دمشق | في حيّ باب توما الدمشقي الأثري القديم، يتجاور جامع بني أمية الكبير، مع عدد من الكنائس، التي تعود لكافة الطوائف المسيحية، ويبيع صاحب أحد متاجر العطور وقطع الأنتيكا، صوراً للثائر الأممي الشيوعي تشي غيفارا، مقابل محل تجاري آخر، علق صاحبه صوراً للسيد حسن نصر الله، وعلماً لحزب الله. وسط الشارع الضيق المؤدي إلى مقهى «النوفرة» الشهير، رسم شباب الحيّ على الأرض علم إسرائيل كي يدوسه العابرون، في واحد من أساليب التعبير القليلة، التي لا تزال تجمع السوريين، سواء كانوا موالين أو معارضين للنظام الحاكم في بلادهم.
يمتزج في المجتمع السوري إذاً خليط فسيفسائي من إسلاميين وليبراليين وشيوعيين وعروبيين ووطنيين وملحدين وتقليديين. كل فئة حاولت، على طريقتها الخاصة، التعاطي مع الأحداث السورية الأخيرة، والتعبير عن وجهة نظرها بتقلبات المشهد السياسي الأخيرة، وما أكثرها. لكن الظاهر للعيان خلال السنة الماضية، هو انحسار السجال الدائر بين فئتين: الموالية للنظام الحاكم والمعارضة له ولمجمل ما قدمه من إصلاحات وقوانين، لطالما انتظر السوريون تحققها، بمختلف انتماءاتهم الفكرية والسياسية، وحتى الدينية منها.
مع بداية الأحداث السورية، وحتى يومنا هذا، تحوّل الكلام والنقاش في آخر تطورات المشهد السياسي إلى خبز السوريين اليومي: «لا خوف بعد اليوم من تسمية الأمور بمسمياتها، بعدما كنا نخترع أسماءً رمزية، أو نوارب في أحاديثنا السياسية لسنوات طويلة»، يقول لـ«الأخبار» أحد أصحاب المحال التجارية في سوق الصالحية الدمشقي العريق. تبقى الصفة العامة للشارع السوري هذه الأيام، بروز فئة جديدة في المجتمع تتصف بالحيادية التامة في تعاطيها مع التطورات المتسارعة نتيجة الأحداث والقرارات السياسية. فإن كانت هذه الفئة موجودة أساساً قبل بداية الأحداث السورية، فقد انضمت إليها اليوم أعداد كبيرة من الموالين السابقين للنظام، الذين فقدوا إيمانهم بالوعود والإصلاحات الكثيرة التي وعدوا بها، وأيضاً أعداد أكبر من المعارضين، الذين لم يجدوا في المعارضة السورية بمختلف أطيافها السياسية والشخصية، ما يرضي طموحاتهم، بعدما كفروا بممارسات «الجيش السوري الحر»، التي لم تبتعد برأيهم عن مجمل الممارسات القمعية التي ارتكبتها بحقهم أجهزة الأمن السورية.
«طالب النظام منذ بداية الأحداث، أولئك الذين يقفون في الوسط بأن يأخذوا موقفاً واضحاً، وإلّا فإنهم الخاسرون»، يقول الناشط السوري الشاب عمرو سواح، الذي تنبه إلى واقع الفئة المعتدلة أو المحايدة منذ بداية الأحداث السورية. ويتابع: «جميعنا يذكر هتافات المتظاهرين: يلي ما بيشارك ما في ناموس. وبدورهم عاد الموالون لنظام الرئيس بشار الأسد بالهتاف نفسه مع تغيير بسيط، يصب في الهدف نفسه، وإلى اليوم يطالب الموالون والمعارضون أولئك الذين يقفون بالوسط بحسم خيارهم، في الوقت الذي يكبر فيه حجم أولئك الذين يقفون في الوسط». ويبرر سواح هذا الإقبال والاندفاع من عدد كبير من الموالين والمعارضين نحو الاعتدال أو الحياد بالقول إنه «لا يغيب عن ذهن السوريين أن الطبيعة الأمنية لمعالجة الأزمة أسهمت كثيراً في توخي الكثير من السوريين الاصطفاف إلى جانب المتظاهرين، إلا أن السبب الحقيقي وراء عدم انجرار هذه الفئة مع الثورة ليس محض خوف، بل هو تخوف من مستقبل أسهمت كل المحطات الإعلامية في تقويته».
