ينسى المسلحون في لحظة الجنون كل شيء. ينسون أبو عمر ودكانه. ينسون الصلاة. ينسون من يموتون جوعاً إن أقفلت دكاكينهم يومين متتاليين. ينسون «طلوع الضو». ينسون الصخب المديني وأصوات الباعة والزمامير. ينسون دموع أمهاتهم. ينسون رائحة الكعك. ينسون أعراس أخواتهم. ينسون أن بينهم وبين جيرانهم خبز وملح العرق. ينسون كم تعبوا لتشييد البناية التي يسببون دمارها اليوم. ينسون صبحيات الشرفات. ينسون فيروز. ينسى المسلحون مدارس أبنائهم ودفاترهم والأقلام الملونة. ينسون أبناءهم أنفسهم. ينسى المسلحون مجتمعهم: ها هم يديرون له ظهورهم.
وينسى العالم في لحظة الجنون نفسها أن في المدينة غير المسلحين. ثمة منازل قندهارية في المدينة؟ نعم. لكن طرابلس ليست قندهار. لا يمكنها أن تكون قندهار. لم تقو الفتاوى سابقاً، ولا السلاح على تبليعها إمارة التوحيد. اسألوا المدينة عن حركة التوحيد تخبركم أن لا مال ولا فتاوى ولا علاقات اجتماعية ولا شتى الخدمات تتيح للتوحيد أن يحلموا بكرسي نيابي واحد هنا، من الكراسي الثمانية. وضعت حركة التوحيد بجناحها المسلح الحجر الأساس لبؤس طرابلس. لا علاقة للمدينة بصفات الجهل والتخلف والتعصب، التي يلصقها بها من لا يعرفون أقله موقعها الجغرافيّ. لم يزر هؤلاء شاطئ المدينة في نهاية الأسبوع ليتعرفوا إليها: لم يندسوا وسط العشرات في «شختورة» صغيرة ليزوروا إحدى الجزر، فيُغنّوا فوق المركب «أسمر يا اسمراني» بصوت نشاز واحد مع أشخاص لم يمض خمس دقائق على لقائهم بهم، وينتبهوا، فوق المركب، إلى انشغال العشيقة بعيني عشيقها عن «الزبل» المكدس تحت أظفار قدميه، ورائحته النتنة بعد يوم عمل. لم يشتر هؤلاء بخمسمئة ليرة عرنوساً ملحته مياه البحر. لم يدبكوا مع شباب «الإيفيس» في جزيرة الأرانب على «تي رشرش» بصيغتها الطرابلسية. لم ير هؤلاء صخب الأطفال يلعبون هناك، ولا ألوان الطائرات الورقية، ولا أكوام العشاق الموزعين على صخور نصفها تحت البحر والنصف الآخر فوقه. لم يلمح هؤلاء الطلاب يتجادلون في وجود الله ومبدأ الخلافة ومنطق الزعامة في المقاهي المحيطة بكليات الجامعة اللبنانية في القبة. لم يروا الناس الطيبين في حديقة الماشية أو يسمعوهم يتحدثون.
ليس الفقر تهمة، ولا هو عار أو عيب. يمكن سوق الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت الذي يمتد في طول المدينة وعرضها أن يغير نظرة زائرها للفقر برمته. حين ترى عرس الصبية بإيجادها فستاناً في البالة بعشرة آلاف ليرة، تعرف الفقر الحلو. ثمة مدينة متصالحة مع فقرها، تأكل منه ويأكل منها. يجتهد الشاطئ ليريك أن الفقر ليس بشعاً ولا هو يخيف. يصبح الفقر حلواً حين ترى طفلة يغمرها العيد لفوزها بمئتي وخمسين ليرة تركض بها صوب بائع الترمس. وبقربها طفلة أخرى تغدو ضحكتها بحراً؛ إذ تشتري لها والدتها بمئتي وخمسين ليرة أخرى سحبة. في طرابلس ما زالوا يبيعون «السحبة». و«السحبة» سحر: هنا يفوز ببالون، وهنا بزمور، وهنا بربطة شعر. تربط بها البنت الشقراء شعرها وتتابع القفز فوق حبلتها.
