يجيد رئيس حكومتنا الاستماع الى محدثيه. ينصت دائماً، لكنه حين ينطق فقليلاً ما يقول بما يعتقده، او ما يفكر به، وهو خاطب منذ ايام احد القياديين الوسطاء في الثامن من آذار، قائلاً له: «انت تعلم انني لا اكذب عليك، ربما ارتكبت خطأ كبيراً في المجموعات التي حولي في الشمال، اذ ان كل عناصرها تشارك في الميدان في الاحداث»، ردا على عتب الزائر الذي قال له: «نعلم انك ضليع في الاقتصاد، وتناورنا جيداً في السياسة، اما في لعبة الامن فقد فشلت».
نجح رئيس حكومتنا نجيب ميقاتي في قيادة الحكومة خلال اقل من عام الى نزاعات داخلية لا تنتهي، بينه وبين ميشال عون، محتمياً بميشال سليمان، رئيس البلاد الذي اعتقد في لحظة استشعار بعظمة موقعه ان له دوراً، سيحجزه عبر مناكفة ميشال عون. ونجح ميقاتي في تعطيل امكانيات العمل الحكومي، وفي صيغة التفافية، راح يلعب على المسافة الفاصلة بين رئيس مجلس النواب نبيه بري وبين سليمان، حتى يتمكن هو من تقوية موقعه. ونجح الى الحد الذي لم يعد لدى الحكومة المال اللازم لشراء قهوة لزوار ميقاتي وموظفيه.
هدف ميقاتي إلى تدمير صورة حليفه ومنافسه محمد الصفدي كوزير مالية ومرشح لرئاسة حكومة، فدمر معه الموازنة والمالية العامة، كما حاول تمرير الملفات المالية للحكومات السابقة، بالتحالف مع سليمان، فوقعت البلاد في حالة من الشلل المالي والفشل الحكومي غير المسبوقين.
دمر ميقاتي حكومته، ولم يعد نبيه بري يحتمل مناوراته، واللعب على الوتر السوري في حين تشهد بلاد الشام مذبحة يومية قد تمتد الى لبنان في اية لحظة.
لن يتمكن كاتب من ايفاء ميقاتي حقه، وهو يستند في ممارسته الحكم الى ان لا بديل له، وهو سيخوض الانتخابات النيابية مع علمه مسبقاً بأنه رئيس حكومة المجلس النيابي المقبل، لأنه بكل بساطة يوفي الغرب حقه في الصدق والالتزام بمطالبه، ويعطي السعودية ويخدم مصالح قوى 14 آذار بكل جوارحه. بينما تبين ان سلفه سعد الحريري غير قادر على التعامل اللائق مع حلفائه قبل اخصامه، ودفع بأخصامه الى كسر التوازن الهش واقالته.
يعلم ميقاتي بأنه مع تحول الشمال الى ضاحية شمالية، كمثل ما كانت عليه صورة الضاحية الجنوبية في الاعوام الممتدة ما بين نهاية الحرب الاهلية والعام 2006، فإنه يحقق اقصى مراد للثائرين على النظام السوري في لبنان، وان الضاحية الشمالية ستكون موطئ قدم لكل عابر سبيل يرغب في الدخول الى سوريا، فينجح او يفشل، ويرتدي القناع ويسير في عاصمة شمال لبنان ومسقط رأس رئيس الحكومة، بانتظار السماح له بالاستشهاد في مكان ما من بلاد الشام، سواء في حمص او في طرابلس الشام، فيسقط دمه في رصيد نجيب السياسي، ويكفيه الله شر الترداد على التلفزة «انا السني الاول»، اذ يصبح فعلاً وقولاً السني الاول في بلاد تتناتشها ضاحيتان، واحدة لحزب الله، والاخرى لمن رفض ميقاتي إقالتهم من المديرين العامين الامنيين، ومن مسؤولي تيار المستقبل.
اليوم يفترض بميقاتي، لو كان يهتم بصورته الشخصية كمسؤول سياسي، او بأهل طرابلس ومصيرها ، لكان استقال، وهو يعلم مسبقاً انه سيعود بحكومة اخرى. يمكنها التعامل مع الواقع السياسي والامني القائم، وربما بتركيبة سياسية اوسع من الحالية، وبمحاولة اخيرة لتجنيب البلاد الدخول في مجزرة دموية على خلفية الثورة في سوريا، وفي عملية اعادة ترميم ما بقي من النظام بعد ان سمح هو بتدمير آخر جدار في بناء الدولة اللبنانية الا وهو الجدار الامني المتداعي اصلا.
ربما على ميقاتي ان يمضي بضعة ايام في الضاحية الشمالية، التي ستكون كل الوقت في نزاع مع الجارة سوريا ومع نفسها ومع ابنائها، وعلى وقع ازيز الرصاص واصوات قذائف الهاون، ويقدم لنا استقالته من منزله في شارع المعرض، قبل ان يعود لتشكيل حكومة اخرى، يخفف فيها من عمليات الادارة السياسية، علّ وعسى لا نضطر كل مرة الى لمّ اشلاء البلاد بعد حكومات نجيب ميقاتي.
استقل يا نجيب حتى يبقى من البلاد شيء تعود مرة اخرى لتحكمه.