ما تشهده طرابلس بين الحين والآخر ليس معزولاً عن واقعها الاقتصادي ـــ الاجتماعي، فالمؤشّرات كلّها تدلّ على أن عاصمة الشمال ومناطق المنية والضنية وعكار هي الأكثر حرماناً في لبنان، وهذه المؤشّرات موثّقة في دراسات صادرة عن الدولة اللبنانية ومنظمات دولية ومؤسسات محلّية. وعلى الرغم من الوضوح الفائض الذي يعتري هذه الصورة، لم تتحرّك الدولة منذ نهاية الحرب حتى اليوم باتجاه دمج هذه المنطقة وتمكينها من المحافظة على حدّ أدنى من الاستقرار، بل تعامل معها بعض السياسيين باعتبارها خزّاناً للفقراء يستعيرون منه جنوداً لمعاركهم، التي، غالباً، لا يكون لها أي صلة بتحسين مستوى المعيشة وتحقيق مستوى مقبول من التنمية الضائعة.
غليان طرابلس، ليس ابن ساعته، وهو ليس نتيجة احتقان سياسي ظرفي. هو نتيجة سياسات اقتصادية همّشت المدينة وأهلها، وسط غياب الدولة عن ممارسة أبسط وظائفها. وتفرغها لخدمة «زعامات» أو «عصبيات» تمارس الاستلاب الاجتماعي والثقافي، وتكرس سيطرة فريق لا يمثل مصالح أهل المدينة.
يضم الشمال كله نحو 17 ألف مؤسسة، في مقابل 73 ألفاً في جبل لبنان، و72 ألفاً في بيروت، وفق إدارة الإحصاء المركزي. كما أن حصّة طرابلس من تسليفات المصارف للقطاع الخاص لا تتجاوز 2%، في مقابل 83% في منطقة بيروت وضواحيها. وبالتالي فإن مقولة تقليص دور الدولة لمصلحة القطاع الخاص لا تجد صداها هنا، ولا يقوم «السوق» بتأمين فرص العمل للشباب، ما يجعلهم رهائن «الحاجة»، وهو ما تبرهنه معدلات البطالة الأعلى بالمقارنة مع المناطق الأخرى، وكذلك معدّلات التسرّب الدراسي والأمية بين النساء ووفيات الأطفال وضعف شبكات الحماية الاجتماعية (الضمان الصحي تحديداً)... ليصبح عدد كبير من أبناء هذه المدينة خاضعاً لمؤسسات اجتماعية خيرية تابعة للزعامات السياسية القائمة.
تشير دراسة خريطة الفقر البشري الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الى أن محافظة الشمال تضم أعلى نسبة من الأسر الفقيرة جداً، إذ يقيم فيها نحو 30،5% من مجمل الأسر الفقيرة في لبنان، كما تحتل المرتبة الأولى لجهة الحرمان في مجالي التعليم (47.1% من الأسر المحرومة) والصحة (46.2% من الأسر المحرومة). وتحتل المرتبة الثانية في ميادين المسكن (26.3%). ووضع الأسرة الاقتصادي (65.8%). والكهرباء والماء والصرف الصحي (37.8%).
تقدّر نسبة الفقراء في طرابلس بنحو 57% من مجمل المقيمين في هذه المدينة، وهي ثاني أعلى نسبة في لبنان بعد منطقتي عكار والمنية ـــ الضنية (وفق دراسة «الفقر، النمو، واللامساواة في لبنان الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، وتقع منطقة جبل محسن ـــ التبانة في قلب بؤرة الحرمان الطرابلسية. ووفق ما تظهره الدراسة الميدانية التي أجراها «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» وأطلقها في منتصف 2011 حول الوضع المعيشي والاقتصادي في منطقة التبانة ـــ جبل محسن، حيث يظهر أن 67% من سكان هذه المنطقة يعيشون تحت خط الفقر الأعلى، و33% تحت خط الفقر الأدنى (أي الخط الذي يحدد القدرة على تأمين الحاجات الغذائية فحسب)، لا بل إن 50.4% من الأسر في هذه المنطقة تحديداً يقلّ دخلهم الشهري عن 500 ألف ليرة، و82% دون 800 ألف ليرة.
يشدد رئيس مركز البحوث والاستشارات كمال حمدان على أن محافظة الشمال عموماً ومنطقة طرابلس خصوصاً تعاني من اختلالات اقتصادية واجتماعية عميقة، إذ ترتفع معدلات الفقر الى مستويات قياسية، ويعمل سكان المدينة في قطاعات غير نظامية من دون الإفادة من شبكات الأمن الاجتماعي. ويشدد حمدان على عدم وجود رعاية اجتماعية فاعلة، في حين أن نسب التسرب المدرسي قياسية (50 في المئة وفق دراسة «الفقر، النمو، واللامساواة في لبنان»)، ما يدخلهم الى دائرة الإعالة باكراً ليتجدد واقع الفقر معهم. ويلفت حمدان الى أن هذه المشكلات موجودة في غير منطقة في الشمال. ففي دراسة حديثة أجرتها المؤسسة حول الضنية، تبيّن وجود مناطق معزولة عن الأخرى بسبب غياب شبكة النقل، وحال الطرقات غير المعبدة، وعدم وجود بنى تحتية يمكن التأسيس عليها لتطوير قطاعات اقتصادية إنتاجية... وتغلب الحيازات الزراعية الصغيرة، وجزء من المنطقة يقوم على زراعات غير بعلية، وليس هناك من وجود فعلي لمؤسسات غير زراعية...
