يتساءل دبلوماسي أوروبي رفيع مرّ في بيروت قبل ساعات، كيف يمكن لتسعيني أن يكون في صفاء ذهني كامل، وذاكرة متقدة تراكم الأيام ولا تفقد أياً منها. فيكشف عن زيارة قام بها هنري كيسنجر قبل أسبوع الى مدينة سان بطرسبورغ الروسية. كان في سياحة عائلية، مع أولاده وأحفاده وعقوده العمرية التسعة من الخبرة والتجربة ومعرفة التاريخ. بين ساحات «ليرميتاج» ومشتقات «البالوغا» كلها، كانت مع الجولة السياحية جولة أكثر إثارة في قراءة الغد على ضوء أمس منبثق من عيني السياسي الأميركي الدارس أطروحته الجامعية على مترنيخ وزمن بسمارك.
كيسنجر قلق، يقول. يقرأ أحداث منطقتكم على أنها زلزال لمّا تهدأ هزاته الارتدادية بعد. «إنها الثورة الإسلامية الكبرى»، كما يسميها، في إشارة الى الثورة العربية الكبرى في القرن الماضي. لا يتبحّر أكثر في التفاصيل. لكن غمزه واضح: في العقد الثاني من ذاك القرن كان ثمة غليان إسلامي أوروبي في الجزيرة وما حولها، لمواجهة الامبراطورية العثمانية. في النهاية اتفق الشريف حسين مع لندن وأطلق الثورة. بعد أعوام خذله الغرب وغدر به الاستعمار الأوروبي، فقام نزاع بين فكرته العربية للثورة، وبين الفكرة الإسلامية الأصولية الوهابية مع آل سعود. انتصر الأخيرون، وأيّدهم الأوروبيون، وانتهى حلم الثورة العربية الكبرى...
لا يطرح كيسنجر قراءة تاريخية آنية متوازية، لكن إشارته كافية للتوصيف. قال لمضيفيه في مدينة بطرس الأكبر: أخشى أننا في واشنطن قد أخطأنا مرة أخرى. بدليل ما نراه في ليبيا وحولها. أنا بتّ أعتقد أنه حتى القذافي كان أفضل من الذين ثاروا عليه. ماذا يحصل الآن هناك؟ إنها الفوضى الهدّامة والمتفجرة بأبشع صورها. وهي قابلة للعدوى، ها هي لوثتها الأولى في مالي. ما يجري في باماكو ليس انقلاباً ولا ثورة ولا أي شيء من هذا القبيل. إنهم السلفيون الإسلاميون يتسلّمون الحكم بكل بساطة. قد تكون المسألة بداية طالبانية جديدة في قلب أفريقيا. لا يتردد مستشار نيكسون ووزير خارجيته في الاعتراف: أعتقد أننا نتجه الى هزيمة جديدة ومخاطر كبيرة في كل المنطقة.
تسأل الدبلوماسي الأوروبي هل لدى الثعلب الأميركي العتيق أي تفسير إذن لسياسة واشنطن هذه؟ يجيبك فوراً من عنده: لا لزوم لسؤال كيسنجر عن ذلك. قبل أسابيع قليلة كنا في مؤتمر بحثي مغلق في واشنطن. سألت وزيرة سابقة للخارجية الأميركية: كيف تجرأتم على القيام بهذا التانغو مع الإسلاميين؟ أجابت: كنا أمام خيار من اثنين. إما أن نستمر في دعم حلفائنا الديكتاتوريين في الحكم، ما يؤدي الى غليان إسلامي متزايد صوب انزلاقات أكثر أصولية على الطريقة البنلادنية، مع توجيه حقد هذا الغليان ضدنا وضد اسرائيل في شكل خاص، وإما أن نأخذ المبادرة فنحاور القسم الأكثر اعتدالاً من هؤلاء، ونعدهم بالمساعدة على تسلم الحكم الآن. بعدها يصيرون هم في صراع مع أجنحتهم الأكثر تشدداً وتطرفاً، ونربح عقوداً إضافية من الأمان الاقتصادي والأمني في مناطقهم، في انتظار نتائج هذه التجربة الاحتكاكية الجديدة والمباشرة للإسلام مع الحداثة والديموقراطية. وبين الاحتمالين، كان ثمة عامل حسم لاعتماد الخيار الثاني والتخلي عن الأول، وهو النموذج التركي. يتابع الدبلوماسي الأوروبي: لقد أقنعهم إردوغان بشكل كامل بأن نموذجه قابل للتعميم، وأنه هو من يرعى تلك الحركات في الدول المحيطة، ويشكل قطبها الجاذب، وبالتالي لا ضرورة لأي تردد في اتخاذ هذا الخيار.
