يعرّفُ النظامُ السياسيّ، وفقاً للمستوى الاقتصادي للمجتمع المدروس، فكما يكونُ الأخيرُ يكونُ الأوّل. فلا استقلال له، إلا بالوهم. التعاملُ مع النظام السياسي كتشكيل مستقلٍّ بذاته، هو تعاملٌ سياسويّ، قائمٌ على مخالفة البديهيات في علم الاقتصاد السياسي، ويتضمن فهماً إرادويّاً فظاً للواقع. هذه حالةٌ شائعةٌ في الفكر الليبرالي. النظامُ السياسيُّ السوريّ، تشكّل وتعمّق، لكونه يُعبّر عن مشروع اقتصاديّ يستند فيه إلى الدولة، وذلك بسبب عجز الرأسمال الخاص عن إيفاء حاجات مختلف شرائح المجتمع المفقرة، وباعتبار الأغلبية من الفقراء. فقد جاء ذلك النظام ليعبر عن حاجياتها، وقام في سياق ذلك بتغييرات في وضعية الاقتصاد الرأسمالي منذ الستينيات، لكن لأنّ السلطةَ (قيادة الجيش) كان لها الدور الأساسيّ، فقد تصرفت بسوريا كمالك حقيقيٍّ لها. ولقيت انطلاقاً من سبعينيات القرن المنصرم، دعماً عالمياً وعربياً، وحالما راحت تعزّز ملكيتها تلك، حاولت فئات طبقيّة التصدي لها. هشاشةُ وتشرذمُ القوى اليسارية والقومية المعارضة، سهّلت على النظام قمعها، ورغم قوّة الحركة السياسية الطائفية ممثلةً بالإخوان المسلمين في الثمانينيات، وقد كانت تعبيراً عن شرائح برجوزايّة تجاريّة، فإنّ طائفيتها سهّلت على النظام قمعها كذلك.
تزامن ذلك مع اصطفاف من الشرائح والقوى الدينية نفسها إلى جانب النظام؛ فانتصر بمعركته تلك، لكنّه لم يعالج آثار الحرب، ولم يُحدث انفتاحاً سياسيّاً، وبقي الاقتصاد مضبوطاً حتى 1991، حين بُدء بالإصلاح الليبرالي المضبوط كذلك، ولصالح قلة احتكارية عابرة للطوائف. دون أن نتجاهل أنّ النظام خاض حرب الثمانينيات، مطيّفاً قسماً من الجيش (السرايا الدفاع)، وذلك بهدف شحنه أيديولوجياً ضد الآخر، الذي هو طائفيٌّ أيضاً، وليسهل له عملية القتل، وهو ما كان له. إلا أنّ أكثريّة الجيش آنذاك كانت من كلّ الطوائف!
يعنينا لاستيعاب ما جرى ويجري، أنّ الأساسَ في فهم ممارسات النظام أنّ طبيعته شمولية استبدادية، وهي نفسها في كلّ ما يفعل؛ فاستفاد من حرب الثمانينيات كلّ من وقف إلى جانب النظام، وبالتالي تطوّرت سوريا، نحو بلد فيه فئات واسعة مُفقرة وفئات قليلة ثريّة، وكلما كانت تقل الأخيرة كانت تكثر الأولى. تزامن ذلك مع سياسات الإصلاح الاقتصادي والإداري، التي هي وصفات ليبرالية لتدمير مكتسبات الدولة لصالح السلطة، وتدمير مكتسبات الفقراء لصالح الأغنياء؛ هؤلاء الذين كانوا فقراء ذات يوم فصاروا أثرياء بعد أربعة عقود، كحال ممثلي الأنظمة الدكتاتورية في العالم... أي أبناء السلطة من الفئات الدنيا في الطبقة المتوسطة، إضافةً إلى الأثرياء التاريخيين. كل ذلك كانت نتيجته الثورة العارمة منذ 15 آذار 2011.
إنّ تكوّن النظام السوري كنظام استبداديّ مغلق في السبعينيات، دفعه إلى تحصين نفسه أمنيّاً، بما يمنع أيّ اختراق لبنيته الهشّة، فاستقدم قادة الأجهزة الأمنيّة من الطائفة العلويّة بسبب الولاء، لا بسبب الطائفية، أمّا بقيّة أبناء الطائفة فهم كسواد الشعب السوري، لكن كثرتهم ــ القادة ــ في ذلك المقام، سهلت للنظام نشر دعاية واسعة تفيد أنّ النظام علويّ، وهكذا رآه بسطاء السوريين، وهذا ما سمح للتجار والصناعيين وأصحاب الأعمال من الطائفة السنيّة باعتبار أنفسهم بلا مسؤولية عن حالة الإفقار، بل والاستبداد، باعتبار رأس النظام والأجهزة الأمنية هي الحاكمة.
