يبحث تجّار العقارات عن أهداف تحقّق لهم أرباحاً سهلة وخيالية. أبرز هذه الأهداف، هي المباني القديمة التي يسكنها مستأجرون تخضع عقودهم لقانون ما قبل عام 1992، او ما يُعرف بـاسم «قانون الإيجارات القديمة». فهذه المباني تثير اللعاب، اذ إن غالبيتها تقع في نطاق محافظة بيروت، حيث معدّلات الاستثمار مرتفعة بالمقارنة مع مناطق اخرى، وهناك ندرة في عرض العقارات غير المبنية، فضلا عن ان معظم هذه المباني قائمة في قلب العاصمة او الاحياء الاكثر حيوية حيث اسعار المتر المربع المبني ارتفعت بمعدّلات خيالية في السنوات الاخيرة، وباتت توفّر ارباحا طائلة لا تُقارن مع الكلفة البسيطة لتملّكها و«خلع» المستأجرين القدامى منها... هكذا يتحوّل عائد الاستثمار المرتفع الى محرّك رئيس في معالجة مشكلة الايجارات القديمة في دولة تحفز التجّار على المضاربة بدلاً من تقييدها!
تشير التقديرات إلى أن عدد المباني القائمة في لبنان ارتفع الى اكثر من 422 الف مبنى في نهاية عام 2011. هذه التقديرات وردت في دراسة اعدّتها نجوى يعقوب ولارا بدري وصدرت عن ادارة الاحصاء المركزي في نيسان الماضي بدعم من الاتحاد الاوروبي، وهي مبنية على تحديث لنتائج مسح المباني المنجز في نهاية عام 2004. ففي ذلك الوقت كان عدد المباني يبلغ 408515 مبنى، ما يعني ان عدد المباني ارتفع بين عامي 2004 و2011 نحو 13485 مبنى، وهذا الرقم يتطابق مع تقديرات القطاع الخاص. فبحسب رئيس جمعية منشئي وتجار الابنية إيلي صوما، يتم تشييد نحو 20 ألف شقّة جديدة سنوياً، بمعدل 10 شقق في المبنى الواحد وسطيا، أي ما يعادل 2000 مبنى سنوياً. وبالتالي فإن التقديرات تشير إلى أن عدد المباني الجديدة التي دخلت إلى السوق منذ مطلع عام 2005 إلى اليوم يصل إلى 14 ألف مبنى.
منذ سنوات، تحوّل التجار الى خارج بيروت الادارية لشراء العقارات والبناء عليها، اذ ان نسبة كبيرة من العرض تتركّز في مناطق جبل لبنان القريبة من العاصمة، في حين ان الابنية المشيّدة في بيروت باتت مخصصة لاستهداف ذوي الدخل المرتفع، ولا سيما اللبنانيين العاملين في الخارج، وهذا ساهم في زيادة هامش الارباح المحقق من تجارة الشقق في بيروت بالمقارنة مع المناطق الاخرى، وساهم بالتالي في تسعير حمّى المضاربات العقارية، ما دفع بالتجّار الى البحث عن المباني القديمة لشرائها واخلائها من القاطنين فيها وتشييد مبان جديدة محلّها، تتضمن عددا اكبر من الشقق وبمساحات اوسع.
فبحسب الدراسة المذكورة، فإن المباني التي أنشئت بعد عام 1990 لا تبلغ حصّتها سوى 21% من مجمل المباني، في حين تصل حصّة المباني التي أنشئت بين عامي 1955 و1989 إلى 57%، ويعود عمر 22% من المباني الى ما قبل عام 1955، وهذه الفئة الاخيرة هي هدف المضاربين والتجّار الذين يراهنون على مرونة واسعة في القوانين والانظمة التي تسمح بهدمها واستبدالها بحجج كثيرة، ابرزها: مبدأ الحرية شبه المطلقة في التصرّف بالاملاك العقارية الخاصة، ووجود مبان قديمة كثيرة تعاني من اختلالات بنيوية او تحتاج الى الصيانة.