في مدينة اللاذقية الساحلية، هناك مزيج سكاني وديموغرافي لا يختلف كثيراً عن العاصمة دمشق، وكما هي الحال مع بقية المدن والمناطق السورية، أثرت الأحداث التي شهدتها المدينة في مفهوم العلاقة مع النظام وأجهزته الأمنية المختلفة، وفي المعارضة وعلاقتها مع عسكرة الاحتجاجات.
عايشت الصحافية فرح الغاشي الكثير من أحداث مدينتها اللاذقية، وعن رأيها في فئة الأغلبية الصامتة أو الحيادية تقول: «مشكلة الفئة المسمّاة الأغلبية الصامتة والمتّهمة بالرمادية أنها تعي جيداً كذب الطرفين المتنازعين، عندما خبرت جيداً كذب النظام على مدار عقود، وحفظت فساده عن ظهر قلب واختبرت قمعه، إلا أنها صدمت بكذب المعارضة الذي فاق الحدود، وسئمت فضائحها المتتالية».
ترفض الإعلامية السورية الشابة، كما هي الحال مع الفئة الحيادية التي تتحدث عنها، محاولات المعارضة السورية في تصدير شخصياتها ورموزها «على أنهم ملائكة وأطراف بديلة لوجوه مسؤولي النظام، الذين سبب فسادهم معاناة الشعب سنوات طويلة». وأكدت أن أهم أسباب عزوف عدد كبير من المعارضين في مدينة اللاذقية عن مواقفهم السياسية السابقة «ما اتضح لاحقاً من خلال شعارات طائفية رفعتها التظاهرات وأسماء الجمع المتعاقبة، خلال العام المنصرم وفضائح قيادات المجلس الوطني وتصريحاتهم غير اللائقة». كل ذلك أدى إلى معاينة الأغلبية الصامتة لهذه الثورة عن كثب وبالتجربة، لذا فهي بقيت صامتة لم تتأثر بنداءات الطرفين.
في مدينة حلب، عاصمة سوريا الاقتصادية، التي تأخرت كثيراً حتى لحقت بركب الاحتجاجات، لم يختلف وضع الفئة الحيادية. الناشط الصحافي الدكتور نائل الحريري، وصف واقع ما سماه «التيار الثالث»، قائلاً: «كان التيار الموالي للنظام الحاكم هو الأسبق لإفراز ما أطلق عليه اسم (التيار الثالث)، وكان من المنطقي وجود شخصيات قريبة من الممارسات العامة للنظام، ومن بنيته المتشعبة المعقدة، كانت أدرى بأنّ البنية الهيكلية ليست سهلة التفكك، وأنّ المفهوم الثوري لإسقاط النظام بمعناه العاطفي المجرد، لن يكون كافياً وحده لقصم ظهر النظام، بناءً على حركة شارع مقابل شارع». وأكد أيضاً أن رفض الحوار والدخول في العملية السياسية ليس عمليةً ممنهجة، ضمن خطة مدروسة قابلة للنجاح. «من هنا ظهرت أولى بوادر بروز الآراء من قبيل: لا يقنعنا النظام، ولا تقنعنا المعارضة». ومع تطور الأحداث واستمرار الحراك الثوري عقيماً يتيماً، بدأت المعارضة الثورية تميل أكثر فأكثر نحو التطرف، «وراحت دعوات التدخل الخارجي والحماية العسكرية تردّ أنصار هذا التيار الثالث على أعقابهم إلى كنف النظام. واختفى زخم حضور التيار الثالث بسبب تمحور الشأن السوري في ذلك الوقت حول ثنائية (قبول التدخل الخارجي أو رفضه )»، سرعان ما تحولت العلاقة لاحقاً إلى حزبين متنافرين متناحرين بشأن مسألة العلاقة مع النظام السوري والمعارضة على حد سواء.
