي ونسي مطالباته بتحرير فلسطين وزوال إسرائيل، وعندما بدأ بمغازلة الكيان الصهيوني (كان ذلك عندما أرسل وفداً من «الحجّاج الليبيّين» إلى إسرائيل)، نسيت الولايات المتحدة جرائمه وأزالت اسم ليبيا من قائمة الإرهاب الأميركيّة (وإدراج الدول على تلك القوائم خاضع لاعتبارات سياسيّة لا علاقة لها بالإرهاب، إذ أنّ إدارة أوباما ساومت على اسم السودان مع الطاغية السوداني). نسيت أميركا فجأة، بعد تقديم القذّافي للطاعة، أنّه مسؤول عن عدد من العمليّات التي لا يمكن أن توصف بغير وصمة الإرهاب، مثل تفجير «لوكربي» الذي قضى فيه عشرات من طلبة جامعة «سيراكيوز» في نيويورك.
وبادل القذّافي الجميل بجميل من عنده. لم يتوقّف فقط عن مساعدة ثوّار فلسطين بالمال والسلاح، ولم يتوقّف فقط عن تقديم العون الإنساني للشعب الفلسطيني، لا بل إنّه استخدم لوبي «مرموقاً» في العاصمة واشنطن. وأشار اللوبي، عليه وعلى أولاده، بدعوة عتاة الصهاينة في أميركا والكونغرس لزيارة ليبيا والجلوس مع القذّافي. وتوالت الوفود، وعمل واحد من المحافظين الجدد، المتعصّب الليكودي، ريتشارد بيرل، على تحسين صورة ليبيا في أميركا. حتى المستشرق الصهيوني، بيرنارد لويس، لحقته الحظوة القذّافيّة وجلس في لقاء «فكري» مع القذّافي نفسه. توقّف الدعم القذّافي عن الأحزاب اللبنانيّة والفلسطينيّة، وتوقّف المديح لدى قادة التنظيمات لنظريّات القذّافي «العالميّة» (يروي محسن دلول في كتاب ذكرياته طرفة عن سبب توقّف زيارات وليد جنبلاط لليبيا).
هناك ما هو بشع في المشهد المُشرق لتهاوي نظام القذّافي. ترى من خدم القذّافي لعقود، ومن لهج بحمده ومن عمل في أجهزة عائلة القذّافي وهو يعظ اليوم بالحكم الديموقراطي وينطق بالحريّة للشعوب. من المبكّر المطالبة بإبعاد هؤلاء عن الساحة لأنّ المرحلة تتطلّب الصبر الجميل، وخصوصاً أنّ العقيد لم يتزحزح عن كرسيّه بعد. لكن، أن يصبح وزير عدل القذّافي ناطقاً باسم الثورة الليبيّة مُهيناً للثورة الليببيّة ولضحايا القمع السلطوي المُنظمّ. لن تكتمل الثورات أو حتى الانتفاضات العربيّة قبل أن تبدأ مرحلة التطهير ــ لا على طريقة الثورة الخمينيّة ــ طبعاً من أجل تنظيف صفوف الثورة من وجوه النظام السابق ومن المتطفّلين والمتملّقين والدخلاء. إنّ التنبيه ضروري لأنّ أميركا تحاول، حفاظاً على مصالح إسرائيل ومصالحها الإمبرياليّة، المحافظة على النظام المطيع من دون الطاغية السابق.
ينتهي بنهاية عهد القذّافي جيل من الطغاة العرب. لا مكان بعد اليوم للتقليد النافر لجمال عبد الناصر. لن يطلع طاغية يظن أنّه، بأموال النفط، يستطيع أن يصبح زعيم العرب الأوحد. بمال النفط، تستطيع أن تشتري أقلاماً وإعلاماً وضمائر وأبواقاً، لكن لا تشتري جماهير (باستثناء الجماهير الطائفيّة). يستطيع الطاغية بشركات النفط أن يحيط نفسه بفريق من المستشارين الذين يقنعونه بعظمته وبقدرته على حكم العالم العربي على أقلّ تقدير، لكن شيئاً ما تغيّر عند الجيل العربي الجديد. ما عادت المقولات نفسها تنفع. كذبة «نصر حرب تشرين»، التي استعان بها حسني مُبارك في حملته الرئاسيّة الأخيرة، أصبحت تتعلّق بمسألة ترد في كتب التاريخ. الذاكرة التاريخيّة للجيل العربي الجديد هي غير ذاكرة من هرم من الطغاة العرب، ومن كاد أن يمتدّ به العمر رجوعاً إلى الحقبة العثمانيّة. لم تعد مسرحيّات العقيد الوحدويّة في البال، وفشل، رغم كثرة الظهور المسرحي وتنوّع الأزياء، في كسب قلب أحد.
لم يسقط القذّافي بعد، لكن شعبه نجح إلى الآن في إظهار مدى كراهيته واحتقاره للطاغية. قد يكون مشهد تحطيم تمثال «الكتاب الأخضر» في بنغازي علامة الإشارة الى انطلاقة الثورة. القذّافي يردّد كلاماً ماضياً له، أنّ شعبه يحبّه ويفتديه بدمه (كما أخبر كريستيان أمنبور)، لكن طلال سلمان ذكر كلاماً له من بداية السبعينيات يصف فيه الشعب الليبي بـ«الحمير». لا شك أنّ لكلّ انتفاضة عربيّة توقيتها وشرارتها، والمسألة برسم التأريخ. يمكن تقريب وصف تحليلي لشرارات الانتفاضات العربيّة (في مقالة لاحقة)، والحالة الليبيّة ستتطرّق بالتأكيد إلى استدارات القذّافي وهذيانه المُتناقض مع سياساته التي ترسخت في عهد بوش. كما أنّ العائلة الحاكمة التي أسّسها شكّلت إهانة للشعب الليبي، وخاصة أنّه يُقال له منذ السبعينيات إنّه يعيش في «جماهيريّة»، وهي من المُفترض أن تكون أعلى مرتبة من الجمهوريّة. ناء الشعب الليبي بحمل عائلة حاكمة وأفكار العقيد البالية.
بقي القذّافي في الحكم لنحو أربعين عاماً أو أكثر قليلاً، ولم يترك وراءه إلا عذابات شعب خلاق. لم يبق من بنية الجماهيريّة المُتضعضعة إلا الاستخبارات وأجهزة القمع المُتسربلة بأسماء مُستقاة من مصطلحات الشعب والجماهير. حتى الجيش الذي أتى من خلاله إلى السلطة لم يثق به، وأضعفه العقيد ــ وهنا المفارقة لأنّه لم يترك ما يحميه في الحكم إلا عصابات العائلة وعصائبها. ولم ينس الحاكم الليبي، مثله مثل الحكام العرب، التلاعب بالعصبيّة القبليّة وتنميتها. هؤلاء يأتون إلى الحكم ولا يوقفون الزمن: يأخذونه إلى ماضٍ سحيق. التطوّر يخيفهم. قد تكون الانتفاضات العربيّة بداية لشيء أكبر. قد تبدأ ثورات حقيقيّة تطيح الموروث والموجود والمُبتدع. ولكن، متى يقتحمون «الباستيل» في العالم العربي؟ متى تُدكّ الأسوار بقوّة حتى لو خدشت مشاعر ليبراليّي اللاعنف في المنطقة؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)