تتركّز نسبة كبيرة من المباني القديمة في مدينة بيروت تحديداً. فوفق إحصاءات إدارة الإحصاء المركزي، يعود نحو 45% من المباني في مدينة بيروت الى ما قبل عام 1954، في حين ان 38% من المباني بُنيت بين عامي 1955 و1987، ويبقى 17% من المباني شيّدت بعد عام 1978 (11% منها شيّدت في عقد التسعينيات و6% بعد عام 2000).
خلال السنوات السبع الأخيرة، أي منذ آخر إحصاء شامل أجرته إدارة الإحصاء المركزي، لم تطرأ تغييرات جوهرية على هذه النسب، لكن يمكن ملاحظة أن عدد المباني القديمة يستمرّ بالتقلّص بسبب شراء هذه المباني من قبل تجار العقارات وهدمها لإنشاء مبان أكبر يمكنها أن تحقّق أرباحاً خيالية. وفي اعتقاد صوما أن «شحّ الأراضي في بيروت تحديداً، يدفع تجار العقارات إلى البحث عن المباني القديمة، لا سيما على الخط البحري الأول، ومنطقة فردان وصوفيل (الاشرفية) والحمرا... غالبية المباني هناك تشيّد محل مبان قديمة».
هذا الواقع ينسجم مع الأنباء المتداولة في السوق والتي تشير إلى أن تحرير الإيجارات القديمة من خلال مشروع قانون جديد يدرسه مجلس النواب حالياً، يهدف إلى تحقيق أهداف التجّار والمرابين العقاريين الذين يسعون إلى هذه الفرص بكل عزمهم وقوتهم السياسية والاجتماعية.
لكن ما يثير التساؤلات عن هذا الأمر، هو إلى أي مدى قد تكون هذه الفرصة كبيرة؟ ولماذا يسعى إليها التجّار الكبار؟ لا شكّ في أن تحرير العقارات القديمة قد يشمل ملايين الأمتار الجديدة القابلة للاستثمار، إذ يعتقد رئيس رابطة المهندسين الإنشائيين توفيق سنان، أن غالبية المباني التي أنشئت قبل عام 1990 هي في بيروت، ويشير إلى أن هناك عدداً كبيراً من المباني في لبنان التي تعاني من مشاكل وتحتاج إلى هدم أو أعمال تقوية أو تحسين، لا سيما في مناطق محدّدة أُنشئت فيها المباني بلا رخص أو تمّ البناء على الرغم من وجود المخالفات (بعضها جرت تسويته بعد الحرب)... ويقدّر سنان عدد المباني التي تعاني من مشاكل بنحو 10 آلاف مبنى، معظمها قديم جدّاً او جرى تشييده خلال فترة الحرب الأهلية في مناطق معيّنة. واللافت ان 40% من المباني التي تعاني من مشاكل موجودة في مدينة بيروت ويتم اشغالها بموجب عقود الايجار الخاضعة للقانون القديم المراد تغييره. وهذا يعني أنه بإمكان المالك، أن يستعيد المأجور بكلفة بسيطة، لا بل إن الكثيرين سيعمدون إلى رفع دعاوى هدم مستغلين المشاكل التي تعانيها المباني، سواء أكانت مشاكل كبيرة أو صغيرة تستدعي الهدم أو أنها صالحة للسكن بعد إجراء الصيانة اللازمة. وهذه الخطوة، أي دعوى الهدم، قد تكون سرعة تنفيذها كبيرة جداً، أي أنها أقل كلفة، لجهة الوقت، من سرعة إخلاء المستأجر بدعوى استرداد المأجور لغاية الاستعمال الشخصي، والتي قد تمتدّ إلى أكثر من 4 سنوات. كذلك سيكون التعويض الذي يحصل عليه المستأجر أقل قيمة، لأن التخمين العقاري لقيمة المسكن ستكون ضئيلة إذا تبيّن أنها تعاني من مشاكل تستدعي الهدم، أو إجراء صيانة واسعة فيها. وهذا يعني أن تعويض المستأجر سيكون بين يدي القاضي.