بدوره، رأى المجلس الوطني قبول التدخل الخارجي دليلاً على المعارضة، أما هيئة التنسيق الوطنية فرفضت التدخل الخارجي، واستخدم هذا ضدها كحجة، فاتهمت بالوقوف إلى جانب النظام. كذلك حمل الناشط والطبيب السوري جزءاً من مسؤولية التعتيم المتعمد على الفئة الحيادية لوسائل الأعلام المختلفة. ويقول: «تستمد الفئة الحيادية قوتها اليوم من الشارع الثائر، الذي يرفع لافتاتٍ في تظاهراته يطالب فيها بسقوط المجلس الوطني والوجوه السياسية، ويطالب فيها بإيجاد بديل يرتقي إلى حجم المسؤولية الصعبة». ويشير إلى أن التيار الثالث الموالي قد بدأ يتحرك فعلياً في إطار تقديم اعتراضاتٍ جزئية، على ممارسات السلطة وطريقة معالجتها المبتورة للحياة اليومية.
يتصاعد زخم المجموعتين إلى حد وصل فيه صوتهما إلى درجةٍ عالية مسموعة، رغم التصفية الإعلامية الشديدة من المحطات المتطرفة للموالاة والمعارضة على حد سواء. ولم يبتعد السواح عن وجهة النظر هذه، عندما حمّل وسائل الإعلام الموالية والمعارضة على حد سواء، مسؤولية التعاطي السلبي مع هذه الفئة. ويقول: «بعد عام كامل من بث قناة الدنيا والإخبارية السورية والفضائية السورية، وبث القنوات الخليجية أو المعارضة بشقيها الاسلامي أو العلماني، لم تستطع أن تجد الخطاب المناسب لتصل إلى ما تريده هذه الفئة «الأقلية الأكثرية»»، بينما حمّلت الغاشي الإعلام بمختلف توجهاته، سواء كان معارضاً أو موالياً مسؤولية اتهام هذه الفئة بالتخاذل أو السلبية؛ فـ«الأغلبية الصامتة كانت هدفاً لوسائل الإعلام التي عملت على شحن المؤيدين والمعارضين، نحو الحقد والتطرف، وهنالك عدد كبير مال نحو طرف معيّن نتيجة الشائعات وصعوبة الحصول على المعلومات وسط الكذب القائم. الآن، يجب أن يكون العمل على الأغلبية «الصامتة»، إذ إنها الشريحة التي يعوّل عليها في خلاص البلاد من تطرف الطرفين».
«واشنطن بوست»: المحبطون والتطرّف
ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن هناك أدلة متزايدة على أن «متطرفين إسلاميين» يسعون لأن يقودوا نشاطاً عسكرياً ما، يبدأ على شكل انتفاضة غير أيديولوجية في سوريا تهدف إلى تأمين قدر أكبر من الحرية السياسية، ونقلت عن ناشطين وجود خطر حقيقي بأن يدفع هذا الوضع بالمعارضين المحبطين نحو التطرّف. ونقلت الصحيفة عن ناشطين وجنود متمردين داخل سوريا أن عدداً قليلاً، لكنه متزايد، من «المتطرفين الإسلاميين» الذين ينتمون إلى حركات «جهادية» عالمية يحاولون حشد تأييد السكان الساخطين. وقال الناشطون السوريون والمسؤولون الغربيون: يبدو أن المسلحين يحرزون تقدماً بسيطاً في تجنيد أنصار لهم داخل صفوف حركة الاحتجاج، لكن الناشطين والمحللين حذروا من أنه في حال فشل خطة الأمم المتحدة، وفي حال عدم ترجمة وعود المساعدة الغربية والعربية «للجيش السوري الحر» المنشقّ الى أفعال، سيكون هناك خطر حقيقي من أن يُدفع عناصر المعارضة المحبطون باتجاه التطرّف.
( يو بي آي)
5 تعليق
التعليقات
-
بلا نحن موجودون ولم نتكلم بلا نحن موجودون ولم نتكلم خوفا على سلامة الوطن
-
الموالاة والمعارضة في سوريا: تراجع لمصلحة «الغالبية الصامتة»ليست أغلبية صامتة بل أغلبية محبطة بين نظام لن يتغير لانه سيفنى ان تغير و بين معارضة تضم اسوء أطياف الناس ( الحاقد و الاخونجي و المرتزق و المنظر و الطامع ) و جيش حر يضم ( الفاشل و العاطل عن العمل و السلفي الجاهل و المرتزقة )، و هناك الطامع بتحويل سوريا الى دار عهر لشيوخها ، اما امريكا و اسرائيل فحدث و لا حرج . الله يحميك يا بلادي يا أحلى سوريا و أغلى سوريا. الرب وحده يعرف كيف ستحل الامور .