لا تشرق الشمس هنا إلا على صوت فيروز، ولا تغيب من دون أبو وديع. خيّروا المدينة بين أبو وديع وابن تيمية، واشهدوا لمن ستصوت. في طرابلس مسلحون نعم، لكن فيها أطفال يلعبون ومراهقون يسكرون وعشاق يتبادلون القبل وعمال يكدحون. فيها ناس يحبون الحياة بجنون، وإلا فما الذي يبقيهم أحياءً في مدينة لا زفت فيها ولا كهرباء، لا مدينة ألعاب ولا سيرك، لا بنية تحتية ولا بنية فوقية، لا مسرح ولا مشروع سياسياً أو تنموياً؟ فيها مئات المسلحين! نعم. لكن فيها أيضاً آلاف الآلاف يشتمون المسلحين ومن يرسلهم. فيها جوامع ومعاهد دينية ومصلون (ومن ليس في مدينته كذلك فليرمِ طرابلس بحجر)، وفيها علمانيون لا يجدون دولاً عظمى أو إقليمية تبقيهم على قيد الحياة. فيها مجتمع مدني يناضل ببلاهة، مضيّعاً حماسة الناشطين بتحركات ساذجة، لأن الدول الممولة لا يعنيها نشر الديموقراطية وثقافة حل النزاعات خارج الضاحية والجنوب. فيها أيضاً مقاهٍ ونوادٍ وصالونات لا تملّ قراءة الصحف والنقاش والانحياز إلى فكرة ضد أخرى. في طرابلس مجتمع بلا صوت، يخنقه الرصاص. فوق، في المدينة التي وسختها حكومات أبنائها وبشعتها أكثر مما فعلت حكومات الصيداويين، ثمة مجتمع يريد _ من كل قلبه _ أن يعيش، لكنه لا يجد للحياة سبيلاً. ورغم ذلك يضحك، يضحك في السرِّ أكثر بكثير مما ينقّ أمام الكاميرا. هو الإعلام يحب لحية داعي الإسلام الشهال ولسان محمد كبارة والشرر في عيني عمر بكري فستق، فلا يوضح للرأي العام أن أكثر هؤلاء شعبيةً يسير خلفه في الأيام الطبيعية عشرة شبان، ولا يُعرِّف الجمهور إلى الطرابلسيين الآخرين. إلى الإيمان بالعروبة في كل نفس يتنفسه الطبيب غسان غوشة. إلى عشرات المسنين الذين ما زالوا يحجون قبل الساعة الثامنة من كل صباح إلى منزل عبد المجيد الرافعي ليسمعوه صباح الياسمين التي يعشق سماعها. خيّروا المدينة بين عمر بكري فستق وعبد المجيد الرافعي، واكتشفوا لمن ستصوت. إلى طبيب كل أطفال المدينة جوزف الرشكيدي. إلى الصبايا الناشطات في البلدية وغيرها، باحثاتٍ عما يمكنهن فعله لتغيير واقع المدينة. إلى جان عبيد الذي اقترع 31973 من أبنائها لمصلحته، ضد سعد رفيق الحريري ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وعمر كرامي والمال الغربي والسعودي والقطري والاستخبارات المصرية والتركية والأردنية وربما... السورية. إلى شعب نجيب ميقاتي الذي لا يعرف، لأنه طرابلسي، أن يكون إلا وسطياً. إلى خوريها الماركسي. وإلى عشرات النماذج من خلدون الشريف. لا بفضل المال أو الإرث العائلي أو اللقب السياسي أو اللحية المباركة أو النجومية الخطابية برز الأخير إعلامياً، بل بفضل بساطته الطرابلسية ووضوحه وابتسامته وإصراره على القول مهما ساءت الأمور إن الأوضاع بألف خير.
يجن المسلحون. يطلقون الرصاص على مدينتهم. يشوهون كل شيء. يضيقون الخناق أكثر فأكثر على مدينتهم. يدير المسلحون ظهورهم لمجتمعهم. أما السياسيون، فبعضهم مثل سعد الحريري أقلّ وعياً من المسلحين أنفسهم، فينعبون على «تويتر» بدل أن يزقزقوا. بعضهم مثل مصباح الأحدب يزايدون في المكان والزمان الخاطئين. والبعض مثل نجيب ميقاتي يثبتون أن لا شيء في العالم يمكن أن يحرك فيهم غريزة القيادة ليقودوا الرأي العام بدل التطبيل له والتزمير.
لا يعوّل في طرابلس اليوم وغداً إلا على الطرابلسيين، أولئك المسالمين البسطاء الأذكياء والمرحين. على الراقصين فوق المراكب، المتحاورين في شتى القضايا، الحاضنين للعشاق المتمسكين بصخورهم المختلطة. لا يعول في طرابلس اليوم وغداً إلا على الذين سجنوا في اليومين الماضيين في قلق منازلهم والخوف من المجهول، الذين عاشوا أو سمعوا عن التجارب المماثلة التي شهدتها المدينة سابقاً ولا يريدون أن يضيع الهناء من حياة أبنائهم كما حصل معهم، جراء جنون عشرات من أبناء المدينة يصدف أنهم مسلحون وراياتهم سوداء.