قوى 14 آذار في حيرة من أمرها. كما هي حالها عند كل استحقاق، تقع هذه القوى في «مصيبة» تعدّد الآراء والنظريات والقراءات. ميزتا التنوّع والتعددية اللتان يتغنّى بهما «ثوار الأرز»، تفقدان هذا الفريق بوصلته. أحداث طرابلس كفيلة بترجمة هذا الأمر: قسم يؤكد أنّ له يداً بما حصل، وقسم آخر ينفي أي علاقة للمعارضة، باعتبار أنّ 14 آذار ومنطق السلاح لا يتماشيان. فريق معارض يرى في هذه الأحداث افتعالاً سورياً لزعزعة الأمن وتوجيه الرسائل، وفريق يحصر الموضوع في إطار الاحتقان الحاصل منذ 2008، وفريق ثالث يتبنّاه للدعوة إلى فكرة «توازن السلاح».
ورغم اختلاف توجهاتهم واختلاف وجهات النظر، يصل المعارضون إلى خلاصة واحدة: لسنا في موقع المسؤولية، على الحكومة تحمّل مسؤولياتها، على ميقاتي حلّ الأزمة أو فليرحل.
أحد أصحاب الرؤوس الباردة في 14 آذار حافظ على هدوئه، رغم أنّ أزمة باب التبانة _ جبل محسن تعنيه سياسياً، لكونه من مستشاري الرئيس سعد الحريري، وتعنيه في الجغرافيا لكونه ابن الشمال. رغم كل هذه الأرضية التي تخوّله أن يوظف أحداث طرابلس في السياسة، لا يتردّد المسؤول بالقول: «الاحتقان سبّب ما حصل». يبتعد الرجل عن كل ما أشاعته شخصيات 14 آذار من «قرارات بالتفجير» و«مؤامرات» و«بحث عن فتنة»، ويؤكد أنّه «لو كانت الأحداث مفتعلة ومنظّمة لما تمكّنت الأجهزة الأمنية من السيطرة عليها في غضون يومين أو ثلاثة». يضيف: «إنّ المجموعات المسلحة في باب التبانة ليس لديها هيكلية عسكرية، وبالتالي يصعب إدارتها سياسياً، ولو أنّ ثمة من أغرقها بالمال ووفّر لها الدعم، لكن ليس بإمكان هذه الرعاية أن تسيطر على المجموعات وتدفعها إلى الاشتباك مع طرف آخر». في المقلب الآخر، أي في جبل محسن، «المشكلة هي مع آل عيد، رفعت وعلي عيد، وباقي المواطنين والسكان في الجبل لا دخل لهم».
يؤكد المسؤول الشمالي أنّ الأزمة انتهت، وبقي منها الذيول. عودة الاشتباكات بعد ظهر أمس «ليست إلا رسائل أراد آل عيد توجيهها إلى الوزير مروان شربل». كيف ذلك؟ المقصود: «أراد علي عيد أن يزوره الوزير شربل ويقف عند خاطره».
الأزمة انتهت بحسب المقرب من الحريري، «والتسوية التي حصلت بإعادة التحقيق مع شادي المولوي رضي بها أهالي باب التبانة». والأهم من ذلك قوله إنّ «المطلوب كان مخرجاً يعيد الاعتبار لهؤلاء الأهالي، وتحديداً على الصعيد المعنوي».
لكن هناك نماذج أخرى في 14 آذار. نماذج «تخريبية» تدعم نظرية «قيام توازن السلاح». هؤلاء بدأوا بالانقراض يوم أمس؛ إذ أقنعتهم قيادات سياسية وشعبية وأمنية بعدم صوابية خيارهم، فتراجعوا عن كل الأفكار التي سوّقوا لها في اليومين الماضيين، وهي أفكار يمكن عنونتها بالشكل الآتي: «نحن هنا، ندافع عن طائفتنا وأبنائها».
مع اشتعال أحداث الشمال، جلست مجموعة من الطامحين في تيار المستقبل وخارجه، وصاغت «بالورقة والقلم» مشروعاً طويل الأمد لـ«تحقيق توازن أمني وعسكري ميداني مع فريق 8 آذار». قدّموا أفكارهم على الشكل الآتي: «ثمة ورقة يجب العمل على تطويرها للاستفادة منها: ورقة السلاح». وترجموها على النحو الآتي: ضاحية شمالية مقابل ضاحية جنوبية، سلاح في الشارع مقابل سلاح في الشارع، مناطق جغرافية مستهدفة في محيطي الضاحيتين، وهكذا دواليك.
حمل جزء من 14 آذار هذا المشروع ودار فيه على المجالس، مبشراً بهذا الطرح، وقد خلصوا إلى أنّ بالإمكان «المساومة بين هذا السلاح وسلاح حزب الله».
وجد الطامحون حلاً للخلاص من سلاح حزب الله. لكن سرعان ما اصطدموا بواقعية الفريق السياسي، أي أغلبية تيار المستقبل و14 آذار. لم يتأخر هذا الفريق في لجم أفكار الطامحين، وبادر إلى إدانة العنف، داعياً الجيش إلى التدخّل وحلّ النزاع.
الجهات التي تحدثت علناً في فريق المعارضة قرأت أحداث طرابلس من زاوية مغايرة تماماً، ولم تتأخر في تحميل النظام في سوريا مسؤوليتها.
وثمة في 14 آذار من يرى أنّ لهذه الأحداث أسباباً سلطوية بحتة. أصحاب هذا الرأي يقولون إنّ «الأحداث مناورة واضحة يقوم فيها فريق 8 آذار لإحراج (الرئيس نجيب) ميقاتي»، باعتبار أنّ المقصود منها دفعه إلى أزمة مع أهله في طرابلس وخصوصاً الأطراف السلفية، بغية حشره. لذلك يعود ويسلّم كل أوراقه لحزب الله و8 آذار. يتابع هؤلاء قراءتهم بالإشارة إلى أزمة النائبين وليد جنبلاط وميشال عون، حيث «دفع حزب الله عون إلى الهجوم على جنبلاط، لدفعه إلى العودة الكاملة إلى كنف 8 آذار».
هل يمكن توحيد كل هذه القراءات والأفكار بوثيقة واحدة؟ 14 آذار يمكنها أن تفعل.