-
لا يوجد فئة ثالثة أو صامتة فيلا يوجد فئة ثالثة أو صامتة في المجنمع السوري بين الحق والباطل فإما أن تكون مع الحق بين صفوف الثوار الذين يدافعون عن كل سوريا أو بين صفوف عصابات اللانظام الذين يدافعون عن شخص واحد أو عن مافيا متمثلة بشخص واحد لا يوجد منطقة وسطى وهؤلاء بنظري ومن خلال أصدقائي من حلب والسويداء كلهم مع تغيير النظام و ذهابه الى غير رجعة الا أنهم خائفون من التغيير ومن المجهول فمشكلتهم في التردد في الخروج كما حصل في البداية مع المناطق الثائرة وبالمنطق هؤلاء الاغلبية هم الثوار ومن يخرج هم الاستشهاديين و بمنطق اللانظام هو خسران حيث أن شعبيته تقل في حين أن الاغلبية الصامتة كما تصفون هو مكسب للثورة بحيث جعلت الكثير من أنصار اللانظام في نقصان مطرد وبالنتيجة نجحت الثورة بسحب الغطاء الشعبي الذي يدعيه اللانظام بمسيراته المسخرة المليونية والذي كان اللانظام أكبر داعم للثورة بممارساته الهمجية الطائفيةالهوجاء. فتحية للثورة و الثوار
-
شو الأخ كمان معارضة؟؟من الواضح تماماً أنّ الكاتب ليس حياديّاً في مقالته.. فإنكار أنّ معظم السّوريّين يريدون الرّئيس بشّار الأسد في الوقت الرّاهن غير واقعّي البتّة.. لماذا لاتريدون الاعتراف بانّ الإصلاحات لايمكن تحقيقها في ظلّ العنف والإرهاب وأنتم تعرفون مصدره وتعترفون به؟ لماذا تغضّون الطّرف عن أنّ جرائم المتطرّفين والإرهابيّين في سورية فاقت كلّ ما عرف عن فساد أيّ طغمة حاكمة في العالم كلّه خلال الخمسين سنة الماضية؟؟!! من قال انّ هناك مدينة فاضلة في العالم كلّه؟ ومن قال إنّ سورية كانت أكثر فساداً من عُشر الفساد اللّبناني خلال الحكم الحريري وحتّى الآن؟؟ نحتاج إلى شيء من التّحليل الواقعي لنقتنع بما تكتبون.. الدّفاع عن المعارضة يستحيل عليكم في ظلّ جرائمها، لكن لايمكنكم أن تستبدلوه بالهجوم المبطّن على القيادة السّوريّة الّتي لم تكن لتصمد حتّى الآن لولا وجود شعب يؤمن بها ويؤمن بأنّه قادر بها على الإصلاح بعد إنجاز القضاء على الإرهاب.. وهذه هي الأولويّة الآن...
-
الشعب السوري وحده يقرر مصيرهلا أعرف الطريقة التي توصل عبرها الباحث إلى أن الاكثرية في سورية تقف في الوسط خصوصاً ان حدة الاستقطاب لم تدع كثيرين في الوسط ، من الطبيعي أن يتأثر البعض بالضغط الإعلامي المكثف الذي يشبه إعصاراً هائجاً ضرب سوريا ، لكن تبقى الاكثرية في سوريا هي من حسمت الصراع رغم كل الحرب الإعلامية الشرسةورغم المال و السلاح المتدفق بكميات خيالية من دول الخليج لهدف واحد هو تحطيم سوريا، إهانة للشعب السوري ان يقال أن أكثريته واقفة صامتة تتفرج على صراع سيقرر مصير سوريا و المنطقة لعقود قادمة ، لكني سافترض أن أقلية (من جميع الطوائف) هي من وقفت إلى جانب النظام و أن الأكثرية بقيت على الحياد ، فلن يختلف هذا الوضع المفترض عن الحال في لبنان عندما وقفت أقلية من الشعب اللبناني تقاوم و وقف البعض يتفرج و آخرون وقفوا مع إسرائيل و الناتو .. اليوم الشعب السوري يخوض معركة استقلال المنطقة و ليس استقلال بلد منها عن الهيمنة الأميركية الصهيونية .