لكن الدبلوماسي نفسه يكشف أن كيسنجر قال لمحاوريه قبل أيام: خطورة الأمر الآن أن إردوغان على ما يبدو في حالة صحية سيئة جداً. أطباء واشنطن المتجسسون على وضعه لصالح السلطات الرسمية، أكدوا أنه بات في مرحلة متقدمة من مرض السرطان، الذي بات متفشياً (Metastases)، حتى أن كيسنجر كشف لهؤلاء أن واشنطن منكبة اليوم على دراسة وضع تركيا بعد إردوغان. وهي تخشى المجهول هناك. فبحسب كثيرين ستكون أنقرة بلا علمانيين قادرين على استعادة وضع ما قبل وصول «أ كا بي» الى السلطة، وبلا «أكابيين» موثوقين لمتابعة الدور المطلوب داخلياً والمهمة الموكلة إقليمياً. ماذا سيحصل هناك؟ زعزعة؟ انقلابات؟ بداية تبلور كردستان الكبرى التي يضع الأربيليون خريطتها ويشرحون مساحتها الأربعمئة ألف كيلومتر مربع وسكانها الستين مليوناً؟ إنه المجهول فعلاً، بعد السقوط الثاني للامبراطورية العثمانية، بالتزامن مع ثورة ثانية كبرى، مجهضة أو مسروقة. ثمة قدر كبير في كل ذلك، هو قدر مواجهة ما كتبه الكولونيل تشرشل، وعاد وكرره إسحق بيرد قبل قرن ونيف، نقلاً عن حاكم عثماني في دمشق، من أنه لا يمكن لتركيا أن تحكم سوريا إلا بقصم ظهر المسيحيين... أمس عُلق على خشبة، غداً حقاً قام.
11 تعليق
التعليقات
-
جنووووووون انت باسل عقلجنووووووون انت باسل عقل فذ نياله أردوغان فيك! مقال جميل وتعليق أحلى
-
منطق تاريخي!المقال جيد بلاشك، ولكن القارئ "باسل" صاحب "الأردوغان من نيسان" هو من أغناه بالتفاصيل الضرورية! شكرآ للاثنين!
-
شكرا..و ذاكرتك مالها ...
-
شو ما عم يجيكون غير تعليقاتشو ما عم يجيكون غير تعليقات مؤيدة؟
-
الأردوغان من نيسان! 3-هذا الإرهابي صار كل العالم ووسائل إعلامه يعرفون ويعترفون أنه يصدر أسوء أنواع عصابات القتل والنهب والفوضى إلى داخل سوريا بعد أن يدربهم خبراء الإرهاب في حلف الناتو -الذي هو عضو فيه يا بعض "الأذكياء"!- الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين في معسكرات داخل بلده,إلا هو ينفي علمه بذلك متفجعا على "المتظاهرين السلميين" في سوريا! -فإذا كان هذا الفاشل اللاهث وراء رضا أميركا والإتحاد الأوروبي الذي إن تعاطف كذب وإن هدد وتوعد ووعد أخلف هو "رب البيت الضارب بالطبل" في الأدوات الذين جمعتهم أميركا في اسطنبول وسمتهم "أصدقاء سوريا" فهل من الضروري النزول مثلا إلى أسفل السافلين حيث أمثال "الخائن العام" للجامعة العربية وهو يمسح كلامه ومقررات جامعته البائسة قبل ساعات فقط من اجتماع اسطنبول عن الحل والحوار مطالبا بالبند السابع؟! أو حتى أسوء –وهنا القعر- هل من الضروري تقييم “معارضة" اسطنبول" بعدها أو شرح مفرداتها؟! أعان الله سوريا على بلواها بهكذا "أصدقاء" ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-
الأردوغان من نيسان! 2-هذا ... كان في مصر "ينصح" الإخوان بفوائد تطبيق العلمانية ونبذ الطائفية بأسلوب أغضبهم عليه,وعندما عاد إلى بلاده تكلم بأبشع لغة مذهبية تحريضية فيما خص سوريا والعراق وحتى داخل بلده! -هذا ... باع دماء الشهداء من أهل بلده وأعطى تعليمات للمدعي العام التركي بتجميد كافة الإجراءات القانونية ضد المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين الضالعين بمهاجمة سفينة "مافي مرمرة" التي كانت ضمن أسطول الحرية التركي لكسر الحصار عن غزة (أين وعوده لغزة عن قوافل قادمة محمية ببوارجه!) -هذا ... خذل من لجئ إليه هاربا من الوضع الذي سببه مسلحوه فاستبيحت أعراضهم في مخيمات اللاجئين بعد كراماتهم حين حبسهم وقيد حريتهم كالأسرى في السجون (واسألوا اللاجئين اللبنانيين والعراقيين والفلسطينين إلى سوريا كيف عوملوا بالمقابل؟) -هذا ... صدع رأسنا من كثر ما كرر عن أن الشأن السوري شأن داخلي تركي بسبب الحدود الطويلة وصلات القربى والتاريخ بينما تناسى أنه بلع لسانه الطويل السليط عندما كان العراق -وله "نفس" الحدود والصلات مع تركيا- يتعرض للاجتياح الهمجي والتدمير من قبل حلف الناتو الذي هو عضو فيه! -هذا الدكتاتور الذي تضج سجونه بالأبرياء والمطالبين بحقوقهم والصحافيين ويمارس أبشع أنواع الإستبداد والقتل بحق الأكراد وغيرهم!,يتجاهل رفض القسم الأكبر من المعارضة (وربما من الشعب) تدخله كأداة في الحرب الأميركية على سوريا!
