ذكر رئيس المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي أنطونيو كاسيزي في مطلع تقريره السنوي الثاني أنه يسعى إلى «تقديم ملخّص وجيز لما رآه أبرز إنجازات المحكمة، وإخفاقاتها أيضاً» (صفحة 2). لكن عرضه الغامض لتلك «الإخفاقات» اقتصر على إشارته إلى تأخّر إيداع المدعي العام دانيال بلمار القرار الاتهامي لقاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين (راجع الجزء الأول من هذا التقرير، «الأخبار» عدد يوم الاثنين 6 آذار)، إذ إن الرئيس كان يتمنى انطلاق المحاكمات مطلع 2011 ليتناسب ذلك مع وعود كان قد عبّر عنها في تقريره السنوي الأول، وكان كاسيزي قد وعد بإجراءات سريعة وبكلفة متدنيّة، غير أن تقريره الثاني يشير إلى زيادة في الكلفة ونقص في الموارد (انظر الكادر) وبطء غير مبرّر بوضوح وغير مقنع في الإجراءات القضائية. مشاكل داخليّة
التقرير تضمّن كذلك إشارة غامضة إلى مشاكل داخلية تعانيها المحكمة، إذ ورد في الصفحة 12 «موظفو الغرف (غرف المحكمة) عملوا بنشاط أيضاً في معالجة الطعون في الإجراءات التأديبية الداخلية». هذه الطعون يفترض أن يعالجها قاضي الإجراءات التمهيدية أو دائرة الاستئناف لا «موظفو الغرف». التقرير لا يقدّم معلومات إضافية عن تلك الطعون ولا عن أي إجراءات تأديبية داخلية اتُّخذت منذ انطلاق عمل المحكمة، وهو ما يثير تساؤلات خصوصاً بعد تكرار استقالات كبار الموظفين فيها ومن بينهم رئيسا قلم ومتحدثون رسميون باسم المحكمة ومكتب المدعي العام فيها ومدير دائرة التحقيقات ورئيس قسم العلاقات العامة وأحد القضاة الأجانب.

اختراع الترهيب

لكنّ مكتب المدّعي العام دانيال بلمار، بحسب كاسيزي، «تمكّن من إحراز إنجازات بالرغم ممّا أدلي به من تصريحات معادية للمحكمة تصاعدت فبلغت حدّ الترهيب الواضح والعنف الجسدي في الفترة المشمولة بالتقرير. وقد تعرض شهود للترهيب بطرق عديدة، ففي بداية الربع الأخير من عام 2010، أطلقت عدّة دعوات لمقاطعة المحكمة، وصدرت تهديدات علنية غرضها الحضّ على عدم التعاون معها». لا يحدّد القاضي كاسيزي أمثلة على «الترهيب الواضح» الذي يدّعي أن شهود المحكمة التي يترأسها تعرّضوا له، فإذا كان بعض السياسيين قد رفعوا النبرة بوجه تجاوز المحكمة لمعايير العدالة، أو إذا كان بعض اللبنانيين غاضبين من محكمة دوليّة فُرضت عليهم وتستبيح المؤسسات الرسمية من دون أن يكون مجلس النواب (مجلس الشعب) قد وافق على قيامها وعلى نظامها، فهل يُعدّ ذلك «ترهيباً» أم العكس صحيح؟ أمّا بخصوص «العنف الجسدي»، فلا يفترض أن يستبق كاسيزي نتائج التحقيق بشأنه، احتراماً لمبادئ العدالة. فكاسيزي نفسه ذكر في الصفحة 25 أن «تحقيقاً بدأ في الحادثة داخل المحكمة وأجراه النائب العام التمييزي اللبناني». ولا يفترض أن يحسم أحد، خصوصاً إذا كان قاضياً بمستوى أنطونيو كاسيزي، أنّ الأمر يدخل في إطار «الترهيب» إلا بعد صدور قرار قضائي يؤكد ذلك. لكن الرجل يتناسى على ما يبدو مبادئ العدالة، فيدّعي أنّ الدعوات التي أطلقت لمقاطعة المحكمة هي بمثابة «تهديدات علنيّة». فليتقدّم بشكوى قضائية بحقّ من «أطلق التهديدات» إذا كان كلامه جدّياً وإذا كان واثقاً من حقيقة ادّعاءاته.