وهذا صحيح بالمعنى الأمني والعسكري فقط، لكن النظام السياسي بأدواته السياسيّة والإيديولوجيّة، يمثل الطبقة البرجوازية المسيطرة على اختلاف شرائحها، وهذا ما يجب عدم إغفاله والتنكر له، كما في كتابات كثير من المتابعين للشأن السوري. هذه الشرائح، أفسدت مؤسسات الدولة ونهبتها، بفضل السيطرة الأمنية. وقد حصدت الأرباح المَهولة، من بداية التسعينيات على نحو خاص، وعلى نحو أكبر مع مطلع الألفيّة الجديّدة؛ فاستفاد التجار وأصحاب رؤوس الأموال استفادةً عُظمى، ودون أيّة ضوابط أو ضرائب تذكر، ليحصّلوا بذلك أرباحاً عزّ نظيرها.
نكثف هنا: الاستبدادُ شموليٌّ والرقابةُ معدومةٌ والغطاءُ الدوليُّ للنظام متوافرٌ والمعارضةُ كالنظامِ ليبرالية، إلا ما ندر ــ حالة ناشطي مناهضة العولمة ــ وبالتالي تكرّسَ النظامُ كنظام استبداديّ ومفقر للناس على نحو استثنائيّ.
كان من الواضح، أنّ تغييرَ السياسات الاقتصاديّة يأتي ضد الطبقات الدنيا من الطبقة المتوسطة وفقراء الفلاحين والعمال وطلبة الجامعات والعاطلين من العمل بالتأكيد، وقد شهدت المدن الكبرى من جراء ذلك، تطوّراً ملحوظاً فتعاظمت ثروات الأثرياء وتغيّرت أساليب عيشهم وصارَ دورهم واضحاً في مختلف القرارات الاقتصاديّة الخاصة بالإصلاح الاقتصاديّ والاستثمارات، وتزايد العمل في التجارة والسياحة والمصارف؛ فكان النظام السياسي وضمنه كبار ضباط الأمن والجيش شركاء في كلّ ما يحصل، لكن من جهة أخرى، ترسّخ الفقر بين صغار الضباط والمتطوعين، وشهدت سوريا في أواخر التسعينيات تسريح العديد من الضباط ومن مختلف الطوائف، ومن ضمنها الطائفة العلوية، بسبب وجود فرص عمل جديدة آنذاك، وهي نادرة.
إلا أنّ الفقر بقي السبب الرئيسيّ لانخراط الشباب العلويين في سلك الجيش والأمن، ولا سيما أنّه لا تتوافر فرص عمل في الدولة من أصله، عدا غياب أيّة مشاريع استثمارية في المناطق الساحلية. هنا من الملاحظ، غياب أيّة مشكلات ذات طابع طائفيّ في سوريا، بدءاً من نهاية حرب ثمانينيات القرن المنصرم، مع وجود حساسيات دينية، تعد أقل من طبيعية، وهي من عاديات الاختلاف المذهبي، وهي ذاتها قبل الحرب وبعدها.