-
الأردوغان من نيسان! (معدلة)يستحق هذا الشخص على الأقل أن نبدل إسم يوم في السنة من أجله ,ولو أن علاقته أفضل بقليل مع مجلس الشيوخ الفرنسي الذي يبتزه ويذكره بمجازر أجداده العثمانيين ضد الأرمن كما ابتزه منذ سنوات الكونغرس لنفس السبب وكأن فرنسا وأميركا لم يرتكبوا أية مجازر ضد الإنسانية تستحق الإعتذار!,ما علينا الأن,لكنا طلبنا من فرنسا إبدال الإسم الذي تطلقه على هذا اليوم (poisson) بإسمه! لماذا؟,لأنه أول الدمى وأهمها وأكبر الأدوات وأخطرها في الحرب الأميركية الإسرائيلية الغربية على سوريا وشعبها وخصوصا بعد أن نأت الإدارة الأميركية عن الواجهة (ظاهريا طبعا أو تأثرا بلبنان ربما!) بدوافع الإنتخابات والفشل في تحقيق الحسم مما يحرجها داخليا,لكن لا مشكلة عند رجب أردوغان وصفره للمشاكل كما يبدو!.. لأننا إذا تجاوزناه لغيره من الدمى والأدوات الأميركية فإننا سنضطر للنزول أو السقوط بالأحرى سقوطا حرا لعدة دقائق قبل الوصول إلى خادم الحليفين اللا شريفين (أميركا وإسرائيل) وبعد هذا النابغة وأخيه المرتعش يأتي الحمدين "للثورات والغاز" وبعدها نزولا إلى حيث "فراطة" الدمى بلغة الصيارفة أو "كسر" الأدوات بلغة تجار قطع السيارات! مثل "أونتان" (هوائي) مكسور صدئ هنا و"زهرة البربارة" يحاول قطفها "غرندايزر" هناك!...الخ -هذا ... كان وصل إلى 800 ضحية للأحداث في سوريا بينما مرصد رامي للكذب كان يقول أن العدد 500 في بداية الأحداث! -هذا ... كانت وزارة الدفاع الأميركية تنفي علمها عن قصف بوارج حربية سورية لمخيم اللاجئين في اللاذقية صباحا بينما كان هو يخطب بعد ظهر اليوم نفسه متهما الجيش السوري بذلك!
-
لوالله موضوع رائع يتمتع بالمصداقية وشكرا استاذ جان عزيز
-
ظلمات غير شفيفةماعاد هذا المفكر السياسي مفكرا ًلأمر بسيط: لم يعد من المجموعة الحاكمة فلا معلومات إذن .. احتضر مثله مثل غيره من زمن طويل.. كل الأحداث الآنية نابعة من الرغبة في العودة الى أنامل استعمارية تساعد الغرب على تجاوز أزمته المالية . فكر متقدم كومبيتر وأزمة البطالة .الأمر المطروح اليوم أزمات في العمل والاقتصاد والأهم في الفكر ...
-
لا تنغش يا استاذ بالمظهرلا تنغش يا استاذ بالمظهر الخارجي .. اردوغان ادخل تركيا في اسوا وضع امني و اقتصادي و استراتيجي في تاريخها .. من سياسة تصفير المشاكل الى فتح عداوات مع الكل في الداخل و الخارج .. مع الجيش و انصاره العلمانيين . و مع القوميين المتعصبين , و مع الاكراد في داخل تركيا و عبر الحدود , و مع حوالي 15 مليون علوي ضاقو ذرعا بتحريضه الطائفي , و مع التجار و الاقتصاديين الذين خسرو المليارات من ارباحهم بسبب حربه على سورية .. حتى بعض كبار الاسلاميين بدات تصدح اصواتهم اعتراضا على الانحياز لحلف الناتو و اقامة درع صاروخي لامريكا على الارض التركية .. اما خارجيا و هو الاخطر على الامن القومي لتركيا فلم يترك له صاحب على حدوده المحاصرة بالخصوم من سوريا الى ايران الى العراق الى روسيا الى ارمينيا الى قبرص وصولا الى الصين و الهند و دول البريكس من دون ان ننسى القطيعة مع فرنسا بسبب قانون الارمن .. يا حرام لو شفتو كيف كان قاعد الزلمي قدام خامنئي مثل التلميذ قدام معلمه ..اما وزيره (عنتر) اوغلو فعشوي رح يترجاه لصالحي من اجل اقامة ايران مباحثاتها النووية مع الدول الكبرى على اراضيه و اعطاء تركيا هذا الدور (ينقل ان احد قادة الحرس الثوري اهانه بتحذيره اياه من المغامرة مع سورية و قال له ’’انت جيشك 400 الف و نحنا جيشنا 4 ملايين فلا تفكر باللعب مع سورية’’ ) .. و الله العظيم رق قلبي و شفقت عليهم