مهاجمة الإعلام

«بثت بعض محطّات التلفزيون اللبنانية بطريقة غير مشروعة تسجيلات صوتية لمقابلات سرية مع شهود كانت قد أجرتها لجنة التحقيق الدولية المستقلّة التابعة للأمم المتحدة. ومن الواضح أن هذا البثّ كان يهدف إلى الطعن في صدقية المحكمة وتقويض ثقة الشهود فيها». تتضمّن هذه الجملة التي وردت في تقرير كاسيزي تشويهاً لمبادئ العدالة، إذ إن ما يطعن في صدقية المحكمة وما يقوّض ثقة الشهود فيها ليس بثّ قناة الجديد للمقابلات السرّية بل تسريبها من زملاء دانيال بلمار في لجنة التحقيق الدولية المستقلّة. فلماذا لا يحدّد القاضي كاسيزي صراحة الجهة المسؤولة عن الحفاظ على سرّية التحقيقات؟ أم يفضّل إلقاء اللوم على محطّة تلفزيونية وتحميلها مسؤولية الفضيحة التي كشفت أحد أبرز إخفاقات التحقيق الدولي وفساد العاملين فيه.
«حاول مكتب المدّعي العام منع بثّ مواد التحقيق السرية، مشدّداً على مخالفة هذا العمل للقانون. وبدأ أيضاً تحقيقاً في الأمر لمعرفة الطريقة التي ظهرت بها هذه المواد إلى العلن، والطريقة التي يمكن بها منع هذا الكشف غير المسموح به عن المعلومات في المستقبل. وفي هذا الصدد، طُلبت المساعدة من النائب العام التمييزي اللبناني» (صفحة 25). لكن كاسيزي تجنّب تحديد نوع «المساعدة» التي طُلبت من القاضي سعيد ميرزا. وتجنّب كذلك الإفصاح عن أسباب استمرار البثّ لأسابيع وعجز شركائه في لبنان عن كمّ الأفواه وقمع حرّية الإعلام.

التذرّع بشارل مالك

يدافع كاسيزي عن المحكمة مستخدماً إشارة إلى مفاهيم شارل مالك «الكبير». قال «استند لبنان في طلبه إنشاء محكمة دولية إلى مفهوم في غاية التجديد كان أول من طرحه الفيلسوف والدبلوماسي اللبناني الكبير شارل مالك، (...). ويقوم هذا المفهوم على وجود صلة وثيقة بين المجتمعات المحليّة والمجتمع الدولي». (صفحة 41) وتابع حاسماً أنه «لُجئ إلى المجتمع الدولي عندما تبيّنت استحالة المناداة بمبدأ المساءلة القضائية داخل المجتمع اللبناني رداً على تلك الجرائم بالغة القسوة والخسّة التي ارتكبت في عامي 2004 و2005، وذلك من أجل إعادة السلام والطمأنينة إلى مجتمع ممزّق» (صفحة 42).
قبل التذكير بأنّ شارل مالك «الكبير» هو من طلب تدخّل الجيش الأميركي في لبنان لضرب المناضلين بقيادة صائب سلام وكمال جنبلاط خلال حرب 1958، لا بدّ من التوقّف عند إهمال القاضي كاسيزي حقوق 1191 ضحية وأكثر من 10 آلاف جريح سقطوا خلال الجرائم التي تعرّض لها لبنان عام 2006. ألا يرى كاسيزي الذي يدّعي التزامه مبادئ العدالة دون سواها، أنّ جرائم 2006 «بالغة القسوة والخسّة» وأنّ عدم تحقيق العدالة بشأنها قد يطيح كلّ شيء بما فيه ركيزة محكمته الدوليّة؟



تدنٍّ «شديد» في حجم الموارد

ورد في تقرير القاضي أنطونيو كاسيزي أنه «بالرغم من التدنّي الشديد في حجم الموارد المطلوبة لملاك الموظفين والتعاقد، تمكّنت الغرف من إعداد الغالبية العظمى من الصكوك القانونية اللازمة للأنشطة القضائية في حدّ ذاتها». (صفحة 8). لم يشرح كاسيزي أسباب هذا التدنّي، لكنه أكّد زيادة ميزانية المحكمة عن السنة الفائتة فذكر أن ميزانية المحكمة من 1 كانون الثاني إلى 31 كانون الأول 2010 بلغت 55.4 مليون دولار أميركي. أما الميزانية من 1 كانون الثاني إلى 31 كانون الاول 2011 فتبلغ 65.7 مليون دولار أميركي (صفحة 22). «البلدان المساهمة، بالإضافة إلى لبنان هي: النسما، وبلجيكا، وكندا، وكرواتيا، والجمهورية التشيكية، وفرنسا، وفنلندا، وألمانيا، واليونان، وهنغاريا، وإيرلندا، وإيطاليا، واليابان، والكويت، ولكسمبورغ، وهولندا، ودول إقليمية، والاتحاد الروسي، والسويد، وجمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة، وتركيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وأوروغواي» (صفحة 22). اللافت أن الكويت هي الدولة العربية الوحيدة بين تلك الدول ولا تحديد لـ«الدول الإقليمية»