يصف وزير العمل المستقيل شربل نحاس الواقع الاقتصادي والاجتماعي في طرابلس بالأزمة المتراكمة. ويرى أن العداء الملحوظ للنظام السوري في المنطقة ليس مستجداً، ولا مستورداً، وإنما رد فعل على دفع المنطقة الى منافسة غير متكافئة مع اقتصاد سوري يتمتع بكلفة إنتاج أدنى من تلك المتوافرة في لبنان، ما انعكس منافسة مباشرة على أبواب رزق التجار والحرفيين والصناعيين الطرابلسيين الذين يمثلون القاعدة الاقتصادية في طرابلس وعلى طول الخط الساحلي الشمالي.
ويشرح نحاس أن ما تشهده هذه المنطقة من حرمان، يعود الى سياق تاريخي من الإهمال الرسمي. فمنذ 100 عام، كان الهم الأساسي للناس هو الحصول على الطعام، وبالتالي كانت طرابلس محاطة بمناطق ريفية زراعية ناشطة. إلا أن التقدم العلمي ونمو اقتصادات الحجم، أدى الى نزوح أبناء الريف الى طرابلس، حيث تتوافر الأسواق الاستهلاكية الرئيسية، وتنمو الأعمال. وقد كانت طرابلس مركزاً أساسياً لمنطقة كبيرة تحيط بها، وتصل الى العمق السوري. بعد الاستقلال، تقلصت حدود الامتداد الاقتصادي الطرابلسي، لتنفصل خلال الحرب الأهلية عن محيطها الداخلي، لتنتهي حال طرابلس بمدينة تحوي كثافة سكانية كبيرة، في مقابل عدم استمرار الوظائف التي تبرر وجود التجمعات السكانية. واستمر هذا الوضع من دون أي إجراءات من الدولة لتنمية الاقتصاد الطرابلسي وتطويره. ومع ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وظهور زعامات معدودة وثرية جداً، تخلخلت البنية الاجتماعية والمعيشية في طرابلس، ليصبح جزء كبير منها أشبه بمخيم كبير على غرار مخيّم عين الحلوة.
يشرح نحاس خريطة طرابلس اليوم. إذ يوجد خط يمتد من مدخل المدينة ويصل الى «حي المعرض» أشبه بأحياء المناطق الثرية في بيروت، ومن ثم تأتي منطقة وسطى وهي خط تماس يسمى شارع البوليفار والميناء، أما في الشرق فتمتد المساحة الباقية من المدينة، وهي الأكبر والأكثر كثافة سكانياً، حيث يسيطر الفقر. هذه المناطق الثلاث تعدّ لافتة، إذ إن الشرخ الاجتماعي يبدو واضحاً.
وفي أبواب المعالجة، يرى نحاس أنه إذا قررت الحكومة عدم «النأي بنفسها» عن هذه الأزمة، فلا بد من البدء بإجراءات فعلية لتغيير واقع طرابلس. منها القيام باستثمارات أساسية لصهر المجتمع الطرابلسي، بحيث لا يكون لكل طبقة حيز جغرافي خاص، إضافة الى تعزيز علاقة المدينة بمحيطها. مثلاً تبعد طرابلس عن زغرتا حوالى 500 متر، إلا أن هناك طريقاً تلتف حول طرابلس لتصل الى زغرتا، إضافة الى إعادة ربط طرابلس بباقي مناطق الشمال. كذلك، لا بد من ربط أبناء طرابلس ببيروت من خلال تحقيق مشروع القطار السريع، يربط وسط طرابلس بوسط بيروت. أما الخطوة الأصعب، فهي توقيع اتفاق مع سوريا لإعادة فتح قنوات الارتباط معها اقتصادياً، وإعادة إحياء مرفأ طرابلس وربطه بالتجارة الإقليمية القائمة.



جبل محسن والتبانة... الفقر واحد

الدراسة الميدانية التي أجراها «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» والتي أطلقت في منتصف العام الماضي، عن وضع الأسر المعيشي وصحة الأم والطفل في منطقة التبانة ـــ جبل محسن في طرابلس، كانت صادمة في الأرقام، إذ فيما يقطن هذه المنطقة 47 ألف نسمة، فإن حجم القوة العاملة لا يتعدى الـ 27% من مجموع السكان، أي 12 ألفاً و690 مواطناً. يعاني حوالى 20% من الذكور و91.5% من النساء البطالة. وتوضح الدراسة أن 34% من الشباب يعملون بأجر شهري، و8% يعملون لحسابهم و53% يتقاضون أجورهم على أساس الإنتاج. في المقابل، فإن التسرب المبكر من المدرسة، وخصوصاً عند الذكور، يجعل نسبة الأميين تتجاوز 20% عند الشباب (15 ــ 29 سنة)، وهي الأعلى في لبنان. كما أظهرت الدراسة أن 9.3% من السكان يشكون من أمراض ولم يحصلوا على العلاج بسبب عدم توافر المال أو عدم توافر الاختصاص المطلوب في مستوصفات المنطقة لتأمين العلاج.