مع بداية الثورة، في 15 و18 آذار، فَهِمَ النظامُ أنّ معركته الأخيرة مع الشعب، قد اقتربت هذه المرة، وتَلوحُ في الأفقِ ثورةٌ عارمة كحال الدول العربية، فأفرد على طاولة المواجهة أوراق الثمانينيات الدامية، دون أن يميّز بين تلك الفترة و2011 وبَدء الشحن الطائفي، قبل أن تنفجر البلاد وحينها لا ينفع التأخر... هنا شهدنا في مختلف المدن ذلك التجييش المقيت، فتمّت الاستثارة الطائفية، عبر التركيزِ الإعلاميّ على «عصابات سلفيّة» تذكيراً بالثمانينيات، والقصد منها أنّ السنّة لا الإخوان المسلمين فقط، قادمون لبناء دولتهم الإسلامية، وسيكون مصير الأقليات الاجتثاث، وخصوصاً العلويين. وبدأ النظام يستثير الأحياء العلوية ضد الأحياء السنيّة، والعكس صحيح، مدعياً أنّ الآخرين قادمون لتصفيتكم. وكان القصد الوحيد من فعل ذلك هو دب الخوف الطائفي والذعر، وبالتالي الاصطفاف خلف السلطة، ولا سيما في ما يخص الأقليات. إنَّ كثيراً من موظفي الدولة البسطاء، ومن مختلف الطوائف كانوا يوجّهون إلى ضرب المتظاهرين السلميين، لكن مع تطوّر الوضع، وعزوف الكثيرين عن ذلك بسبب رؤيتهم بالعين المجردة سلمية التظاهرات، انكفأ الكثيرون عن ذلك، وبقي فقط من استطاع وسطاء النظام تجنيده. مع توسّع التظاهرات طوّر النظام أدوات قتله، فاستبدل الموظفين البسطاء بالشبيحة القتلة، وهي فئةٌ مدربة على القتل والسلب والنهب، وتفعل ما تؤتمر به، ولا يردعها رادع، ولعب على الطائفية لديها.
رغم اشتداد الثورة، بقيتِ المدنُ الكبرى بلا حركة فعليّة، ليظهرَ أنّ زخم التظاهرات الشعبية متمركز في المناطق الأكثر فقراً في سوريا، ليس بسبب أنّها من طائفة محدّدة كما يزعم عقل طائفيّ مؤيّد للثورة السوريّة، بل بسبب عامل الإفقار والقتل، وذاكرة الاستبداد المقيم عندهم هذا من جهة. ومن جهة أخرى، استطاع النظام بقوة الخوف وبالقوّة الأمنيّة أن يمنعَ أيّة ملامح اعتراضية عند الطائفة العلوية؛ فكل محاولة منها للتظاهر كانت تواجه بعنف لا محدود، علماً أنّها شاركت في الثورة منذ بدايتها، وفي مختلف التظاهرات في سوريا، لكن مع تطور القتل والعنف، والتسليح لاحقاً انكفأت إلا من بعض الناشطين؛ فالمناطقُ الثائرةُ هي مناطقُ الفقراءِ والشهداء، وقد عُزلت الأحياء بالمدن، وتمركزت الدبابات وسيارات الأمن وجموع الشبيحة في الشوارع والساحات والشوارع الرئيسية، فصار من الصعوبة بمكان أن يشارك العلويين أو المسيحيون أو غيرهم في التظاهرات، ولم يتوانَ النظامُ لحظةً واحدةً عن نشر الدعايات الإعلاميّة عن الثورة باعتبارها سنيّة...
الرد الطائفيّ للمتظاهرين كان في حدوده الدنيا، وحتى حينما انفلت الوضع في مدينة حمص، لبعض الأيام، في أكثر من فترة، فقد جرى ذلك بموافقة النظام غير المباشرة للإعلاء من التسعير الطائفيّ. المذابح القذرة في كرم الزيتون وعشيرة في أحياء حمص المنتفضة، ومروراً بكل المظاهر التي تقترب من الطائفيّة، لا تغيّر من فكرتنا السابقة. نعم، بقيت ممارساتُ المتظاهرينَ أقربَ إلى الثورة الشعبية؛ فالطائفية منبوذة، وهي أداة من أدوات السلطة، والثورة تعي خصمها جيداً.
التحديد الدقيق للثائرين، أنّهم يدشنون التاريخ السوريّ الجديد، بثورة شعبيّة لإسقاط النظام، لكونه نظاماً استبداديّاً وظالماً ومفقراً وقاتلاً، وليس بكونه نظاماً علويّاً أو يمثلُ طائفةٍ بعينها.
لن نحكمَ على المستقبلِ، لكن من مجريات ما يحدث، وما حدث خلال عام من عمر الثورة، نقول: إنّ المنتفضين يميزون بين النظام والطائفية، ويعون أنّ الطائفيّة أداةٌ سياسيةٌ استخدمها النظام لإيقاف الثورة، وقد كلّف كلّ ذلك شهداء كثراً وأحياناً قتلاً مترافقاً بعبارات طائفيّة، وحينما تُستخدم فهي ردُ فعل، أكثر مما هي فعلٌ مقصود، لكن لم يكن لذلك أن يتم لولا وجود النظام كنظام شمولي إفقاري، قبل الثورة وإلى الآن.
* كاتب سوري